“كما يحوي المُؤلَف كمًا هائلًا من العبارات الجنسية الصريحة المتدنية والقميئة والداعية إلى الفجور والفسق وإشاعة الفاحشة وازدراء الأديان والعديد من الجرائم المُعاقَب عليها طبقًا لنصوص قانون العقوبات“.1
قد يعتقد البعض لأول وهلة أن هذه الكلمات هي نص الاتهام في البلاغ المُقدَّم بحق الكاتب الشاب، أحمد ناجي، والذي أُحيل على إثره للمحاكمة مؤخرًا، ولكن حقيقة الأمر أنها مقتبسة من نص بلاغ جماعة “محامون بلا قيود” للنائب العام للمطالبة بمصادرة رواية “ألف ليلة وليلة“، بعدما قامت هيئة قصور الثقافة بإعادة طبعها ضمن سلسلة “الذخائر” مطلع العام 2010م. تلك الرواية التي صدرت مُنذ ما يُقارب القرنين وتُعد من روائع التراث الأدبي العربي. الأمر لم يختلف كثيرًا، ففي الواقع اتهامات شبيهة كانت وراء إحالة ناجي لمحكمة الجنح بدعوى نشر مقال يُحرِّض المواطنين على الرذيلة ويخدش الحياء العام و ينتهك الآداب العامة، حسبما ذكر أ.هاني صالح توفيق –مُقدِّم البلاغ– في محضر الشرطة الذي اتهم فيه إلى جانب “ناجي” رئيس تحرير جريدة “أخبار الأدب“، طارق الطاهر، بتهمة التقصير والسماح بنشر محتوى منافٍ للآداب العامة.
إن هذا التشابه ليس حصرًا على هاتين الحالتين، ولكن نستطيع القول بأنه سمة عامة كانت ولا زالت تطارد المبدعين والمفكرين المصريين، ذلك الوعي الراسخ بثقافة الدولة المصرية الذي يرى في مُثلث الخطر (الدين، الجنس، السياسة) قُدس أعلى من الدساتير والقوانين والمجتمع، تلك الثقافة الزاعمة بأن الدولة هي راعي الأخلاق والآداب العامة لم تستطِع الثورة أن تقترب منها. قبل انتفاضة يناير 2011 وخلال خمس سنوات تلت حَمَلت معها العديد من الأنظمة والحكومات اختلفت في التوجهات الأيديولوجية والمصالح السياسية ولكنهم اتفقوا على الحفاظ على جوهر الدولة القديمة بكل ما تحمله من قيم الجهل ورفض الإبداع ومكافحة المبدعين، ولم يُلقِ أيًا منها بالًا لضرورة إصلاح وتطوير البنية التشريعية والتنفيذية لضمان احترام الدستور ودولة القانون.
السمات المشتركة بين رواية “استخدام الحياة” لـ “ناجي” و الجدل الذي أُثير حول إعادة طبع رواية “ألف ليلة و ليلة” كثيرة، وتحمل في أوجه مختلفة منها تجسيد للواقع البائس لحرية الإبداع في مصر؛
السمة الأول: حرية الإبداع بين دستور النوايا الحسنة وأبواب القانون الخلفية
نصَّ الدستور المصري (2014م) في مادته (67) على أن:
“حرية الإبداع الفني والأدبي مكفولة، وتلتزم الدولة بالنهوض بالفنون والآداب، ورعاية المبدعين وحماية إبداعاتهم، وتوفير وسائل التشجيع اللازمة لذلك.”
“لا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة، ولا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب بسبب علانية المنتج الفني أو الأدبي أو الفكري، أما الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو التمييز بين المواطنين أو الطعن في أعراض الأفراد، فيحدد القانون عقوبتها. ..”
وهو الحق الذي كَفَله دستور 1971 –أيضًا– في مادته (45)
إلا أنه يبدو أن تصريح الرئيس، عبد الفتاح السيسي، بأن الدستور كُتِب بالنوايا الحسنة، يُمثِّل انعكاس عن توجه و رؤية القيادة السياسية و مؤسسات الدولة للوثيقة الدستورية، و هو ما جعل الدستور محل انتهاك مستمر من مختلف السلطات تحت مسميات حماية الدولة المصرية من أخطار الإرهاب، فيما يُمثل عصفًا بقدر مهم من حقوق وحريات المواطنين الأساسية بشكل تعسُفي و غير مبرر.
إن النص الخاص بحرية الإبداع في الدستور جاء حاسمًا و واضحًا و لا يحتاج لأكثر من تفسير، حيث جعل الحق في حرية الإبداع مُطلقًا، و لم يترك أمر تنظيمه للقانون، حتى أنه حصر الحالات التي يخرج فيها العمل من نطاق الإبداع كالتحريض على العنف و التمييز بين المواطنين. فالحقوق والحريات الدستورية تنقسم إلى نوعين .. الأول؛ حقوق وحريات دستورية أحال الدستور تنظيمها إلى المُشرِّع القانوني، و نرى ذلك في النصوص الدستورية التي تنتهي عادةً بعبارات من قبيل (”في حدود القانون” أو ”وفقًا لأحكام القانون” أو ”وفقًا للقانون” أو ”إلا في الأحوال المبينة في القانون” وهي عبارات تفصح عن رغبة الدستور في إحالة تنظيم ممارسة هذه الحريات إلى المُشرِّع .
أما النوع الثاني من الحقوق والحريات الدستورية فهي غير قابلة للتنظيم التشريعي بشكل مطلق ومثال ذلك ( حرية الإبداع ) فنص المادة (67) من الدستور لم يُحيل تنظيم ممارسة المواطنين لحرية الإبداع إلى القانون، وهو من النصوص الدستورية التي نظمها الدستور تنظيمًا نهائيًا. وهي تلك الحريات التي لا يجوز لأي سلطة في الدولة أن تنظمها على خلاف مقتضى النص الدستوري المقرر لها، بما في ذلك سلطة البرلمان ذاته وهي تلك الحريات التي لم تُقرن بعبارة في حدود القانون أو وفقًا للقانون.
إذن فالدستور المصري جاء كافلًا لحرية الإبداع و التعبير الفني بشكل كبير، متوافقًا مع المعايير الدولية في حماية الحق دستوريًا، إلا أن القوانين تعود من الأبواب الخلفية لتكون أداة السلطة لتضييق الخناق على الحق و تقييده تحت دعاوى مختلفة، فعلى سبيل المثال جاء نص المادة (178) –التي تُعد أكثر مواد قانون العقوبات استخدامًا في تقديم المبدعين للمحاكمة إلى جانب المادة (98 ، و) المتعلقة بازدراء الأديان:
“يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه ولا تزيد على عشرة آلاف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من نشر أو صنع أو حاز بقصد الاتجار أو التوزيع أو الإيجار أو اللصق أو العرض مطبوعات أو مخطوطات أو رسومات أو إعلانات أو صورًا محفورة أو منقوشة أو رسومًا يدوية أو فوتوغرافية أو إشارات رمزية أو غير ذلك من الأشياء أو الصور عامة إذا كانت خادشة للحياء العام.”2
ليترك بذلك المُشرِّع الباب مفتوحًا لكل من يرغب في تفسير عبارة “خدش الحياء العام” كيفما شاء، دون أي ضوابط أو محددات لما هو “الحياء العام؟” ، و ماذا يعني “خدشُه“؟ .. فمن الطبيعي أن تختلف الألفاظ باختلاف الزمان والمكان في معانيها و دلالاتها، فما هو المعيار و ما هي الألفاظ على سبيل الحصر التي تندرج تحت العبارات التي إن شملتها المطبوعة تُعتبر خادشة للحياء العام؟. هذا السؤال عجز النص عن إيضاحه مما خلق مجالًا لإطلاق مُخيلة الشاكي في تقديره لما خُدش فيه حياؤه، وهو ما تعكسه وقائع قضية “ناجي” –مثلًا– خاصة بعد تأكيد النيابة على أهمية الشكوى بإحالتها للمحكمة و من قبلها استدعاء المُبدع ليقف كمتهم أمام سلطة تُحرك الدعوى الجنائية تتهمه بالخروج على المألوف. و هو الأمر واسع الاستخدام في عدد من النصوص في القوانين المصرية، حيث نجد مصطلحات مثل “السلم العام” و “السلام المجتمعي” و “ازدراء الأديان” تتسم في أغلبها بأنها قابلة للتفسير و التأويل و تتسم بالمطاطية و الغموض.
وهو الأمر الذي أكدته المحكمة الدستورية العليا؛ أن ” النصوص العقابية يجب أن يكون تحديدها للأفعال التي أدخلها المشرع في مجال التجريم جليًا قاطعًا بما مؤداه أن تعريفًا قانونيًا بالجريمة محدد لعناصرها يكون لازمًا فلا يجوز القياس عليه لإلحاق غيرها بها باعتبار أن الشرعية الجنائية مناطها تلك الأفعال التي أثمها المشرع من منظور اجتماعي فلا تمتد نواهيها لغيرها ولو كان إتيانها يثير اضطرابًا عامًا أو كان مضمونها فجًا عابثًا“.3
السمة الثانية؛ أحكام متناقضة و تمييزية انعكاس للانفلات التشريعي
كما أوضحنا سالفًا؛ ترك المُشرِّع الباب مفتوحًا على مصراعيه للفهم و التأويل المختلف لعبارة “خدش الحياء العام“، وهو ما أوجد أحكامًا عديدة تتسم بالتناقض، بعضها ينصف حرية الإبداع و التعبير الفني و يرفع القيود عنها، ليُحررها حتى تتمكن من تأدية دورها التنويري في المجتمع. و البعض الآخر يُجرِّمها إذا ما تعارضت مع رؤيته الشخصية للدين أو الآداب و الأخلاق العامة. ذلك إلى جانب بروز تصرفات تمييزية لجهات التحقيق و التقاضي تعتمد على “شخص المتهم“، “الوزن العام للقضية إعلاميًا و مجتمعيًا“، و “طبيعة العلاقة بين السلطة القضائية و السلطة السياسية وقت نظر القضية“.
فعلى سبيل المثال؛ حفظت النيابة العامة التحقيقات بشأن البلاغ الذي تقدَّم به مجموعة “محامون بلا قيود” للمطالبة بمصادرة أعداد رواية “ألف ليلة و ليلة“، و قالت في بيانٍ لها –آنذاك– أن:
“المؤلَف صدر منذ ما يقارب من قرنين وأعيدت طباعته مرارًا وبقي متداولًا ولم تعترض الرقابة على الطباعة “لأنه” من كتب التراث ويبعد كل البعد عن فكرة انتهاك حرمة الأخلاق بل أنه من الأدب الشعبي ومكون أصيل من مكونات الثقافة العامة“.
ذلك في الوقت الذي حرّكَت فيه النيابة العامة الدعوى بحق الكاتب الشاب “أحمد ناجي” على نفس الاتهامات، رغم أن الرواية صدرت للمرة الأولى في عام 2014 من خلال دار “التنوير” للنشر، و طُبعَت ببيروت، و حملت رقم إيداع و تم توزيعها في مصر، ولم تصادرها أو تُوقِف نشرها جهات الرقابة المختصة. و لعل قدر الفضيحة التي كانت ستلاحق الدولة المصرية في حالة مصادرة و منع تداول مؤلَف “ألف ليلة و ليلة” كانت السبب الأهم وراء حفظ التحقيقات بشأنها، بينما كان “ناجي” ذلك الكاتب –المجهول– لعموم الناس فريسة للحفاظ على ما يدَّعون أنه آداب عامة.
في نفس السياق، أصدر المستشار، أحمد سميح الريحاني، رئيس محكمة العجوزة الجزئية، حكمه في 26 أبريل 2012، في القضية رقم 529 لسنة 2012 جنح العجوزة، و المتهم فيها الفنان، عادل إمام، بتحقير و ازدراء الدين الإسلامي و قصد إثارة الفتنة، عن مُجمَل أعماله الفنية، حيث أفرد لمتن الحكم أكثر من ألف كلمة دفاعًا عن حرية التعبير و الاعتقاد و الإبداع، جاء منها:
“والعمل الفني فيلمًا كان أومسلسلًا أو مسرحًا، عادة ما يبدأ بعمل أدبي، قصة أو رواية أو مسرحية ومن المعلوم للعالمين أن المدارس الأدبية العالمية قد تطورت واختلفت بتطور البشرية وما أحاط بها من ظروف اجتماعية ودينية واقتصادية وثقافية مختلفة عبر العصور، فكان الملاحظ مخالفة كل مدرسة للمدرسة اللاحقة عليها اختلاف التناقض، ومن ثم تغير تعريف الهدف من وراء الأدب ووظيفته، حتى أن النقاد والدارسين قد اتفقوا على أن ذلك من الأمور الخلافية. وفي المدرسة الأدبية التي نعايشها الآن وهي “ما بعد الحداثة” نجد أن المتفق عليه هو عدم وجود قواعد للعمل الأدبي، ومن ثم أصبح العمل الأدبي عالميًا ليس له ثمة علاقة بإعطاء الدروس عن إظهار محاسن الأخلاق الحميدة أو تقديم السلبيات، كما طالب أفلاطون من أن يكون الأدب مقدمًا للمثل الطيبة والقدرة الحسنة، وهو الأمر الذي عارضه فيه أرسطو. وما على الأدب حاليًا أن يقدم الحقيقة والواقع كما كان إبان المدرسة الواقعية (Realism)”.
لم يكن هذا الحكم – و فقط– وليد يقين لدى المؤسسة القضائية في فهم و تفسير دور “حرية التعبير و الاعتقاد و الإبداع” في إثراء المجتمع و الارتقاء بثقافته و توسيع مداركه و فتح نقاشات جدية و جدلية حول كثير من المواضيع الخلافية أو ما يعتبره المجتمع خطوطًا حمراء لا يحق لأحد تناولها إلا من خلال الفهم التقليدي السائد مجتمعيًا، ولكن شكّل مواقفها إلى جانب ذلك عاملين مهمين، الأول؛ يتعلق بشخص الفنان “عادل إمام” و ما يحمله من شهرة واسعة و تاريخ طويل و أعمال ساهمت في تشكيل وجدان و وعي قطاعات من المجتمع، و بالتالي لم يكن تجريم مجمل أعماله الفنية بدعوى ازدراء الدين الإسلامي أمرًا سهلًا. أما العامل الثاني؛ فيتمثل في التوتر الشديد الذي أصاب العلاقة بين السلطة السياسية و قطاع واسع و مؤثر داخل المؤسسة القضائية فترة حكم جماعة الإخوان المسلمين، و لا سيّما بعد تعيين نائب عام جديد بقرار من السلطة السياسية دون موافقة جموع القضاة. و هو ما دفع القاضي في متن حكمه لإفراد موقفه من النظام السياسي القائم، فيقول:
“ولا زالت البلاد تحت الحكم المستبد ومن بعد خلافة الخلفاء الراشدين وحتى الآن –إلا عن استثناءات فردية– فنجد في هذا العصر القريب ملكًا يريد الخلافة ، ورئيسًا للدولة يطلق على نفسه الرئيس المؤمن ولا أوضح من ذلك مما حدث ويحدث الآن من استخدام الخطاب الديني لتوجيه الجمهور لمآرب سياسية لا صلة لها بالدين، ومن ثم فلا غريب إبان ثورة يناير خروج فتاوى تحريم الخروج على الحاكم وتحريم الديمقراطية بدعوى أن الحياة الحزبية هي فرقة للأمة التي لا يجب أن يكون فيها إلا حزب واحد هو حزب الله، إذ تجد صداها الواسع يتردد في كتب التراث الفقهي وفي كتب التاريخ وبالثورة العرابية فهذا التيار هو الذي يملك الصدارة. وله احتكار المشهد من الخطاب الديني المعاصر“.
على العكس من حفظ التحقيقات بشأن مصادرة رواية “ألف ليلة و ليلة“، و الحكم بتبرئة عادل إمام من تهمة ازدراء الأديان، جاء الحُكم الذي أصدرته محكمة جنح مستأنف قصر النيل، في 3 فبراير 2010، بتأييد حكم محكمة جنح قصر النيل بتغريم كل من مجدي الشافعي مؤلف رواية “مترو“4 ومحمد الشرقاوي صاحب دار ملامح للنشر والتي قامت بنشر الرواية، بمبلغ وقدره 5 آلاف جنيها مصريًا ومصادرة النسخ المضبوطة من الرواية بدعوى أنها “خادشة للحياء العام“. وذلك لاحتوائها –حسب النيابة العامة– على ألفاظ و صور تُخِل بالآداب العامة و تُحرِّض على الرذيلة.
هذا التمييز الفج أمثلته كثيرة، و منبعه في الحقيقة محاولة سجن حرية الإبداع بين جدران مُقدسات و تابوهات مجتمعية بالية، و لكن تتدخل –أيضًا– الرؤى و وجهات النظر الشخصية لجهات التحقيق و التقاضي المختلفة (نيابة/قضاء)، و شخصية المتهم، و وزن القضية في تقييم العمل الإبداعي و ليس –فقط– نصّ العمل الإبداعي.
و لا يفوتنا التأكيد على أن العبارات التي رأتها النيابة العامة خادشة للحياء و مُنتهِكة للآداب العامة و قررت إحالة “ناجي” للمحاكمة على إثرها، و الحكم على مؤلف وناشر رواية “مترو” بالغرامة، هي نفسها التي حفظت النيابة العامة التحقيقات بشأن إخلالها بالآداب العامة في رواية “ألف ليلة و ليلة“. إن هذا الأداء المتناقض و التمييزي لجهات التحقيق و التقاضي إنما منبعه هو التضارب و التناقض التشريعي الذي يضرب التشريعات المصرية، و الذي يمنح الحق لكل شخص بأن يُقيِّم العمل الإبداعي، و يُقدِم أصحابه للمحاكمة. حتى أصبحت ساحات المحاكم هي مناط نقد العمل الإبداعي و ليس صفحات الجرائد و الفضاء العام المجتمعي.
و تشير تلك الأمثلة السابقة، إلى معدل التدخل الرقابي، في عملية الفكر والإبداع، داخل المجتمع المصري، ويساند هذه التوجهات المعادية، لحرية الفكر والإبداع، نصوص تشريعية سيئة السمعة، تمتلئ بها القوانين المصرية، إضافة إلى الخلط الكامن في عقول القائمين على المؤسسات الرقابية، سواء كانت إدارية أو قضائية، بين قناعتهم الشخصية، وبين تطبيق المدلول الدستوري المطلق، لحرية الفكر والإبداع، وهو ما يضع على عاتق الجهات المدافعة، عن حرية الفكر والإبداع، وعلى رأسها المفكرين والمبدعين، واتحاد الكتاب ، والمنظمات الحقوقية، مهمة التصدي لهذه الهجمة، التي تنتقص من قيمة الحرية بمعناها العام.
السمة الثالثة؛ كيف ترى الدولة في مصر الحق في حرية الإبداع
أعرب الرئيس عبد الفتاح السيسي، في أكثر من لقاء له، عن موقفه من أوضاع الفنون و الآداب في مصر، حيث لم يكتفِ بتقديم النصيحة حول ضرورة الارتقاء بالفنون و دورها المجتمعي، بل تخطى الأمر ذلك لشكل من أشكال الوصاية على ما يُقدَّم في مصر من فنون. حيث قال الرئيس في خطابه بمناسبة “عيد الشرطة” مُختصًّا الفنانين “أحمد السقا، يسرا” بكلامه “و الله هتتحاسبوا على ده” مُشيرًا إلى دور الأفلام و المسلسلات و التليفزيون في “تحسين” قيم وأخلاق المجتمع المصري –بحسب وصفه–، و إعطاء الأمل. كان ذلك اللقاء قبيل شهر رمضان، و الذي يشتهر بكونه موسم للأعمال الفنية، ما بين أفلام و مسلسلات ..الخ. وأوضح الرئيس في حواره مع رؤساء تحرير الأهرام والأخبار والجمهورية، أنه يتمنى “أن يعود الفن المصري لمستواه، ولقد قلت هذا للأدباء في لقائي معهم، أرجو أن يأتي شكل مصر في مسلسلات رمضان مختلفًا، وأن يزداد إنتاج الأفلام الجيدة، أنا مع دعم الفن، والذوق المصري غير راض عن كل ما يقدم، والحديث عن تراجع الذوق المصري لتبرير هبوط مستوى بعض الأعمال الفنية كلام غير صحيح“. و لكن لم يوضح الرئيس و لم يوجِّه الجهات المعنية لتفسير مقصوده بـ “تحسين قيم و أخلاق المجتمع” و هل هذا يعني التعدي على حرية الإبداع بدعوى الحفاظ على الأخلاق و القيم العامة للمجتمع أم لا؟، و ما هو المقصود –أيضًا– ب “الأفلام الجيدة“؟، ثم أن الرئيس أشار إلى أن “الذوق المصري غير راضِ عن كل ما يُقدَّم” و كأنه حارس للذوق المصري.
و لعل أبرز ما يؤكد ذلك، حديثه عقِب انتهاء شهر رمضان، و الذي عبَّر فيه عن استياءه من الدراما الرمضانية، نظرًا لتناولها سلبيات المجتمع من تجارة المخدرات والسحر والدجل والعلاقات المُحرَّمة. فلاش باك (الدين، الجنس، السياسة). إن هذا المشهد يعكس طبيعة وعي القيادة السياسية لقضية حرية الإبداع و التعبير الفني و مفهومها و دورها المجتمعي. ولعل ذلك هو من أهم أسباب الواقع الذي وصل له حال حرية الإبداع في مصر.
إن تلك التصريحات الرئاسية بشأن الفنون و الإبداع و خاصةً إذا وُضِعناها جنبًا إلى جنب مع حقيقة أن سلطة تحريك الدعوى الجنائية بعد إقرار دستور (2014م) اقتصرت على جهة واحدة و هي النيابة العامة، و هو التطور الذي حمله دستور (2014م) عن سابقيه، حيث حمى المبدعين من الزج بهم إلى ساحات المحاكم على إثر أي جنحة مباشرة يرفعها أي مُدّعٍ يتهم العمل الإبداعي بخدش الحياء العام أو ازدراء الأديان. و لكن لجنة الخمسين المنوطة بإعداد مسودة دستور 2014 لم تنجح –آنذاك– أن تجعل مناط نقد العمل الإبداعي هو النقاش العام في الفضاء المجتمعي، و مقابلة الفكر بالفكر و الرأي بالرأي، و تركت مسمار جحا ليُأرِق جماعة المبدعين من خلال منح النيابة العامة سُلطة إحالة المُبدع لتقييم عمله الفني بغرف التحقيق و ساحات المحاكم. و بنظرة سريعة على مُعدَّل و طبيعة و منهجية الانتهاكات خلال السنوات الماضية بحق حرية الإبداع، و قد توالت الأنظمة السياسية و الحكومات التنفيذية على إدارة الدولة، يُصبِح المشهد أكثر وضوحًا، هناك ثقافة عامة محافظة و رجعية تتحكم في العقل الجمعي لجهاز الدولة المصرية، مُتخطية الأيديولوجيا، و دعمتها حالة التضارب و الفوضى التشريعية، ثقافة عنوانها “الدولة راعي الدين و الأخلاق و الآداب العامة“. هذه الثقافة الموروثة من فترة الستينيات و التي شهدت سيطرة يد الدولة على مختلف مجالات حياة المواطنين لم تعُد صالحة منذ أن أصبحت نوافذ العالم مفتوحة للبشر و تطورت وسائل التواصل والاتصال و تداخلت الثقافات.
إن مواجهة هذه الثقافة لن تتأتى إلا في ظل إرادة و رغبة سياسية حقيقية مدعومة بظهير و انحياز شعبي لإعادة تحديد دور الدولة و مسئولياتها. بشكل لا ينفصل عن إصلاح هيكلي و تشريعي للخروج من النفق المُظلم. فالمُبدعون في مصر اليوم أسرى كافة أشكال الرقابة؛ رقابة ذاتية/سابقة و رقابة مجتمعية/لاحقة، هذا إلى جانب التدخلات الفجّة من قبل مؤسسات و أجهزة مختلفة في الدولة في عملية الرقابة على الفنون والإبداع بالمخالفة للقانون، في ظل غياب للدور المنوط بأجهزة الرقابة المخوَّلة قانونًا و تجاهله أو تهميشه في أوقات أخرى، حتى أنه على مستوى عمليات التحقيق و التقاضي لا يوجد هناك ما يُلزِم هذه الجهات بتشكيل لجان فنية مُختّصة من الجهات الرقابية ذات الصلة لتقييم العمل الإبداعي قبل تحريك الدعوى و إحالة المُبدِع للمحكمة. فلم تشهد وقائع الحكم على كاتب و ناشر رواية “مترو“، و لا وقائع التحقيق مع ناجي و إحالته لمحكمة الجنح باتهامات تتعلق بخدش الحياء العام و التحريض على الرذيلة، أية طلبات من هيئة المحكمة أو النيابة العامة بتشكيل أي لجان فنية متخصصة من الجهات الرقابية للبت في الأمر. حتى أن هيئة المحكمة تجاهلت طلبات الدفاع في قضية “مترو” بندب خبير من وزارة الثقافة للبت برأيه فيما إذا كانت الألفاظ الواردة بالرواية موضوع الدعوى خادشة للحياء العام من عدمه.
من يراقب “ناجي” ؟.. من يراقب المُبدعين في مصر؟
“أولاً قبل أن يمنع هذا الكتاب في مصر منع في المغرب في حدود عام 1983، وهذا المنع بدأ يتسرب إلى دول عربية أخرى، وقيل لي بأنه كان يباع في السوق السوداء، وهناك استنساخ له من قبل الطلبة وغير الطلبة، ثم أثيرت الضجة الكبرى حوله عندما قُرر في الجامعة الأمريكية بمصر، فأنا جوابي على هذا المنع لنلقي سؤالًا آخر وهو من الذين يدرسون في الجامعة الأمريكية فهم طبعًا ليسوا أبناء الحرافيش وأولاد البراريك وأولاد الدور الصغيرة، بل يدرس فيها أولاد البورجوازيين الأغنياء وعندما ينتهون من دراستهم يرسلونهم إلى الدول الأنجلسكسونية، إما إلى انجلترا أو أمريكا لإتمام دراستهم، إذن هذه الحجة الأخلاقية مرفوضة، فماذا تتصور أن يفعل الطالب أو الطالبة في أمريكا لما ينتهون من دروسهم، هل يذهبون للمسجد للصلاة والعبادة؟ لا شك أنهم سيعيشون مرحلة شبابهم، بكل ما للشباب من طيش وتهور ومتعة، إذن هذه ضجة مفتعلة، فمعظم الذين خاضوا في هذه الضجة وهذا المنع لا علاقة لهم بالأدب فبعضهم يشتغل بالسياسة والآخر يشتغل في الاقتصاد، وقلة هم من لهم علاقة بالأدب لذلك فردود الفعل هذه هي خدمتني أكثر مما أساءت إليّ، فعندما منع هذا الكتاب بدأ يباع أكثر مما كان يباع في مصر وفي غير مصر، وأنا هنا لا أقصد الجانب التجاري بقدر ما أقصد هؤلاء الذين سمعوا عن منعه وأرادوا أن يقرؤوا هذا الكتاب ليعرفوا ما هي الحقيقة، هل هو حقًا كتاب يفسد الشباب ويفسد تربيتهم، أليست هناك أشياء أخرى في المجتمع المغربي أو المصري أو دول عربية أخرى مخجلة وتفسد الشباب أكثر مما أفسده كتابي، ثم أن كتابي الخبز الحافي ليس دعوة للدعارة والفضائح بقدر ما هو كتاب ينسف المسببات التي سببت الدعارة في مجتمعاتنا العربية والمغربية“.5
كان ذلك رد فعل الروائي المغربي، محمد شكري، عبر صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك“، بعد منع روايته “الخبز الحافي” من التداول في مصر، باعتبارها مُخِّلة بالآداب العامة و خادشة للحياء العام. يحمل ذلك التصريح، و إن كان مجرد نموذج لعشرات الحالات، جوانب عِدة تُلخِص أحد أوجه أزمة الرقابة على الإبداع في مصر، فبداية يبدُر إلى الذهن تساؤل؛
من له حقُ الرقابة على العمل الإبداعي؟
في الوقت الحالي يوجد جهازين فقط في مصر مخوَّل لهما الرقابة على أشكال التعبير الفني؛ و هما “جهاز الرقابة على المصنفات الفنية” التابع لوزارة الثقافة، و “جهاز الرقابة على المطبوعات” التابع لوزارة الإعلام، ويقع تحت اختصاصهما قانونًا ممارسة الرقابة من حذف أو تعديل أو مصادرة أو إعطاء تصريحات بأعمال معينة و منع غيرها. إلا أن هناك العديد من المؤسسات الأخرى في مصر التي تتدخل في ممارسة الرقابة على الأعمال الفنية، قد تكون هيئات دينية مثل الأزهر والكنيسة أو نقابات فنية مثل “نقابة المهن التمثيلية” و“نقابة المهن السينمائية” أو بعض الأجهزة الأمنية. وأحيانًا تكون ممارسة الرقابة ناتجة عن قرارات مسئولين في الحكومة لأسباب سياسية، وقد تكون الرقابة أيضًا في شكل رقابة مجتمعية مثل رفض بعض الأماكن الثقافية لبعض الأعمال أو الفنانين، أو رفع أحد المواطنين لدعوى قضائية ضد عمل معين تتهمه بخدش الحياء، وفي بعض الأحيان يقوم بممارسة الرقابة المُبدِع نفسه وهو ما يسمى بالرقابة الذاتية.
جهاز الرقابة على المطبوعات:
في سنة 1983 أصدر رئيس الجمهورية قرارًا رقم 402/1983 بمباشرة وزير الدولة للإعلام لاختصاصات رئيس الجمهورية الواردة في المادتين 10،9 من قانون المطبوعات رقم 20/1936 المُعدَّل بالقانون رقم 199 لسنة 1983 حيث تنص المادتين من القانون على:
المادة 9: يجوز محافظة على النظام العام أن تمنع مطبوعات صادرة في الخارج من الدخول والتداول في مصر ويكون هذا المنع بقرار خاص من مجلس الوزراء. ويترتب على ذلك منع إعادة طبع هذه المطبوعات ونشرها وتداولها في داخل البلاد.
المادة 10: يجوز لمجلس الوزراء أن يمنع أيضًا من التداول في مصر المطبوعات المثيرة للشهوات وكذلك المطبوعات التي تتعرض للأديان تعرضًا من شأنه تكدير السلم العام.6
و بذلك أصبحت وزارة الإعلام هي الوزارة المسئولة عن المطبوعات من حيث الرقابة ومنع التداول وليست وزارة الثقافة.
ويُعد قانون الرقابة على المطبوعات هو القانون المنظم لجهاز الرقابة على المطبوعات، وهو الجهاز المسئول بشكلٍ أساسي عن الرقابة على الكتب ومنع نشرها أو مصادرتها، وإنذار المسئولين عن إصدار المطبوعات الدورية، كما تندرج تحت سلطة جهاز الرقابة على المطبوعات الحجز الإداري على الكتب بنفسه وبدون الرجوع للسلطة القضائية، وذلك إذا رأى الجهاز في أي كتاب ما يضر بالمصلحة العامة و/أو يكدر للسلم العام أو ما يخالف القانون.
وربما يكون جهاز الرقابة على المطبوعات هو الجهاز الوحيد الذي طالب أحد رؤسائه السابقين بحلُه، حيث طالب “عز الدين شكري” الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة الأسبق، بحلّ جهاز الرقابة على المطبوعات وذلك لاعتراضه على منع الجهاز في هذه الفترة لرواية “هورجارد” للكاتب رأفت الميهي و“الأعمال الكاملة” لجبران خليل جبران من دخول مصر7.
إن قضية الرقابة على المطبوعات باعتبارها أحد أشكال الأعمال الإبداعية يجب أن تحظى بمزيد من الاهتمام و المناقشة الجدية من جانب المُبدعين، الرأي العام، المجتمع المدني وكل مهتم بشأن الإبداع في مصر، و لا سيّما أجهزة و مؤسسات الدولة المعنية؛ حول إجابة السؤال المبدئي الذي يسبق أي استراتيجية لإعادة هيكلة و تطوير قطاع الرقابة و تنقية التشريعات المتعلقة بالرقابة على الأعمال الإبداعية .. و هو هل نحتاج بالفعل لجهاز حكومي للرقابة على المطبوعات في مصر؟..
حقيقة الأمر؛ أن إجابة هذا السؤال ليست حاسمة بالشكل الكافي، و لا يكفي استنباطها –و فقط– من التجارب الدولية في هذا الشأن، بل يحتاج الأمر مناقشة مجتمعية هادفة و جادة، ينتُج عنها، إما إيمان بضرورة استمرار عملية الرقابة اللاحقة من قبل جهاز حكومي على المطبوعات، و هذا يستدعي تحديد أوجه الضرورة، و مناط اختصاصات عمل الجهاز بشكل محدد لا يحمل لبسًا ولا تأويلًا، و إلغاء تبعيته لوزارة الإعلام و تشكيل هيئة رقابية مستقلة، و العمل على إصلاح البنية التشريعية الناظمة لحرية الإبداع، من خلال استصدار تشريع جديد يُنظِم عمل الهيئة، و تنقية التشريعات المُقيِّدة للخيال الإبداعي، و أهمها مواد قانون العقوبات المتعلقة بازدراء الأديان و خدش الحياء العام. إلى جانب الوقف الفوري لكافة التدخلات من قِبَل الأجهزة الأمنية و السلطة التنفيذية و المؤسسات الدينية في الأعمال الإبداعية. هذا؛ و إما أن يتولَّد لدينا يقينًا بضرورة إلغاء جهاز الرقابة على المطبوعات، تأكيدًا على دعوة “شكري” بحلُه، نظرًا لأن الفلسفة وراء إنشاء الجهاز هي التقييد و المنع و ليس تنظيم و تسيير الأمور. التي قد لا تحتاج أصلًا لوجود جهاز ما يُنظِمها. وهي القضية التي أثارها الناقد المصري غالي شكري( 1935-1998) حين قال نصًا: ” ليس هناك شيء في الحياة فوق المساءلة. والثقافة والفكر والمفكرون كأي نشاط وفئات أخرى يخضعون للمساءلة، ولكن المساءلة في الأدب والثقافة لها عنوان محدد وهو النقد وليس المحاكم“.8
إن الأمر يختلف بالنسبة للمطبوعات المستوردة و التي تتعرض لتدخلات رقابية فجَّة من مختصين و غير مختصين، حيث تمر بدايةً على “الجمرك“، و أكثر من جهة رقابية تُعطي رأيها في محتوى المُصنّف منها إدارة المطبوعات بالميناء. وفي حالة رفض إحداها، يُمنع دخول الكتاب من قِبل الأمن الوطني و إدارة الرقابة على المطبوعات الخارجية، وبذلك تُصبح الرقابة على الكتب المستوردة رقابة سابقة على دخولها، ولا يقف الأمر عند ذلك، فيتم مراقبتها لاحقًا– أيضًا–، و ذلك لما أعطاه القانون لمجلس الوزراء من حق في إصدار قرار بمنع المطبوعات التي تصدُر في الخارج من دخول مصر و يترتب على ذلك منع إعادة طبعها و نشرها وتداولها. حتى إذا نجحت في المرور من كل محاكم التفتيش السابقة تصطدم بجدار الرقابة المجتمعية، التي قد تُلقي به في السجن.
________________________________________________________