تأتى أهمية الحق فى المعرفة وحرية الوصول للمعلومات وتداولها من اعتباره بشكل عام إحدى أهم آليات تعزيز ودعم ممارسة الحقوق الأخرى على اختلاف أنواعها، فهو عامل أساسى لتهيئة سياق وبيئة عامة تحترم وتحمى وتؤدى الحقوق، فعلى سبيل المثال عند الحديث عن مكافحة الفساد، وأهمية الرقابة الشعبية على أداء وسياسات مؤسسات الدولة، نجد أنفسنا فى احتياج للمعلومات والبيانات والوثائق التى تساهم فى إثبات وبرهنة ومحاسبة المسئولين عنه، وبطبيعة الحال فى دولة حكمها نظام سلطوى مستبد لعقود من الزمن فهى محصنة بغابة من التشريعات والقوانين والقرارات والتعليمات التى أسست وبررت لمبدأ أن المعلومة بطبيعتها سرية ومحجوبة وفى نشرها وإتاحتها محاذير وهمية حول كلاشيهات «الأمن القومى»، «تكدير السلم العام»..إلخ، مما صنع ستارا حصينا حافظ على بقاء نظام مستبد وسلطوى يحتكر إنتاج المعلومات وتدفقها، انطلاقا من أن سرية المعلومات والبيانات هو وسيلة للقوة والنفوذ، والتعامل معها باعتبارها سلاحا يساعده على الاستمرار والبقاء دون رقابة ودون مساءلة.
وحتى لا نعيد إنتاج هذا النظام مرة أخرى، ونسير بخطوات موضوعية فى طريق تعزيز مناخ حرية تداول المعلومات فى مصر ــ من منطلق أن الشفافية والإفصاح ليستا حقا فقط للمواطن، وإنما هما من أهم آليات تكوين علاقة رشيدة بين مواطن واع، ونظام سياسى وحكومة يتمتعان بأعلى قدر من ثقة المواطنين ومهنية الأداء وفاعلية وقوة أثر ما يتخذونه من سياسات وإجراءات، إلى جانب أن تلك العلاقة التى تنضج وتتطور بإتاحة المعلومات هى بلا شك الحد العملى والحقيقى الفاصل بين الماضى والحاضر فى مرحلة التحول من نظام قمعى إلى نظام ديمقراطى ــ يحتاج الأمر حزمة من الإجراءات والسياسات، من أجل إقرار وتفعيل قانون يهدف إلى حماية وتعزيز حق الأفراد فى الوصول إلى المعلومات وتداولها، يتلخص أهمها فى توافر إرادة سياسية لتبنى هذا القانون والالتزام بما ينص عليه من إفصاح ونشر البيانات والمعلومات والوثائق، كذلك العمل على وضع إجراءات وسياسات للقضاء على ثقافة السرية المنتشرة فى جميع مؤسسات الدولة، وأخيرا مجتمع مدنى يعى أهمية المعلومات للمطالبة بالحقوق والحريات.
●●●
ففيما يتعلق بتوافر الإرادة السياسية فإن الأمر لا يتعلق ــ فقط ــ بإصدار قانون لتعزيز حرية الوصول إلى المعلومات وتداولها، بل أيضا تفعيل واتخاذ جميع الإجراءات التى تُلزم جميع أجهزة وأذرع الدولة بالإفصاح وتطبيق ذلك القانون دون إفراغه من مضمونه وغايته، هناك العديد من الدول لديها قوانين لحرية تداول المعلومات ولكن فى الواقع ليس لهذه القوانين أى آليات تضعها حيز التنفيذ. فقانون تداول المعلومات فى الهند على سبيل المثال يعتبر من أفضل الصياغات التى تضمن تأدية وحماية ذلك الحق ولكن بعد نحو عامين من تطبيق القانون، قام عدد من مؤسسات المجتمع المدنى فى الهند، بعمل مسح شامل حول ضعف أثر ذلك القانون على تعزيز الحق فى تداول المعلومات وكان من أهم الأسباب أن هناك نقصا كبيرا فى الدعم الموجه للجان المعلومات من قبل الحكومة، وهو الأمر الذى يعكس وبشدة، عدم اهتمام الحكومة، بالقانون ولا كيفية تطبيقه، ومن ثم فإن هذا ما يجعلنا نشير إلى أن مفهوم الإرادة السياسية هو مفهوم أوسع من تمرير أو إقرار قانون مهما كانت درجة قوته وتقدمه.
وهذا ما يحيلنا إلى العنصر الثانى الخاص بمناهضة ثقافة السرية المنتشرة فى جميع مؤسسات الدولة والذى يعكس بعدا آخر لمفهوم الإرادة السياسية، حيث إنه يلزم إلى جانب إقرار قانون يحمى حرية تداول المعلومات أن يتم اتخاذ إجراءات موازية فيما يتعلق بتطوير فلسفة ومنهجية عمل هياكل مؤسسات المعلومات الرسمية فى مصر بدءا من صغار الموظفين إلى كبار المسئولين على رأس تلك المؤسسات، وهى العملية الأطول أمدا والتى بحاجة إلى مراكمة الكثير من الجهود وربما الضغوط فى كثير من الأحيان.
وبالتطرق لممارسة الضغوط تأتى أهمية العنصر الثالث الذى ربما يجب التركيز عليه بعدد من التساؤلات التى تمثل نقاطا محورية تؤثر على دور المجتمع المدنى فى تعزيز أوضاع حرية تداول المعلومات، وتعتبر تجربة المجتمع المدنى الهندى فى إقرار قانون تداول المعلومات مرجعا هاما ــ ليس فيما يتعلق بنصوص ومواد القانون وإنما فى طريقة الضغط والحركات المطالبة بحقها فى الوصول إلى المعلومات ــ نستطيع استخلاص بعض الدروس المستفادة التى من الممكن أن يكون لها أثر إيجابى فى معركة حرية تداول المعلومات فى مصر، أحد الدروس يتلخص فى أهمية ألا تنحصر المطالبة بإقرار قانون تداول المعلومات فى النخبة دون غيرها، واعتبار أن أهمية تداول المعلومات تتعلق أكثر بالحقوق والحريات العامة كما يراها قطاع من هذه النخبة، دون الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
●●●
حيث كانت بداية التحركات الشعبية المطالبة بالحق فى الوصول إلى المعلومات فى قرية ريفية «راجاستان» من خلال مؤسسة شعبية تدعى مازدور كيسان شاكتى سانجثان Mazdoor Kisan Shakti Sangathan MKSS أسسها عام 1990 فقراء القرية من أجل المطالبة بإقرار حد أدنى للأجور للعاملين الذين لم تدفع مستحقاتهم نظرا لاستيلاء المسئولين الحكوميين على هذه الأموال، وكذلك مطالبة الحكومات الإقليمية بالإفصاح عن المعلومات الرسمية الموثقة فى سجلاتها لدعم ذلك المطلب، وبالفعل استطاعت هذه المنظمة انتزاع الحق فى فحص السجلات الخاصة ببرامج التنمية وهو ما ساعد فى فضح العديد من المخالفات وقضايا الفساد.
وقد استخدمت هذه المنظمة استراتيجية الرقابة المجتمعية من خلال عقد جلسات استماع فى كل قرية يتم فيها قراءة السجلات الرسمية لفضح التزوير والفساد، وهى الاستراتيجية التى اعتمدت عليها حركات متعددة من المجتمع المدنى فى العديد من الولايات الهندية بهدف ترسيخ حقهم فى الوصول إلى المعلومات وتداولها.
وبدأ بعد ذلك اتساع دائرة أصوات المدافعين عن إتاحة المعلومة حيث شملت مجموعات مهتمة بحماية المستهلك، وحملات القضاء على الجوع، والحركات التى تعمل على مكافحة الفساد، والمجموعات البيئية، وحركات إعادة التوطين.. وغيرها.
وبالتالى فقد أكدت التجربة الهندية فى المطالبة بالحق فى حرية تداول المعلومات الجوهر الأعمق لأهمية ذلك الحق فى تدعيم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين.
ومن النقاط المهمة الأخرى أن المجتمع المدنى الهندى تبنى خلال حركته وحواره ومطالباته مع الجهات والمؤسسات الحكومية حوارا ليس عدائيا أخلاقيا بقدر ما كان حوارا أكثر براجماتية، وهنا يجب أن يلعب المجتمع المدنى دورا مهما فى توضيح أن الشفافية والإفصاح والمصارحة إذا كانت مهمة للمواطنين والأفراد، هى أيضا لها فوائد جوهرية للحكومة حيث تساعد فى انخفاض الشكوك حول أداء الحكومة بل أكثر من ذلك تتزايد الثقة فيها.
●●●
وأخيرا يجب الإشارة إلى إن الحق فى الوصول إلى المعلومات وتدفقها حق أساسى وحيوى من أجل مناقشة الحاضر ورسم المستقبل، وتجاوز المخاطر التى يمكن أن تحيط بمسيرة التحول الديمقراطى، وتكمن أهمية هذا الحق باعتباره من أهم آليات تعزيز ودعم ممارسة الحقوق الأخرى على اختلاف أنواعها سواء ما يتعلق منها بالحقوق السياسية والمدنية، أو الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
نشر هذا المقال في جريدة الشروق بتاريخ السبت 16 يونيو 2012