«التاريخ كله كان بمثابة لوح تم تنظيفه لإعادة النقش عليه، بما تستلزمه مصلحة الحزب»
جورج أورويل.. رواية «1984»
مرت ثلاث سنوات عندما قررنا، أنا وزملائي في مؤسسة حرية الفكر والتعبير، خوض تجربة جديدة؛ العمل على «ملف الضمير والذاكرة».
خضنا التجربة باﻹمكانيات المتاحة ونحن نعلم جيدًا أنها محاولة أولية لكتابة وإتاحة سرديات مختلفة تُروى فيها قصص من لم يكونوا جزءًا من التاريخ الرسمي، لأن روايتهم لا تتماشى مع الخطاب العام والقصة الواحدة.
يهتم «ملف الضمير والذاكرة» بضمان وتعزيز حق الأفراد والمجتمع في معرفة حقيقة وقائع وأحداث فترة التحول السياسي والاجتماعي في مصر منذ 2011، ولب الجهد الذي يقوم عليه هو الحاجة الماسة والدائمة إلى إتاحة اﻷصوات المغيبة والذاكرات البديلة والروايات المقموعة.
يأتي هذا في وجه ما تحاول السلطة ترسيخه في الأذهان عن هذه اﻷحداث، آملين أن تكون مسودة يمكن استخدامها لكتابة أعمق عن الأحداث، أو أن يمكن الرجوع إليها، مع غيرها من وثائق، لتحقيق العدالة والقصاص للضحايا، خاصة في ظل السياسة العامة للدولة التي دائمًا ما تحاول السيطرة على رواية الأحداث لصالحها، والمضي قدمًا دون مكاشفة ومحاسبة.
من هذا المنطلق بدأنا في العمل على سلسلة من التقارير و الأوراق التي تحاول تقديم سرد مواز للأحداث، محاولين بذلك ألا تكون رواية من في السلطة هي الرواية الوحيدة التي يمكن لمن يرغب في معرفة تاريخ ما حدث بعد يناير 2011 العثور عليها.
كنا نعلم جيدًا أننا سنواجه العديد من الصعوبات، في ظل الظروف الحالية وما تشهده من قمع واسع النطاق ضد اﻷصوات المعارضة وتجريم التنوع والاختلاف، واستمرار آلة القتل والتعذيب واﻹخفاء القسري، ما أدى إلى إغلاق المجال العام تمامًا.
كان من بين الصعوبات التي واجهناها، خلال فترة إعداد التقارير، وأثناء جمع المعلومات والبحث في الأرشيف الإلكتروني للصحف والفيديوهات، أن بعضها قد مُحي، وأصبح مجرد ومضات في ذاكرة بعض المعايشين للواقعة. كما وجدنا صعوبة شديدة في الحصول على أوراق القضايا المتعلقة باﻷحداث كاملة، خاصة شقها المنظور أمام المحكمة العسكرية.
جرى تجميع المادة بمساعدة وحدة الرصد والتوثيق بالمؤسسة، واعتمدت التقارير على مجموعة من المقابلات التي أجراها باحثو الملف بمؤسسة حرية الفكر والتعبير مع مجموعة ممن شاركوا في الأحداث، والعشرات من الشهادات الموثقة والمنشورة، ومجموعة من الأخبار والتقارير والأوراق والمقالات والتصريحات المنشورة وقتها، بالإضافة إلى مجموعة من الفيديوهات والبرامج التليفزيونية ونشرات الأخبار المذاعة أثناء الأحداث.
هذا بخلاف أوراق القضايا بشقيها المدني والعسكري، وما تضمنته من تحقيقات النيابة العامة المُحالة لقاضي التحقيق والمدعي العام العسكري، باﻹضافة إلى التقارير الفنية، مثل تقرير الطب الشرعي وتقرير الخبير الهندسي وأقوال الضحايا والمتهمين.
كل هذا بالطبع، باﻹضافة إلى ما رصدته المنظمات الحقوقية المختلفة بشأن اﻷحداث التي تتناولها التقارير.
خلال جمع شهادات من المشاركين لنسج رواية الضحايا عما حدث، وجدنا أنه بعد مرور سنوات من تاريخ الواقعة، انمحت تفاصيل بعض الأحداث من ذاكرة الضحايا، وأنهم بحاجة لجهد لاستدعائها مرة أخرى، خاصة مع تسارع الأحداث في تلك الآونة وتشابه تسلسلها، وبالتالي كان التوثيق بعد مرور هذه السنوات خاضعًا للذاكرة البشرية، سواء بإضافة تفاصيل أو بحذفها.
كما واجهنا صعوبات في الحصول على وثائق ومعلومات هامة مثل تقارير تقصي الحقائق الصادرة عن لجان تشكّلت بعد الثورة بخصوص العديد من اﻷحداث، وبالتالي لم نعتمد منها إلا على ما نُشر بالصحف أو من خلال اﻷجزاء التي توافرت في بعض القضايا.
في النهاية، وبعد كل هذا، وجدنا أنفسنا أمام سؤال أخلاقي: هل نستطيع بالفعل تأمين وحماية المشاركين في وقت قد نعجز فيه نحن عن تأمين أنفسنا وسط الهجمات الأمنية المتلاحقة؟
بقدر ما نعي ما تحمله كلمة «تأمين» من معنى، بقدر ما واجهتنا حقيقة أننا لا يمكننا ضمان تحقيقها للمشاركين.
لمواجهة هذا، كنا حريصين على توضيح الخطر وضمان السرية، لمن اختاروها، بتجهيل أسمائهم، وتجهيل كل ما يرغب المشارك في إخفائه، كضمان لعدم الوصول إلى هويته، حفاظًا على سلامته، وهو ما كان ضروريًا في التقرير المعني بفرم مستندات أمن الدولة، خاصة وأن هناك تهديدات بتحريك دعوى لملاحقة النشطاء بتهمة اقتحام مقار الجهاز.
كما وجدنا ضرورة أخلاقية في البحث عن أصحاب الشهادات المنشورة والمتاحة على الإنترنت، للحصول على الموافقة من جديد على استخدام هذه المادة وتسليط الضوء عليها في هذه اللحظة وما تحمله من خطورة.
كل هذه الصعوبات، وأكثر، تجعل من عملية التوثيق، وجمع الشهادات والكتابة عن الأحداث المتتالية، خاصة في فترات التحول السياسي، مهمة صعبة ولكن أساسية.
لا تحاول التقارير المُعدَّة، بلا أدنى شك، انتحال صفة المحقق أو القاضي، ومن ثم لا ينبغي للقارئ التساؤل عما إذا كانت التقارير قد حسمت التساؤلات عن حقيقة ما حدث وعن توزيع المسؤولية عنه وعن التوصيف القانوني له.
ولا مجال لأن تحسم هذه التقارير هذه التساؤلات جميعها، بل ربما تسعى إلى تعقيدها في مواجهة التبسيط المخل الذي قد تقدّمه اﻷوراق الرسمية للتحقيقات ومجريات المحاكمة، أو تنقله وسائل الإعلام التقليدية.
الهدف ليس سرد الحقيقة، وإنما طرح وقائع وروايات مختلفة، كل منها يمثل حقيقةً لصاحبها.
هذه التقارير ليست لتقصي الحقائق، ولا لسرد ما حدث بالتفصيل، بعد دراسة دقيقة لجميع المستندات والأوراق والأحراز، وإنما هي مجرد تجميع لعدد من الروايات والقصص التي تشكل بدورها جزءًا من تاريخ أحداث لعبت، وما زالت تلعب، دورًا في تكوين المستقبل.
ما نعرفه يقينًا، من خلال عملنا على التقارير المختلفة عن اﻷحداث، هو نتائجها المادية المباشرة؛ القتلى والمصابون، فوارغ الطلقات النارية، السيارات المحترقة، عسكرية أو مدنية، إلخ.
وبخلاف ذلك، فإن تفسير النتيجة المادية تتنازعه روايات متناقضة، أخذ بعضها طريقه إلى صفحات الوثائق الرسمية ليتحصن بها، والبعض اﻵخر رددته وسائل اﻹعلام ونشرته، ليصنع ذاكرة جماعية لا يستهان بها، في حين بقي البعض اﻵخر محتجزًا في ذاكرة من عاشوا الحدث بأنفسهم.
نسجت الوثائق الرسمية وتقارير اﻷجهزة ومحاضر التحقيقات ووقائع جلسات المحاكمة، الرواية التي تحدَّدت على أساسها المسؤولية الجنائية، أو لم تتحدد، وتركت المسؤولية السياسية معلقة في فراغ اﻹنكار، أو هائمة تتعلق بأي طرف حسب ظروف وتقلبات السياسة في المرحلة اللاحقة.
وفي المقابل، فإن ذاكرة من عايشوا الحدث لم يُقدّر لها أن تنسج روايتها البديلة بما يكفي ﻷن تؤثر في الواقع.
من خلال تجميع هذه الذاكرة، المنفية عن الوثائق الرسمية وأضواء اﻹعلام، نسعى ﻷن تنسج الرواية البديلة وجودها.
وإلى جانب ذلك، فإن تجميع ما انتقته اﻷوراق الرسمية من الذاكرة المعايشة للحدث، يمكنه بقدر ما تبيين الحدود بين ما هو متسق في تلك الذاكرة وما هو بالضرورة غريب عنها، بحيث تمكن محاكمته بالاختلاق والتدليس والكذب.
وبشكل ما، تحاول التقارير إتاحة القدر الضئيل من أدوات التسجيل، خارج سيطرة السلطة، لذاكرة بديلة، أملًا في ألا يغفلها التاريخ.
كان المرور البطيء والمؤلم للوقت هو التحدي اﻷكبر، بين متابعة أحداث القتل بالرصاص والدهس والاختناق والقنص، وتوثيقها الذي استغرق أشهر عدة.
كما كان علينا التعامل مع خليط من المشاعر المتضاربة، حب مينا ورفاقه وكراهية من قتلهم بالرصاص والدهس، شعور الغضب والخوف الذي تملكنا عند الاستماع أو قراءة شهادة تصف مشهد الجثامين على ناصية شارع محمد محمود أو في أحد مداخل العمارات المجاورة لمبنى ماسبيرو، أو داخل سيارة الترحيلات.
كل هذا ولّد مشاعر ألم وصلت إلى الأذى الفعلي في بعض اﻷحيان.
صاحبتنا مشاعر الغضب، الكراهية، الخوف، والعجز، في كل خطوة تحركنا فيها بين أحداث الماضي القريب والمؤلم، وبين حاضر لا تزال تُرتكب فيه نفس الممارسات والانتهاكات، حيث لا مجال لأن تلتئم العلامات التي تركتها تلك اﻷحداث.
كان تحديًا أيضًا أن نُخرج النصوص النهائية للتقارير دون أن تتأثر بما نحمله من مشاعر، أو بمشاهداتنا، أو باﻷحرى بمشاركاتنا في بعض اﻷحداث التي يتناولها التقرير.
كنا ولا نزال، في هذه التجربة، نؤمن أن اﻹنصاف ليس هدفًا مستحيلًا عندما يتضافر ركام الذاكرة في صنع الضمير، وهذا ما سيحدث ولو بعد حين.
نشر هذا المقال في مدى مصر بتاريخ 29 مارس 2018