هذه المقالة تدعو إلى تأمل موقفنا من حرية التعبير، لذا فهي تهتم بطرح الأسئلة أكثر من محاولة تقديم الإجابات، فالهدف منها فتح نقاش حول أي موقف علينا تبنيه وكيف يمكننا بناءُه، وإلى أي معايير يمكننا الاستناد، كي تساعدنا في بلورته.
هناك العديد من اﻷسئلة التي يجب البحث عن إجابات لها من أجل الوصول إلى موقف واضح من حرية التعبير، منها على سبيل المثال: هل يجب على المجتمع أن يُقلِّل من حرية التعبير في القضايا التي تُعد إساءة لتلاحم الجماعة؟ هل يُسمَح للأفراد بانتهاك حرمة الرموز التي أصبحت تُجسِّد جوهر اﻷمة مثل العلم الوطني؟ هل يجب التسامح مع الخطب العنصرية؟ بمعنى؛ هل التعبير الذي يتضمن نظريات عن التفوق العنصري، والخطب التي تهاجم الأقليات، حتى وإن كانت مزعجة للكثيرين وغارقة في الكراهية، من المفترض أن تقف عند درجة يتعين معها إعلانها مُحرَّمة وخارج نطاق المدى المسموح به للحوار؟
ومن بين هذه الأسئلة أيضًا؛ هل يجب أن نفرض قيودًا مماثلة على الكلام الجنسي أو المُتحيز جنسيًا، أو الكلام السوقي أو البذيء؟ هل يجوز فرض حماية خاصة للأديان؟ هل نسمح للحكومة بحرية أكبر في كبح جماح مضمون الكلام عندما يكون الجمهور هو من يدفع فاتورة حق التعبير؟ ما العلاقة بين حرية الكلام والحقوق المشروعة للمجتمع في صيانة النظام الداخلي واﻷمن؟ وما مدى الصلة بين الكلام والفوضى، وما الفارق الضئيل بينهما والذي يحدد ما إذا كان يحق للحكومة التدخل لمنع اﻹخلال بالنظام؟
هل يجوز في أي وقت من اﻷوقات إخراس صوت متحدث لتجنب عنف اﻵخرين الذين ينوون خرق القانون كنوع من رد الفعل ضد المتحدث؟
عندما يتعلق الحديث باﻷمن القومي، هل يتمتع بحماية أكثر أم أقل؟ وإلى أي حد يجوز للحكومة أن تقيد نشر الصحافة ﻷسرار الدولة؟ كيف يمكن التوفيق بين قيم الكلام الحر وبين مصلحة المجتمع في توفير العلاج ﻷية انتهاكات لكرامة الفرد؟ كيف يجري التعامل مع انتهاك خصوصيات الفرد، أو التسبب في إلحاق اﻷذى النفسي والعاطفي؟
بين التحريض ضد الناشطة ماهينور المصري ومقال عمر حاذق وتصريحات نائب برلماني عن الختان وكشف العذرية، ثار جدل بين المهتمين من القوى الديمقراطية، حول حرية التعبير والحدود المشروعة المسموح بها، عندما تتنازع هذه الحرية مع قيم أخرى. دون أن تنتهي المناقشة بتحديد متى يكون الكلام خطرًا ويجب تنظيمه، ومتى يكون حرًا دون قيد أو شرط.
كانت اﻷغلبية مع تجريم -وأقصد بـ“التجريم” هنا محاكمة الكلام جنائيًا– التحريض ضد ماهينور وتصريحات النائب البرلماني. ورغم رفض ما جاء بمقال عمر حاذق وما يحمله من كراهية –كما وُصف– إلا أنها لم تُجرِّمه، بمعنى أنها لم تر طريق إحالة المقال إلى المحكمة هو الطريق الصحيح، بل رأت الانتقاد العنيف والمؤذي هو طريق المواجهة اﻷفضل، حتى ولو وصل إلى درجة اﻹرهاب الفكري، رغم آثاره السلبية على استمرار النقاش والجدل حول ما يتضمنه المقال، وفتح مساحة لطرح الرأي البديل ودعمه واستغلال الفرصة لمناقشة قضية لم تُطرَح بهذه القوة من قبل بين القوى الديمقراطية.
أما اﻷقلية فقد دافعت عن حرية التعبير وتوسيع نطاق الحماية قدر اﻹمكان، وبالتالي لم تر إحالة الكلام للمحكمة في الثلاث حالات، هو الاختيار اﻷفضل في معركة الكلام هنا. رغم التأكيد على أن هناك خطاب كراهية واضح ويُشكِّل في بعض الحالات تحريضًا على العنف، لكن لا تجب إحالته إلى المحكمة، بل العقاب التأديبي فحسب، ومنافسة الأفكار بالأفكار، هما الطريق الذي يسمح بفرض حماية أكبر لمستقبل حرية التعبير.
الاختلاف هنا في المعايير التي يعتمد عليها كل طرف من اﻷطراف في الحكم على ما قد ينتج من ضرر نتيجة الكلام، ثم تحديد التجريم من عدمه والعقوبة المناسبة.
لا شك أن من الواجب مواجهة خطاب الكراهية، بل ومحاربته بكل قوة، فهو خطاب بغيض ويُعد انتهاكًا لكرامة الفرد، كما قد يؤدي لأحداث عنف وسلوك تمييزي. ولكن السؤال؛ كيف تكون هذه المواجهة؟
الخلاف هنا، بين المهتمين بحرية التعبير في مصر من القوى الديمقراطية، لا يختلف كثيرًا عن الخلاف الدائر بين المهتمين في العالم، فنحن أمام وجهتي نظر تعتمد كل منها على معايير قد تتقاطع أحيانًا، ولكنها تتبنى نظريات مختلفة.
هناك فريق يرى أن حماية حرية التعبير في جميع اﻷحوال والظروف أمر ضروري، ويرفض أنصار هذه النظرية أي تنازل أو فرض أي قيود أو عقوبات على حرية الكلام. ومن رأيهم أن السلوك محمي إذا كان يعبر عن الكلام بدرجة ما. وأننا إذا بدأنا في تحديد استثناءات لحرية الكلام، بحسب مكانه أو محتواه أو مضمونه، فإننا نبدأ بذلك في ارتياد المنحدر الزلق للرقابة على الكلام.
ولكن سرعان ما تتراجع تلك النظرية أمام جريمة أساسية مثل التحريض على القتل، فلا يجوز فرض حصانة تمنع معاقبة من حرّض على القتل، على أساس أن كل ما فعله الشخص هو أنه استخدم الكلام في محاولة لحضِّ آخرين على ارتكاب الجريمة.
لذا اتجه بعض أنصار نظرية الحق المطلق إلى تبني فكرة “صمامات اﻷمان” أي الحق المطلق بشروط، بمعنى التمييز بين الكلام وبين السلوك. هم يعترفون بضرورة وجود صمامات للأمان تهدف إلى تنفيس الضغوط التي تؤدي في النهاية إلى دمار نظرية الحق المطلق، وبالنسبة لأصحاب هذه النظرية المتمسكين بالحق المطلق بشروط، فإن حرية التعبير تعتبر محمية تمامًا، ولكن معناها يضيق، بحيث يخرج التعبير عن نطاق الحماية، إذا كان يحتوي على الكراهية التي تشكل تحريضًا على العنف والعنصرية، ويترتب على التعبير ضرر قد يكون ملموسًا.
ففي حالة الناشطة ماهينور المصري، دعا الصحفي ناجي عباس على صفحته الخاصة بموقع “فيسبوك” لحرقها بـ “مية النار“، قائلًا: “مفيش أي طنط في البلد دي أو انكل ابن حلال كده يخطف الست ماهينور ويسقيها ولو ربع لتر مية نار ويدلق الباقي على وشها.. عشان يخدمها ويخدمنا معاها؟“
ومن خلال متابعة المناقشة التي جرت على خلفية هذا التحريض تمكن ملاحظة فريقين، اﻷول يرى بوضوح أن هذا الكلام يُعد خطاب كراهية يُشكِّل تحريضًا على استخدام العنف ويجب اتخاذ إجراءات قانونية من أجل مواجهته. أما الفريق الثاني فلا يختلف مع الرأي اﻷول في التوصيف، لكنه لا يرى أن اتخاذ الإجراءات القانونية –والجنائية منها تحديدًا– طريقًا صحيحًا للتعامل مع ما كتبه الصحفي، وإنما الطريق التأديبي هو الحل اﻷمثل في هذه الحالة.
لكن المثير للدهشة بالنسبة لي هو موقف ماهينور التي اختارت ببراعة تحسد عليها طريقًا كنت أراه قد اختفى تمامًا من النقاش، وهو طريق نظرية الحق المطلق دون وضع شروط أو قيود على التعبير، فقد قالت:
” اللي كتبه عن رأيه أو شرشحته التي يرى البعض أنها ترتقي إلي كونها خطاب كراهية أو تحريض مباشر علي القتل… أولًا هو كاتب ده علي صفحة شخصية مالهاش دعوة بشغله.. اتنين ان الرجل ده اللي يبدو في أغلب ما يكتب إنه من كارهي الثورة هو شخص لا يستحق الانتباه له.. بالنسبة لي أحسن طريقة للرد عليه لا هي محاضر و لا شكاوي، ولكن إننا نقنع عدد ناس أكتر بأفكارنا أو باللي بنتكلم عليه.. أنا عارفة إن دا ممكن الناس تشوفه تخاذل بس أنا مابعملش حاجة غير اللي ضميري مرتاحلها. لا الشكاوى و لا المحاضر ممكن تحمينا.. اللي يقدر يحمينا هو الحوار وإقناع الناس“.
أقلية قليلة هي من تتبنى الحق المطلق كطريق لحرية التعبير، فهذا الموقف تحديدًا يوضح العيب الجوهري في نظرية الحق المطلق، وهو الاحتياج لضمير حي لكى تنجح تلك النظرية، وهو أمر قد يكون مستحيلًا.
أما الفريق الثاني فيرى ضرورة التوازن بين الكلام الحر وبين القيم الاجتماعية اﻷخرى؛ ما هو وزن مصلحة الكلام في مقابل وزن المصلحة اﻷخرى المنافسة له؟ هكذا يُحلُّ الصراع أو النزاع بينهما، طبقًا لتحليل مباشر للتكلفة والفائدة العائدة من ذلك.
وتنطلق تلك النظرية من أن نزاعات حرية الكلام يمكن حلها بواسطة القانون، مثلما يمكن أن تُحل معظم النزاعات الاجتماعية اﻷخرى، عن طريق قياس المصالح المتنازعة.
ففي التوازن نجد أن الثقل المخصص للكلام ليس عاملًا ثابتًا، ولكنه يتغير صعودًا وهبوطًا مع الظروف المحيطة، مما يتطلب تقييم كل حالة على حدة، لنصل إلى قيمة الكلام المهدد بفعل اللوائح الحكومية. في هذه الحالة فإن حل المشكلة يتضمن دائمًا عملية موازنة، تقوم بها المحاكم، للمصالح الخاصة والعامة المتنافسة. أي أن واجب المحكمة هو أن تقرر أيًا من المصلحتين المتنازعتين يتطلب حماية أكبر طبقًا للظروف المعينة المقدمة من الجانبين.
وهنا تمكن لنا اﻹشارة إلى مقال عمر حاذق المنشور بجريدة السفير العربي عن “السجين مثلي الجنس” وما لحقه من ردود فعل واسعة، ولعل مقال الكاتب أحمد ندا المنشور بجريدة المدن عن “تدوينة عمر حاذق.. رُهاب المثلية كمَجاز مستعاد بحذر“، عبّر عن موقف واضح يميل إلى نظرية التوازن بين حرية التعبير والقيم الأخرى، وهو ما يمثل موقف اﻷغلبية في هذه الحالة، فقد قال ندا: “ثم تأتي الفكرة الأكثر إشكالية، في الكلام الذاهب والآتي، حول “حرية عمر في التعبير عن رأيه“.. لكن، ألم يكن قطاع كبير، من المجموعات المدافعة عن عمر حاذق اليوم، وقبل وقت قليل، غاضباً أشد الغضب من ناجي عباس (الصحفي المصري في “دويتشه فيله“) ومنشوراته التحريضية ضد ماهينور المصري، على اعتبار أن العنف اللغوي ربما يتجاوز المادّي في قدرته على التأثير؟
يضيف ندا: “ما كتبه عمر يتجاوز كلام ناجي عباس سوءًا لاعتبارات عديدة، أهمها أنه تعالٍ على فئة أقلوية في مصر، ما زالت تعاني وتنازع من أجل الاعتراف بهويتها، وقضية “باب البحر“ التي دمرت حياة عشرات الشباب بسبب المذيعة منى عراقي، أرادت أن تفضح “المثلية” باعتبارها مشكلة اجتماعية كبيرة. حجم التأثير والفارق بين البرنامج والتدوينة لن يكون سببًا كافيًا لتقليل الحدة. ثم إن “الإرهاب” الذي يتحدث عنه المدافعون عن عمر، لا يعدو كونه نوعًا من الانحطاط والمراوغة في تجميل ما يمكن اعتباره جريمة”.
رغم أن عدم المطالبة بتقديم عمر حاذق إلى المحاكمة أمر يميل إلى حماية حرية التعبير، إلا أن المطالبات المبطنة التي تهدف إلى حذف المقال، هي غاية في الخطورة على مستقبل حرية الكلام، ولكن هذا لا يعني رفض الهجوم والنقد العنيف والمؤذي –أحيانًا– ضد المقال وكاتبه، وهو أمر لا يخرج عن نطاق حماية حرية التعبير.
لكن من يميل إلى نظرية التوازن يتجاهل أن الحكومة قد تفعل أكثر من مجرد وضع “قوانين“، وذلك لكي يلتزم المتحدثون بالحفاظ على النظام العام واﻷمن بين المتعاملين في الكلام. وقد تعلن الدولة أن أنواعًا معينة من بضاعة الكلام “غير مسموح بها” على أساس أنها في عملية الموازنة تميل إلى إحداث ضرر أكثر من الفائدة.
يعيب نظرية التوازن أنها تتجاهل الميل العنيد، لدى السلطة التشريعية والتنفيذية، للتقليل من قيمة فائدة حرية التعبير في مقابل قيمة الفوائد الاجتماعية للقيم اﻷخرى المتعارضة معها. فالرقابة، لا الصراحة والانفتاح، هي أول رد فعل طبيعي للحكومة. كما أن القوانين التي تحد من التعبير الحر تميل بالذات للتأثر باﻷحقاد أو بجنون العظمة، ويدفع لصدورها التفكير قصير المدى، وليس بعيد المدى.
***
في 20 سبتمبر 2006 صدر تقرير المفوضية السامية لحقوق اﻹنسان بعنوان “التحريض على الكراهية العنصرية والدينية وتعزيز التسامح” وقد أشار إلى:
“إذا كانت حرية التعبير غير مطلقة قطعًا، فإن القانون الدولي ومعظم الاجتهاد القضائي اﻹقليمي والوطني يشترط الحرص على الموازنة بين أي من القيود المفروضة على التعبير أو غيره من أشكال إبداء الرأي. وذلك أن الوضوح في تحديد أهداف القانون ومعالمه أمر أساسي لتحقيق التوازن“.
وأضاف التقرير أن التحدي هو كيفية التصدي للآثار الشنيعة التي يخلفها خطاب الكراهية دون النيل من حرية التعبير، وحرية تبادل اﻵراء واﻷفكار، وغير ذلك من الحريات التي تشكل الدعامة المطلقة لحقوق اﻹنسان.
لذا يجب أن يُنظر إلى أي إجراء يحدُّ من التعبير أو يعاقب عليه بوصفه تدبيرًا استثنائيًا يتعين تطبيقه في ظروف محددة بشكل صارم، ووفق معايير محددة بوضوح.
وأشار التقرير إلى مشكلة هامة، وهي أنه لم يتضح، بشكل تام، توافق في اﻵراء بشأن ضبط حدود وأبعاد هذا التدبير الاستثنائي.
من الأمور غير المتفق عليها، على سبيل المثال: (أ) مفهوم التحريض نفسه وكيفية تقييم انطباقه على الحالات المختلفة، (ب) الظروف المحددة التي يجوز فيها حظر التحريض، (ج) نطاق العقوبات المسموح بها وسبل الانتصاف الممكن اتباعها.
إذن، ما المعايير التي يمكن الاعتماد عليها في تقييم وتصنيف هذا الخطاب، حتى نستطيع اختيار الطريق والعقوبة المتناسبة معه؟
هناك اجتهادات هامة لمنظمة “المادة 19” المعنية بالدفاع عن حرية الرأي والتعبير، بمشاركة مجموعة من الخبراء والمهتمين بحرية التعبير في العالم، بهدف تضييق الخلاف قدر اﻹمكان، والتفرقة بين الخطاب المشروع والخطاب الذي يخرج عن نطاق الحماية.
تتمثل أهم الاجتهادات في مبادئ “كامدن” التي تقر بأن بعض الخطابات، كالتحريض المتعمد على البغض العرقي، مضرة جدًا للمساواة وبالتالي يجب منعها. لكن يجب على القوانين التي تمنع هذا النوع من الخطابات أن تكون محددة وواضحة، بحيث تمنع أي استغلال، بما في ذلك الأسباب السياسية الانتهازية. فالهدف هو ضمان تطبيق هذه القوانين بالتساوي وبصورة عادلة، لمنفعة جميع المجموعات التي يحميها القانون، وفي هذا السياق من الضروري مقاربة كل قضية على حدة، ما يأخذ بعين الاعتبار سياق وأنماط الحالة، خاصةً من جانب السلطات القضائية.
أما الاجتهاد الأهم فكان في ديسمبر 2012، حيث أصدرت المنظمة دليلًا عمليًا للتعامل مع قضايا التحريض على الكراهية، في محاولة للإجابة على السؤالين التاليين: متى يصبح الحديث الحر تحريضًا على الكراهية؟ ومتى ينبغي على الدولة التحرك لتقييد الحديث؟
تقترح الإرشادات بشكل خاص وضع اختبار لتقييم حالات التحريض المحتملة، من خلال التركيز على سياق التعبير وتحليل محتواه ونطاقه ومداه، والمتحدث ونواياه ووضعه في المجتمع وتأثيره على الجمهور، بالإضافة لاحتمال حدوث الفعل الذي يدعو له المتحدث، بما في ذلك احتمال وقوعه بشكل وشيك.
***
لعل الحكم الشهير للمحكمة العليا الأمريكية عام 1977، كان أكثر النماذج تطرفًا في حماية حرية التعبير، في علاقتها ليس فقط بخطاب الكراهية والتحريض، ولكن –أيضًا– عندما يقترن خطاب التحريض بممارسة عملية (كالتظاهر أو غيره)، حيث يكون أثر التعبير مُضاعفًا في هذه الحالة. ففي “سكوكي“، وهي إحدى ضواحي ولاية شيكاغو، وتُعد واحدة من الضواحي غير العادية في أمريكا، باعتبار أنها على علاقة سكانية خاصة “بمحرقة هتلر” لليهود في ألمانيا، ويبلغ تعداد سكانها 70 ألف شخصًا، من بينهم 40 ألفًا من اليهود الذين ازداد عددهم بعد الحرب العالمية الثانية، قال المسؤولون إن “فرانك كولين“، وهو زعيم المنظمة النازية التي تدعم الحزب الاشتراكي القومي اﻷمريكي، وتتحدث رسالته عن تفوق العنصر اﻷبيض وسيادته، وعن كراهية السود واليهود، يريد تنظيم مظاهرة سلمية أمام القرية احتجاجًا على قرار أصدره مجلس القرية، ينص على إيداع تأمين قدره 350 ألف دولارًا كشرط لاستخدام حدائق القرية لتنظيم الاجتماعات. كما أبلغ كولين المسؤولين أن المظاهرة ستتألف من عدد يتراوح بين ثلاثين إلى خمسين من المحتجين، وأنهم سيرتدون زيًا مشابهًا لما كان يرتديه الحزب النازي أثناء حكم هتلر، وعليه علامات الصليب المعقوف، وشارات تحمل هذه العلامة أيضًا على أذرعهم. بالإضافة لحملهم لأعلام الحزب المرسوم بها الصليب المعقوف. مع العلم بأن قرية سكوكي تضم بين سكانها اليهود ما يقارب الخمسة آلاف ممن تعرضوا مباشرة للاضطهاد النازي، وكانوا متقاربين ومنظمين تنظيمًا جيدًا.
على الفور رفعت بلدة سكوكي دعوى لمنع المتظاهرين من عرض أية مواد تحرّض أو تشجع على الكراهية ضد اﻷشخاص من أصل يهودي أو ممن يعتنقون الديانة اليهودية، بما في ذلك ارتداء الزي الرسمي النازي أو التلويح بالصليب المعقوف.
وقالت القرية إن المسيرة ليست سوى “هجوم رمزي ضد عدد كبير من سكان القرية” وإنها تحريض على العنف والانتقام. وعقدت ولاية إيلينوى جلسات لطلب منع المسيرة، واستمعت إلى دلائل تؤشر لأن ما بين 15 إلى 18 منظمة يهودية، إلى جانب جماعات أخرى معادية للنازية، تخطط للقيام بمظاهرة مضادة، إذا سمحت المحكمة للنازيين بالقيام بمسيرتهم. وقال مسئولو القرية إن مسيرة النازيين والمظاهرات المضادة، ستؤدي لموقف عنيف لا تمكن السيطرة عليه.
أصدرت المحكمة قرارها بمنع المظاهرة. وأيدت محكمة الاستئناف اﻷولى قرار المنع. وأحيلت القضية بعد ذلك إلى المحكمة العليا للاستئناف بالولاية، والتي رفضت طلبًا بالإسراع في نظر القضية، كما رفضت وقف قرار المنع حتى تحكم في الاستئناف.
وفي قرار أصدرته أغلبية من خمسة قضاة ضد أربعة، قررت المحكمة العليا اﻷمريكية أن التعديل الدستوري اﻷول، القاضي بعدم جواز إصدار قوانين تحد من حرية الرأي والتعبير، قد انتُهك، ﻷن محكمة استئناف إيلينوي العليا فشلت في إعادة النظر بسرعة في القضية، ولأنها أصدرت قرارًا بوقف منع المسيرة حتى يمكن نظر القضية نفسها.
وأعادت المحكمة العليا القضية إلى محكمة استئناف إيلينوي، التي عدلت هذه المرة قرار المنع، وجعلته قاصرًا على حظر استخدام علامة الصليب المعقوف في المسيرة. ثم أعادت محكمة استئناف ولاية إيلينوي العليا بعدها النظر في هذا القرار، وقررت في النهاية أن أمر حظر المسيرة بأكمله غير صحيح قانونيًا.
استندت المحكمة في قرارها –والذي ينصح بقراءته– إلى أنه رغم احتواء الخطاب المزمع استخدامه في تلك الفعالية على جوانب تحريضية، ورغم احتمالية وقوع أضرار أو مخاطر وشيكة تهدد السلم العام، ورغم الأذى العاطفي الذي قد يصيب قطاعًا من الجمهور المخاطب بسبب ما يحمله الخطاب من كراهية وعنصرية، إلا أن الحق في حرية التعبير أولى بالحماية، وخصوصًا إذا ما كان في إمكان السلطات المحلية اتخاذ ما يستلزمه ذلك من وسائل الحماية والتأمين، لضمان عدم تطور الخطاب لدرجة قد يحدث معها أي تراشق أو عنف محتمل. وبالتالي، ورغم أن المحكمة أعملت نظرية التوازن في الفصل بين المتنازعين، إلا أنها مالت بشكل واضح لحماية حرية التعبير لأبعد حد، لترسي بذلك قاعدة فقهية تجعل حماية حرية التعبير، وإن اشتمل علي بعض أوجه التحريض أو الكراهية أو التمييز العنصري أو العرقي، أمرًا مقبولًا. هنا يتجلى الفهم العميق لدى المحكمة لما يُمكِن أن يتسبب فيه تعظيم دور الدولة في فرض القيود على التعبير الحُر عن الرأي (وإن كان تحريضيًا أو عنصريًا) من بسط سيطرتها لتحديد ما هو مسموح في بضاعة الكلام، وما يجب حظره باعتباره خطرًا قد يهدد السلم العام.
وفي النهاية؛ لا يجب أن تتسرع في حكمك بعد قراءة كل هذا السياق –الذي يجب أن يشكّل أرضية متماسكة لتكوين موقفك– فانطباق أحد المعايير لا يعني قبول حظر هذا الكلام، وتقييد التعبير الحُر عن الرأي، ولكن انظر لكل حالة منهم على حدة وحاول أن تسأل نفسك تلك الأسئلة، لفهم السياق الملازم للواقعة. واحصل على إجابة وأقبل أي نقاش حولها، دون ممارسة أي شكل من الإرهاب الفكري لجعل موقفك هو الموقف السليم – رغم إيماني بأن اﻹرهاب الفكري أيضًا محمي باعتباره نوعًا عنيفًا من ممارسة حرية التعبير، ولا يخرج عن نطاق الحماية. والأهم هو ألا تمارس نفس الخطاب في نقدك للخطاب الذي تراه تحريضيًا.
هذا ما لم نجده في أغلب النماذج المثارة في الآونة الأخيرة، حتى امتلأ الجو العام بالدعوات التي يمكن اعتبارها رقابة مجتمعية شديدة الخطورة علي الحق في حرية التعبير، والتي قد تكون سيفًا ذا حدين، يستخدمه المختلفون في الأفكار والسلطات المعنية استخدامًا سياسيًا، لوضع مزيد من القيود والتهديدات على حرية التعبير. ذلك إلى جانب التطرف الذي شاهدناه ممثلًا بالدعوات لتقديم نائب برلماني للمحاكمة على خلفية تصريحات شديدة الرجعية وتحمل قدرًا من الكراهية والتحريض، دون النظر للحصانة البرلمانية والتي تمنح عضو البرلمان حماية خاصة لطرح كل ما يقتنع به، حتى لو كان هذا الكلام يمثل خطاب كراهية أو عنصرية. فلا تجوز محاسبة العضو البرلماني أمام المحاكم، لكن الطريق اﻷفضل هو الطريق التأديبي، وهو ما حدث بالفعل عندما أحيل إلى لجنة القيم. هذا ليس تمييزًا سلبيًا، لأننا نحاول دائمًا رؤية الصورة من زاوية واحدة، ولكن الصورة الكاملة تؤكد أن خطوة رفع الحصانة عن نواب البرلمان في التعبير الحُر عن رأيهم –أيًا كان– ستكون عواقبها وخيمة جدًا على مستويات أخرى.
فعلى سبيل المثال أيضًا، ماذا سيكون موقفنا إذا وجدنا أفرادًا يحالون للمحاكمة بسبب تعبيرات شبيهة لما أطلقها ناجي عباس، ولكن بحق أحد رموز أو مؤيدي السلطة السياسية؟ إن المحاولات المستمرة –بوعي أو بدون– للذهاب بالكلام للمحكمة وغياب الحلول الأخرى، كمحاولة منافسة الأفكار بالأفكار واستخدام الطريق التأديبي، لا يُنتجان سوى تعظيم حالة الرقابة الذاتية من قبل صاحب التعبير، حتى لا تتسبب أفكاره في الذهاب به للسجن. هذه ليست دعوة مثالية للتسامح، ولكنها محاولة لإعمال التفكير واستغلال الجهد البشري المبذول –وقيد التطور– لفض الاشتباك بين حرية التعبير وخطابات الكراهية والتحريض، ومعرفة الحدود المسموح بها للتعبير الحُر. وأؤكد أخيرًا أن كل النقاش والاجتهادات التي حاولت تفصيلها لا تمثل “كتالوجًا” لقياس ما إذا كان الكلام مسموحًا أم يجب حظره وملاحقته قانونًا، ولكنها مساهمة حتى لا يدور النقاش من نقطة الصفر في كل مرة، وبدون أي مجهود يحاول وضع إطار ما وضوابط بعينها لسياق النقاش العام وتوجهاته.
إن الغريزة اﻹنسانية لفرض الرقابة تنتعش وتنمو، كما ستظل تنتعش وتنمو، وهي تعيش في صدام لا يسهل كبته مع الغريزة اﻹنسانية اﻷخرى لحب الكلام. إن ثورة الغضب، والتمسك بالصراط المستقيم، وجنون العظمة، كلها تغذي الرقابة. ولكن كبت الكلام لا يقلل أبدًا من المعدل الصافي لجنون العظمة في المجتمع، وإنما بكل بساطة يوجّهه إلى وجهة أخرى، ويبعث به تحت اﻷرض، حيث يتحول هناك إلى هستيريا أكثر خطورة.
نشر هذا المقال في مدى مصر بتاريخ 29 أكتوبر 2016