قرار النيابة العامة
فى قضية
كتاب الشعر الجاهلى
نحن محمد نور رئيس نيابة مصر
من حيث أنه بتاريخ 30 مايو سنة 1926 تقدم بلاغ من الشيخ خليل حسنين الطالب بالقسم العالى بالأزهر لسعادة النائب العمومى يتهم فيه الدكتور طه حسين بالجامعة المصرية بأنه ألف كتابا أسماه ” فى الشعر الجاهلى ” ونشره على الجمهور وفى هذا الكتاب طعن صريح فى القرآن العظيم حيث نسب الخرافة والكذب لهذا الكتاب السماوى الكريم إلى أخر ما ذكر فى بلاغه.
وبتاريخ 5 يونيو سنة 1926 أرسل فضيلة شيخ الأزهر لسعادة النائب العمومى خطايا يبلغ له به تقريرا رفعه علماء الجامع الأزهر عن كتاب ألفه طه حسين المدرس بالجامعة المصرية أسماه فى “الشعر الجاهلى” كذب فيه القرآن صراحة وطعن فيه على النبى صلى الله وعليه وسلم وعلى نسبه الشريف وأهاج بذلك ثائرة المتدينين وآتى فيه بما يخل بالنظم العامة ويدعو الناس للفوضى وطلب إتخاذ الوسائل القانونية الفعالة الناجعة ضد هذا الطاعن على دين الدولة الرسمى وتقديمه للمحاكمة وقد أرفق بهذا البلاغ صورة من تقرير أصحاب الفضيلة والعلماء الذى أشار إليه فى كتابه.
وبتاريخ 14 سبتمبر سنة 1926 تقدم الينا بلاغ أخر من حضره عبد الحميد البنان أفندى عضو مجلس النواب ذكر فيه أن الأستاذ طه حسين المدرس بالجامعة المصرية نشر ووزع وباع وعرض للبيع فى المحافل والمحلات العمومية كتابا أسماه ” فى الشعر الجاهلى ” طعن وتعدى فيه على الدين الاسلامى وهو دين الدولة بعبارات صريحة واردة فى كتابه مما سيبينه فى التحقيقات.
وحيث أنه نظرا لتغيب الدكتور طه حسين خارج القطر المصرى فقد أرجانا التحقيق إلى ما بعد عودته فلما عاد بدأنا التحقيق بتاريخ 19 أكتوبر سنة 1926 فأخذنا أقوال المبلغين جملة بالكيفية المذكورة بمحضر التحقيق ثم استجوبنا المؤلف وبعد ذلك أخذنا فى دراسة الموضوع بقدر ما سمحت لنا الحالة.
وحيث قد أتضح من أقوال المبلغين أنهم ينسبون للمؤلف أنه طعن على الدين الإسلامى فى مواضع أربعة من كتابه:
الأول: أن المؤلف أهان الدين الأسلامي بتكذيب القرآن في أخباره عن ابراهيم واسماعيل حيث ذكر في ص26 من كتابه ” للتوراه أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا ولكن ورود هذين الأسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لأثبات وجودهما التاريخي فضلا عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلي مكة ونشأة العرب المستعربة فيها ونحن مضطرون إلي أن نري في هذه القصة نوعا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة وبين الأسلام واليهودية والتورآه من جهة أخري الي آخره ما جاء في هذا الصدد.
الثاني: ما تعرض له المؤلف في شأن القراآت السبع المجمع عليها والثابتة لدي المسلمين جميعا وأنه في كلامه عنها يزعم عدم إنزالها من عند الله وأن هذه القراآت انما قرأتها االعرب حسب ما استطاعت لا كما أوحي الله بها إلي نبيه مع أن معاشر المسلمين يعتقدون أن كل هذه القراآت مروية عن الله تعالي علي لسان النبي صلي الله عليه وسلم .
الثالث: ينسبون للمؤلف أنه طعن في كتابه علي النبي صلي الله عليه وسلم طعنا فاحشا من حيث نسبه فقال في ص72 من كتابه ” ونوع آخر من تأثير الدين في إنتحال الشعر وإضافته إلي الجاهلين وهو ما يتصل بتعظيم شأن النبي من ناحية أسرته ونسبه في قريش فالأمر ما اقتنع الناس بأن النبي يجب أن يكون صفوة بني هاشم وأن يكون بنو هاشم صفوة بني عبد مناف وأن يكون بنو عبد مناف صفوة بني قصي وأن تكون قصي صفوة قريش وقريش صفوة مضر ومضر صفوة عدنان وعدنان صفوة العرب والعرب صفوة الأنسانية كلها ” وقالوا أن تعدي المؤلف بالتعريض بنسب النبي صلي الله عليه وسلم والتحقير من قدرة تعد علي الدين وجرم عظيم يسيء المسلمين والأسلام فهو قد إجترأ علي أمر لم يسبقه إليه كافر ولا مشرك.
الرابع: أن الأستاذ المؤلف أنكر أن للأسلام أولية في بلاد العرب وأنه دين إبراهيم إذ يقول في ص 80 أما المسلمون فقد أرادوا أن يتثبتوا أن للأسلام |أولية في بلاد العرب كانت من قبل أن يبعث االنبي وأن خلاصة الدين الأسلامي وصفوته هي خلاصة الدين الحق الذي أوحاه الله الي الأنبياء من قبل – إلي أن قال في ص81 وشاعت في العرب أثناء ظهور الإسلام وبعده فكرة أن الإسلام يجدد دين إبراهيم ومن هنا أخذوا يعتقدون أن دين إبراهيم هذا قد كان دين العرب في عصر من العصور ثم أعرضت عنه لما أضلها به المضلون وأنصرفت إلي عبادة الأوثان ألي أخر ما ذكره في هذا الموضوع.
ومن حيث أن العبارات التي يقول المبلغون أن فيها طعنا علي الدين الإسلامي إنما جاءت في الكتاب في سياق الكلام علي موضوعات كلها متعلقة بالغرض الذي ألف من أجله فلا جل الفصل في هذه الشكوي لا يجوز إنتزاع تلك العبارات من مواضعها والنظر إليها منفصلة وإنما الواجب توصلا إلي تقديرها تقديرا صحيحا بحثها حيث هي في مواضعها من الكتاب ومناقشتها في السياق الذي وردت فيه وبذلك يمكن الوقوف علي قصد المؤلف منها وتقدير مسؤليته تقدير صحيح.
عن الأمر الأول
من حيث أن أهم ما يلفت النظر ويستحق البحث فى كتاب الشعر الجاهلى من حيث علاقته بموضوع هذه الشكوى إنما هو ما تناوله المؤلف بالبحث فى الفصل الرابع تحت عنوان الشعر الجاهلى واللغة من ص 24 إلى ص 30.
ومن حيث أن المؤلف بعد أن تكلم فى الفصل الثالث من كتابه على أن الشعر المقال بأنه جاهلى لا يمثل الحياة الدينية والعقلية للعرب الجاهلييين أراد فى الفصل الرابع أن يقدم أبلغ ما لديه من الأدلة على عدم التسليم بصحة الكثرة المطلقة من الشعر الجاهلى فقال أن هذا الشعر بعيد كل البعد عن أن يمثل اللغة العربية فى العصر الذى يزعم الرواه أنه قيل فيه.
وحيث أن المؤلف أراد أن يدلل على صحة هذه النظرية فرأى بحق من الواجب عليه أن يبدأ بتعرف اللغة الجاهلية فقال ( ولنجتهد فى تعرف اللغة الجاهلية هذه ما هى أو ماذا كانت فى العصر الذى يزعم الرواه أن شعرهم الجاهليى هذا قد قيل فيه ) وقد أخذ فى بحث هذا الأمر فقال أن الرأى الذى اتفق عليه الرواه أو كادوا يتفقون عليه هو أن العرب ينقسمون إلى قسمين قحطانية منازلهم الأول فى اليمن وعدنانية منازلهم الأولى فى الحجاز وهو متفقون على أن القحطانية عرب منذ خلقهم الله فطروا على العربية فهم العارية وعلى أن العدنانية قد أكتسبوا العربية اكتسابا كانون يتكلمون لغة أخرى هى العبرانية أو الكلدانية ثم تعلموا لغة العرب العاربة فمحت لغتهم الأولى من صدورهم وثبت بها هذه اللغة الثانية المستعارة وهم متفقون على أن هذه العدنانية المستعربة أنما يتصل نسبها باسماعيل بن إبراهيم وهم يروون حديثا يتخذونه أساسا لكل هذه النظرية خلاصته أن أول من تكلم بالعربية ونسى لغة أبيه اسماعيل بن إبراهيم وبعد أن فرغ من تقرير ما اتفق عليه الرواه فى هذه النقطة قال أن الرواه يتفقون أيضا على شئ أخر وهو أن هناك خلافا قويا بين لغة حمير وبين لغة عدنان مستندا على ما روى عن أبى عمرو بن العلاء من أنه كان يقول ” ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا ” وعلى أن البحث الحديث قد أثبت خلافا جوهريا بين اللغة التى كان يصطنعها الناس فى جنوب البلاد العربية واللغة التى كانوا يصطنعونها فى شمال هذه البلاد وأشار إلى وجود نقوش ونصوص تثبت هذا الخلاف فى اللفظ وفى قواعد النحو والتصريف بعد ذلك حاول المؤلف حل هذه المسألة بسؤال انكارى فقال إذا كان أبناء إسماعيل قد تعلموا العربية العاربة فكيف بعد ما بين اللغتين لغة العرب العاربة ولغة العرب المستعربة ثم قال أنه واضح جدا لمن له المام بالبحث التاريخى عامة ويدرس الاقاصيص والاساطير خاصة أن هذه النظرية متكلفة مصطنعة فى عصور متأخرة دعت إليها حاجة دينية أو اقتصادية أو سياسية.
ثم قال بعد ذلك : للتوراه أن تحدثنا عن إبراهيم واسماعيل وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا ولكن ورد هذين الأسمين فى التوراه والقرآن لا يكفى لاثبات وجودهما التاريخى فضلا عن اثبات هذه القصة التى تحدث بهجرة اسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها – وظاهر من إيراد المؤلف هذه العبارة أنه أراد أن يعطى دليله شيئا من القوة بطريقة التشكك فى وجود إبراهيم وإسماعيل التاريخى وهو يرمى بهذا القول أنه ما دام إسماعيل وهو الأصل فى نظرية العرب العاربة والعرب المستعربة مشكوكا فى وجوده التاريخى فمن باب أولى ما ترتب على وجوده مما يريه الرواه.
أراد المؤلف أن يوهم بأن لرأية اساسا فقال ” ونحن مضطرون إلى أن نرى فى هذه القصة نوعا من الحيلة فى إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراه من جهة أخرى ثم أخذ يبسط الأسباب التى يظن أنها تبرر هذه الحيلة إلى أن قال : أمر هذه القصة أذن واضح فهى حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام واستغلها الاسلام لسبب دينى وسياسى ايضا واذن فيستطيع التاريخ الأدبى واللغوى أن لا يحفل بها عندما يريد أن يتعرف أصل اللغة العربية الفصحى واذن فنستطيع أن نقول أن الصلة يبن اللغة العربية الفصحى التى كانت تتكلمها العدنانية واللغة التى كانت تتكلمها القحطانية فى اليمن إنما هى كالصلة بين اللغة العربية وأى لغة أخرى من اللغات السامية المعروفة وأن قصة العاربة والمستعربة وتعلم اسماعيل العربية من جرهم كل ذلك أحاديث أساطير لا خطر له ولا عناء فيه.
وهنا يجب أن نلاحظ على الدكتور مؤلف الكتاب:
1- أنه خرج من بحثه هذا عاجزا كل العجز عن أن يصل إلى غرضه الذى عقد هذا الفصل من أجله (..) وبيان ذلك أنه وضع فى أول الفصل سؤلا وحاول الاجابة عليه وجواب هذا السؤال فى الواقع هو الأساس الذى يجب أن يرتكز عليه فى التدليل على صحة رأية هو يريد أن يدلل على أن الشعر الجاهلي بعيد كل البعد عن أن يمثل اللغة العربية فى العصر الذى يزعم الرواه أنه قيل فيه وبديهى أنه للوصول إلى هذا الغرض يتعين على الباحث تحضير ثلاثة أمور :
1- الشعر الذى يريد أن يبرهم على أنه منسوب بغير حق للجاهلية.
2- الوقت الذى يزعم الرواه أنه قيل فيه.
3- اللغة التى كانت موجود فعلا فى الوقت المذكور.
وبعد أن تتهيا له هذه المواد يجرى عملية المقارنة فيوضح الاختلافات الجوهرية بين لغة الشعر وبين لغة الزمن الذى روى أنه قيل فيه ويستخرج بهذه الطريقة الدليل على صحة ما يدعيه – لهذا تتضح أهمية السؤال الذى وضعه بقوله ” لنجتهد فى تعرف اللغة الجاهلية هذه ما هى أو ما إذا كانت فى العصر الذى يزعم الرواه أن شعرهم الجاهلى هذا قد قيل فيه ” وتتضح أيضا أهملية الاجابة عليه.
ولكن الاستاذ المؤلف وضع السؤال وحاول الاجابة عليه وتطرق فى بحثه إلى الكلام على مسائل فى غاية الخطورة صدم بها الامة الاسلامية فى أعز ما لديها من الشعور ولوث نفسه بما تناوله من البحث فى هذا السبيل بغير فائدة ولم يوفق إلى الاجابة بل خرج من البحث بغير جواب اللهم الا قوله : أن الصلة بين اللغة العدنانية وبين اللغة القحطانية انما هى كالصلة بين اللغة العربية وأى لغة أخرى من اللغات السامية المعروفة وبديهى أن ما وصل إليه ليس جوابا على السؤال الذى وضعه وقد نوقش فى التحقيق فى هذه المسالة فلم يستطع رد هذا الاعتراض ولا يمكن الاقتناع بما ذكره فى التحقيق من أنه كتب الكتاب للاخصائيين من المستشرقين بنوع خاص وأن تعريف هاتين اللغتين عن الاحصائيين واضح لا يحتاج إلى أن يذكر لان قوله هذا عجز عن الجواب كما أن قوله أن اللغة الجاهلية فى رأية ورأى القدماء والمستشرقين لغتان متباينتان لا يمكن أن يكون جوابا على السؤال الذى وضعه لأن غرضه من السؤال واضح فى كتابه إذ قال ” ولنجتهد فى تعرف اللغة الجاهلية هذه ما هى ” وقد كان قرر قبيل ذلك “فنحن إذا ذكرنا اللغة العربية نريد بها معناها الدقيق المحدود الذى نجده فى المناجم حيث نبحث فيها عن لفظ اللغة ما معناها نريد بها الالفاظ من حيث هى الفاظ تدل على معانيها تستعمل حقيقة مرة ومجازا مرة اخرى وتتطور تطورا ملائما لمقتضيات الحياة التى يحياها أصحاب اللغة فبعد أن حدد هو بنفسه معنى اللغة الذى يريده فلا يمكن أن يقبل منه ما أجاب به من أن مراده أن اللغة لغتان بدون أن يتعرف واحدة منها . فالمؤلف اذن فى واحدة من اثنتين اما أن يكون عاجزا وأما أن يكون سيئ النية قد جعل هذا البحث ستارا ليصل بواسطته إلى الكلام فى تلك المسائل الخطيرة التى تكلم عنها فى هذا الفصل وسنتكلم فيما بعد عن هذه النقطة عند الكلام على القصد الجنائى.
2- أنه استدل على عدم صحة النظرية التى رواها الرواه تقسيم العرب إلى عاربة ومستعربة وتعلم اسماعيل العربية من جرهم باعتراض وضعه فى صيغة سؤال انكارى. إذا كان أبناء اسماعيل قد تعلموا العربية من أولئك العرب الذى نسميهم العاربة فكيف بعد ما بين اللغة التى كان يصطنعها العرب المستعربة واللغة التى كان يصطنعها العرب المستعربة يريد المؤلف بهذا ان يقول لو كانت نظرية تعلم اسماعيل واولاده العريبة من جرهم صحية لوجب أن تكون لغة المتعلم كلغة المعلم وهذا الاعتراض وجيه فى ذاته ولكنه لا يفيد المؤلف فى التدليل على صحة رايه لانه نسى أمرا هاما لا يجوز غض النظر عنه. هو يشير إلى الاختلافات التى بين لغة حمير ولغة عدنان وهو يقصد بلغة عدنان اللغة التى كانت موجودة وقت نزول القرآن لانه يرى من الاحتياط العلمى أن يقرر أن أقدم نص عربى للغة العدنانية هو القرآن وهو يعلم أن حمير أخر دول العرب القحطانية وقد مضى من وقت وجود اسماعيل إلى وقت وجود حمير زمن طويل جدا أى أنه قد انقضى من الوقت الذى يروى أن اسماعيل تعلم فيه اللغة العريبة من جرهم إلى الوقت الذى أختاره المؤلف للمقارنة بين اللغتين زمن يتعذر تحديده ولكنه على كل حال زمن طويل جدا لا يقل عن عشرين قرنا فهل يريد المؤلف مع هذا أن يتخذ الاختلافات التى بين اللغتين دليلا على عدم صحة نظرية الرواه غير حاسب حسابا للتطور الواجب حصوله فى اللغه بسبب مضى هذا الزمن الطويل وما يستدعيه توال العصور من تتابع الحوادث واختلاف الظروف أن الاستاذ قد أخطأ فى استنتاجه بغير شك ونستطيع اذن أن نقول أن استنتاجه لا يصلح دليلا على فساد نظرية الرواه التى يريد أن يهدمها وانه إذا ما ثبت وجود اختلاف مهما كان مداه بين اللغتين فإن هذا لا ينفى صحة الرواية التى يرويها الرواه من حيث تعلم اسماعيل العربية من جرهم ولا يضيرها أن الاستاذ المؤلف ينكرها بغير دليل لان طريقة الانكار والتشكك بغير دليل طريقة سهلة جدا فى متناول كل إنسان عالما كان أو جاهلا.
على أننا نلاحظ أيضا على المؤلف أنه لم يكن دقيقا فى بحثه وهو ذلك الرجل الى يتشدد كل التشدد فى التمسك بطرق البحث الحديثة ذلك أنه ارتكن على اثبات الخلاف بين اللغتين على أمرين الأول ما روى عن أى عمرو بن العلاء من أنه كان يقول ” ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا ” والثانى قوله ” ولدينا الان نقوش ونصوص تمكننا من إثبات هذا الخلاف فى اللفظ وفى قواعد النحو والتصريف أيضا .
أما عن الدليل الأول فإن ما رواه أو عبد الله بن سلام الجحمعى مؤلف طبقات الشعراء عن أبى عمرو بن العلاء نصه ( ما لسان حمير وأقاصى اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا ) وقد يكون للمؤلف مآرب من وراء تغيير هذا النص على أن الذى نريد أن نلاحظه هو أن إبن سلام ذكر قبيل هذه الرواية فى الصفحة نفسها ما يأتى : واخبرنى يونس عن أبى عمرو وقال ( العرب كلها ولد اسماعيل إلا حمير وبقايا جرهم) راجع ص 8 من كتاب طبقات الشعراء طبع مطبعة السعادة فواجب على المؤلف إذن وقد اعتمد صحة العبارة الأولى أن يسلم أيضا بحصة العبارة الثانية لأن الراوى واحد والمروى عنه واحد وتكون نتيجة ذلك أنه فس ما اعتمد عليه من أقوال أبى عمرو بن العلاء بغير ما آراده بل فسره بعكس ما آراده ويتعين اسقاط هذا الدليل.
وأما عن الدليل الثانى فإن المؤلف لم يتكلم عنه بأكثر من قوله ولدينا الآن نقوش ونصوص تمكننا من إثبات هذا الخلاف .. فأردنا عن استجوابه أن نستوضحه ما أجمل فعجز وليس أدل على هذا العجز من أن نذكر هنا ما دار فى التحقيق من المناقشة بشأن هذه المسألة :
(س) هل يمكن لحضرتكم الآن تعريف اللغة الجاهلية الفصحى وعلى الأخص لغة حمير وبيان الفرق بين لغة حمير ولغة عدنان ومدى هذا الفرق وذكر بعذ أمثلة تساعدنا على فهم ذلك؟
(ج) قلت أن اللغة الجاهلية فى رأيى ورأى القدماء والمستشرقين لغتان متباينتان على الأقل أولاهما لغة حمير وهذه اللغة قد درست الآن ووضعت لها قواعد النحو والصرف والمعاجم ولم يكن شئ من هذا معروفا قبل الاستكشافات الحديثة وهى كما قلت مخالفة للغة العربية الفصحى التى سأتكلم عنها مخالفة جوهرية فى اللفظ والنحو وقواعد الصرف وهى إلى اللغة الحبشية القديمة أقرب منها إلى اللغة العرية الفصحى وليس من شك فى أن الصلة بينها وبين لغة القرآن والشعر كالصلة بين السريانية وبين هذه اللغة القرآنية – فأما ايراد النصوص والأمثلة فيحتاج إلى ذاكرة لم يهبا الله لى ولابد من الرجوع إلى الكتب المدونة فى هذه اللغة.
(س) هل يمكن لحضرتكم أن تبينوا لنا هذه المراجع أو تقدموها لنا؟
(ج) أنا لا أقدم شيئا.
(س) هل يمكمن لحضرتكم أن تبينوا لنا إلى أى وقت كانت موجودة اللغة الحميرية ومبدأ وجودها أن أمكن؟
(ج) مبدأ وجودها ليس من السهل تحديده ولكن لا شك فى أنها كانت معروفة تكتب قبل القرن الأول للمسيح وظلت تتكلم إلى ما بعد الاسلام ولكن ظهور الاسلام وسيادة اللغة القرشية قد محى هذه اللغة شيئا فشيئا كما محى غيرها من اللغات المختلفة فى البلاد العربية وغير العربية واقر مكانها لغة القرآن.
(س) هل يمكن لحضرتكم أيضا أن تذكروا لنا مبدأ اللغة العدنانية ولو بوجه التقريب؟
(ج) ليس من السهل معرفة مبدأ اللغة العدنانية وكل ما يمكن أن يقال بطريقة علمية هو أن لدينا نقوشا قليلة جدا يرجع عهدها إلى القرن الرابع للميلاد وهذه النقوش قريبة من اللغة العدنانية ولكنم المستشرقين يرون أنها لهجة بنطية واذن فقد يكون من احتياط العلم أن يرى أن أقدم نص عربى يمكن الاعتماد عليه من الوجهة العلمية إلى الآن انما هو القرآن حتى نستكشف نقوشا أظهر وأكثر مما لدينا.|
(س) هل تعتقدون حضرتكم أن اللغة سواء كانت اللغة الحيرية أو اللغة العدنانية كانت باقية على حالها من وقت نشأتها أو حصل فيها تغيير بسبب تمادى الزمن والاختلاط؟
(ج) ما أظن أن لغة من اللغات تستطيع أن تبقى قرونا دون أن تتطور ويحصل فيها التغيير الكثير.
ونحن مع هذا نريد أن ننفى وجود اختلاف بين اللغتين ولا نقصد أن نعيبب على المؤلف جهلة بهذه الأمور فانها فى الحقيقة لازالت من المجاهل وما وصل إليه المستشرقون من الاستكشافات لا ينير الطريق وإنما الذى نريد أن نسجله عليه هو أنه بنى أحكامه على أساس لازال مجهولا إذ أنه يقرر بجرأة فى أخر الفصل التى نتكلم بشأنه ” والنتيجة لهذا البحث كله تردنا إلى الموضوع الذى ابتدأنا به منذ حين وهو أن هذا الشعر الذى يسمونه الجاهلى لا يمثل اللغة الجاهلية ولا يمكن أن يكون صحيحا ذلك لأننا نجد بين هؤلاء الشعراء الذين يضيفون إليهم كثيرا من الشعر الجاهلى قوم ينتسبون إلى عرب اليمن إلى هذه القحطانية العاربة التى كانت تتكلم لغة غير لغة القرآن والتى كان يقول عنها أبو عمرو بن العلاء أن لغتها مخالفة للغة العرب والتى أثبت البحث الحديث أنها لغة أخرى غير اللغة العربية فمتى قال أبو عمرو بن العلاء أنها لغة مخالفة للغة العرب لقد أشرنا إلى التغيير الذى أحدثه المؤلف فيما روى عن أبى عمرو حيث حذف من روايته “ولا عربيتهم بعربيتنا” ووضع محلها ” ولا لغتهم بلغتنا ” وقلنا قد يكون للمؤلف مآرب من وراء هذا التغيير أيضا والتى أثبت البحث الحديث أن لها لغة أخرى غير اللغة العربية وقد بينا فيما سلف أنه عجز فى هذه المسألة عن إثبات ما يدعيه – ومن الغريب أنه عندما بدأ البحث أكتفى بأن قال ولدينا الآن نقوش ونصوص تمكننا من إثبات هذا الخلاف فى اللفظ وفى قواعد النحو والتصريف أيضا ولكنه انتهى بأن قرر بأن البحث الحديث أثبت أن لها لغة أخرى غير اللغة العربية.
قرر الأستاذ فى التحقيق أنه لا شك فى أن اللغة الحميرية ظلت تتكلم إلى ما بعد الإسلام فإن كانت هذه اللغة هى لغة أخرى غير اللغة العربية كما يوهم أنه أنتهى به بحثه فهل له أن يفهمنا كيف إستطاع عرب اليمن فهم القرآن وحفظه وتلاوته؟
نحن نسلم بأنه لابد من وجود اختلافات بين لغة حمير وبين لغة عدنان بل ونقول انه لابد من وجود شئ من الاختلافات بين بعض القبائل وبين البعض الاخر ممن يتكلمون لغة واحدة من اللغتين المذكورتين ولكنها على كل حال اختلافات لا تخرجها عن العربية وهذه الاختلافات هى التى قصدها ابو عمرو بن العلاء بقوله ” ما لسان حمير بلساننا ” والمؤلف لا يستطيع أن ينكر الاختلاط الذى لابد منه بين القبائل المختلفة خصوصا فى أمة متنقلة بطبيعتها كالامة العربية ولابد لها جميعا من لغة عامة تتفاهم بها هى اللغة الادبية وقد أشار هو بنفسه إليها فى ص 17. من كتابه حيث قال عن القرآن ” ولكنه كان كتابا عربيا لغته هى اللغة العربية الأدبية التى كان يصطنعها الناس فى عصره أى فى العصر الجاهلى وهذه اللغة الادبية هى لغة الكتابة ولغة الشعر والمؤلف نفسه عندما تكلم فى الفصل الخامس عن الشعر الجاهلى واللهجات بحث فى الصحف 35-36-37 بحثا يؤيد هذا المعنى وان كان يدعى بغير دليل ان الاسلام قد فرض على العرب جميعيا لغة عامة واحدة هى لغة قريش مع أنه سبق أن ذكر فى صحيفة 17 أن لغة القرآن هى اللغة العربية الادبية التى كان يصطنعها الناس فى عصره أى فى العصر الجاهلى فلم لا تكون لهذه اللغة الادبية السيادة العامة من قبل نزول القرآن بزمن طويل وكيف يستطيع هو هذا التحديد وعلام يستند؟ يتضح مما نقدم أن عدم ظهور خلاف فى اللغة لا يدل فى ذاته حتما على عدم صحة الشعر ونحن لا نريد بما قدمنا أن نتولى الدفاع عن صحة الشعر الجاهلى اذا أن هذه المسألة ليست حديثة العهد ابتدعها المؤلف وانما هى مسألة قديمة قررها أهل الفن وللشعر كما قال ابن سلام صناعة وثقافة يعرفها اهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات وهو يحتاج فى تمييزه إلى خبير كاللؤلؤ والياقوت لا يعرف بصفة ولا وزن دون المعاينة ممن يبصره – ولكن الذى نريد أن نشير إليه إنما الخطأ الذى اعتاد أن يترتكبه المؤلف فى أبحاثه حيث يبدأ بافتراض يتخيله ثم ينتهى بان يرتب عليه قواعد كأنها حقائق ثابتة كما فعل فى أم الاختلافات بين لغة حمير ولغة عدنان ثم فى مسألة إبراهيم وإسماعيل وهجرتهما إلى مكة وبناء الكعبة اذا بدأ فيها باظهار الشك ثم انتهى باليقين بدا بقوله للتوراه أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا ولكن ورود هذيه الاسمين فى التوراه والقرآن لا يكفى لاثبات وجودهما التاريخى فضلا عن إثبات هذه القصة التى تحدثنا بهجرة اسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها إلى هنذا أظهر الشك لعدم قيام الدليل التاريخى فى نظرة كما تتطلبه الطرق الحديثة ثم إنتهى بأن قرر فى كثير من الصراحة : أمر هذه القصة اذن واضح فهى حديثة العهد ظهرت قبيل الاسلام واستغلها الاسلام لسبب دينى الخ فما هو الدليل الذى انتقل به من الشك إلى اليقين؟
هل دليله هو قوله نحن مضطرون إلى أن نرى فى هذه القصة نوعا من الحيلة فى إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة وبين الاسلام واليهودية والقرآن والتوراه من جهة أخرى – وأن أقدم عصر يمكن أن تكون قد نشأت فيه هذه الفكرة انما هو هذا العصر الذى أخذ اليهود يستوطنون فيه شمال البلاد العربية ويبثون فيه المستعمرات الخ – وان ظهور الاسلام وما كان من الخصومة العنيفة بينهه وبين وثنية العرب من غير أهل الكتاب قد أقتضى أن نثبت الصلة بين الدين الجديد وبين ديانتى النصارى واليهود وأنه مع ثبوت الصلة الدينية يحسن أن تؤيدها صلة مادة الخ.
إذا كان الاستاذ المؤلف يرى أن ظهور الاسلام قد اقضى أن تثبت الصلة بينه وبين ديانتى اليهود والنصارى وان القرابة المادية الملفقة بين العرب وبين اليهود لامة لاثبات الصلة بين الاسلام وبين اليهودية فاستغلها لهذا الغرض فهل له أن يبين السبب فى عدم اهتمامه ايضا بمثل هذه الحيلة لتوثيق الصلة بين الاسلام والنصرانية – وهو اهتمامه هذا معناه عجزه او استهانته بأمر النصرانية – وهل من يريد توثيق الصلة مع اليهود بأى ثمن حتى باستغلال التلفيق هو الذى يقول عنهم فى القرآن :
” لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ” إن الاستاذ ليعجز حقا عن تقديم هذا البيان اذ أن كل ما ذكره فى هذه المسألة انما هو خيال فى خيال وكل ما استند عليه من الأدلة هو (1) فليس يبعد أن يكون (2) فما الى يمنع (3) ونحن نعتقد (4) واذن فليس ما يمنع من أن تقبل هذه الأسطورة (5) واذن فنستطيع أن نقول !
فالاستاذ المؤلف فى بحثه اذا رأى انكار شئ يقول لا دليل من الأدلة التى تتطلبها الطرق الحديثة للبحث حسب الخطة التى رسمها فى منهج البحث وإذا رأى تقرير أمر لا يدلل عليه بغير الأدلة التى احصيناها له وكفى بقوله حجة.
سئل الاستاذ فى التحقيق عن أصل هذه المسألة (أى تلفيق القصة) وهل هى من استنتاجه أو نقلها فقال : هذا فرض فرضته انا دون ان أطلع عليه فى كتاب أخر وقد أخبرت بعد أن ظهر الكتاب أن شيئا مثل هذا الفرض يوجد فى كتب المبشرين ولكن لم أفكر فيه حتى بعد ظهر كتابى – على أنه سواء كان هذا الفرض من تخيله كما يقول أو من نقله عن ذلك المبشر التى يستتر تحت اسم هاشم العربى فانه كلام لا يستند إلى دليل ولا قيمة له ، على أننا نلاحظ أن ذلك المبشر مع ما هو ظاهر من مقاله من غرض الطعن على الإسلام كان فى عبارته أظرف من مؤلف كتاب الشعر الجاهلى لانه لم يتعرض للشك فى وجود إبراهيم واسماعيل بالذات وانما اكتفى بأن أنكر أن اسماعيل أبو العرب العدنانيين وقال أن حقيقة الأمر فى قصة اسماعيل أنها دسيسة لفقهاء قدماء اليهود للعرب تزلفا اليهم الخ كما نلاحظ أيضا أن ذلك المبشر قد يكون له عذره فى سلوك هذا السبيل لان وظيفته التبشير لدينه وهذا غرضه الذى يتكلم فيه ولكن ما عذر الاستاذ المؤلف فى طرق هذا الباب وما هى الضرورة التى الجأته إلى أن يرى فى هذه القصة نوعا من الحيلة الخ ….
وان كان المتسامح يرى له بعض العذر فى التشكك الذى أظهره أولا اعتمادا على عدم وجود الدليل التاريخى كما يقول فما الذى دعاه إلى أن يقول فى النهاية بعبارة تفيد الجزم أمر هذه القصة إذن واضح فهى حديثة العهد ظهرت قبيل الاسلام واستغلها الاسلام لسبب دينى الخ مع اعترافه فى التحقيق بأن المسألة فرض افترضه.
يقول الاستاذ أنه صح افتراضه فإن القصة كانت شائعة بين العرب قبل الاسلام فلما جاء الاسلام استلغها وليس ما يمنع أن يتخذها الله فى القرآن وسيلة لإقامة الحجة على خصوم المسلمين كما اتخذ غيرها من القصص التى كانت معروفة وسيلة إلى الاحتجاج أو إلى الهداية – وهاشم العربى يقول فى مثل هذا : ولما ظهر محمد راى المصلحة فى اقرارها فاقرها وقال للعرب انه انما يدعوهم إلى ملة جدهم هذا الذى يعظمونه من غير أن يعرفوه فسبحان من أوجد هذا اتوافق بين الخواطر…..
أن الاستاذ المؤلف أخطأ فيما كتب وأخطأ أيضا فى تفسير ما كتب وهو فى هذه النقطة قد تعرض بغير شك لنصوص القرآن ولتفسير نصوص القرآن وليس فى وسعه الهرب بادعائه البحث العلمى منفصلا عن الدين فليفسر لنا اذن قوله تعالى فى سورة النساء ” انا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل واسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان الخ ” وقوله فى سورة مريم ” وأذكر فى الكتاب إبراهيم أنه كان صديقا نبياً ” وأذكر فى الكتاب اسماعيل أنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبياً ” وفى سورة أل عمران “قل أمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم واسحاق ويعقوب والاسباط وما أوتى موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ” وغير ذلك من الآيات القرآنية الكثيرة التى ورد فيها ذكر إبراهيم وإسماعيل لا على سبيل الامثال كما يدعى حضرته وهل عقل الأستاذ يسلم بأن الله سبحانه وتعالى يذكر فى كتابه أن ابراهيم نبى وان اسماعيل رسول نبى مع أن القصة ملفقة وما يقول حضرته فى موسى وعيسى وقد ذكرهما الله سبحانة وتعالى فى الأية الأخيرة مع إبراهيم وإسماعيل وقال فى حقهم جميعا لا نفرق بين أحد منهم وهل يرى حضرته أن قصة موسى وعيسى من الاساطير أيضا قد ذكرها الله وسيلة للاحتجاج أو للهداية كما فعل فى قصة ابراهيم واسماعيل ما دامت الآية تقضى بأن لا نفرق بين أحد منهم الحق أن المؤلف فى هذه المسألة يتخبط تخبط الطائش ويكاد يعترف بخطئه لان جوابه يشعر بهذا عندما سألناه فى التحقيق عن السبب الذى دعاه أخيرا لان يقرر بطريقة تفيد الجزم بأن القصة حديثة العهد ظهرت قبيل الاسلام فقال ص 37 من محضر التحقيق : هذه العبارة إذا كانت تفيد الجزم فهى انما تفيده ان صح الفرض الذى قامت عليه وربما كان فيها شئ من الغلو ولكنى اعتقد أن العلماء جميعا عندما يفترضون فروضا علمية يبيحون لانفسهم مثل هذا النحو من التعبير فالواقع انهم مقتنعون فيما بينهم وبين أنفسهم بأن فروضهم راجحة والذى نراه نحن أن موقف الاستاذ المؤلف هنا لا يختلف عن موقف الاستاذ هوار حين يتكلم عن شعر أمية بن أبى اصلت وقد وصف المؤلف نفسه هذا الموقف فى ص 82 و 83 من كتابه بقوله : ” مع أنى من أشد الناس اعجابا بالاستاذ هوار وبطائفة من أصحابه المستشرقين وبما ينتهون إليه فى كثير من الاحيان من النتائج العليمة القيمة فى تاريخ الآدب العربى وبالمناهج التى يتخذونها للبحث فأنى لا أستطيع أن أقرأ مثل هذا الفصل دون أن أعجب كيف يتورط العلماء احيانا فى مواقف لا صلة بينها وبين العلم “.
حقا أن الأستاذ المؤلف قد تورط فى هذا الموقف الذى لا صلة بينه وبين العلم بغير ضرورة يقتضيها بحثه ولا فائدة يرجوها لان النتيجة التى وصل إليها من بحثه وهى قولة ” أن الصلة بين اللغة العدنانية وبين اللغة القحطانية كالصلة بين اللغة العربية وأى لغة أخرى من اللغات السامية المعروفة وان قصة العاربة والمستعربة وتعلم اسماعيل العربية من جرهم كل ذلك حديث أساطير لا خطر له ولا غناء فيه ” ما كانت تستدعى التشكك فى صحة أخبار القرآن عن إبراهيم واسماعيل وبنائهما الكعبة ثم الحكم بعدم صحة القصة وباستغلال الاسلام لها لسبب دينى.
ونحن لا نفهم كيف أباح المؤلف لنفسه أن يخلط بين الدين والعلم وهو القائل بأن الدين يجب أن يكون بمعزل عن هذا النوع من البحث الذى هو بطبيعته قابل للتغيير والنقض والشك والأنكار (ص22 من محضر التحقيق) واننا حين نفصل بين العلم والدين نضع الكتب السماوية موضع التقديس ونعصمها من انكار المنكرين وطعن الطاعنين (ص 24 من محضر التحقيق ) ولا ندرى لم يفعل غير ما يقول فى هذا الموضوع لقد سئل فى التحقيق عن هذا فقال : أن الداعى أنى أناقش طائفة من العلماء والأدباء والقدماء والمحدثين وكلهم يقررون أن العرب المستعربة قد أخذوا لغتهم عن العرب العاربة بواسطة إبيهم اسماعيل بعد أن هاجر وهم جميعا يستدلون على آرائهم بنصوص من القرآن ومن الحديث فليس لى يد من أن أقول بهم أن هذه النصوص لا تلزمنى من الوجهة العلمية.
أما الثابت فى نصوص القرآن فقصة الهجرة وقصة بناء الكعبة وليس فى القرآن نصوص يستدل بها على تقسيم العرب إلى عاربة ومستعربة ولا على أن اسماعيل أب للعرب العدنانيين ولا على تعلم اسماعيل العربية ومن جرهم ونص الآية التى تثبت الهجرة (ربنا أنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) لا يفيد غير اسكان ذرية إبراهيم فى وادى مكة أى أن اسماعيل هوجر به صغيرا (كنص الحديث) إلى هذا الوادى فنشأ فيه بين أهله وهم من العرب وتعلم هو وأبناؤه لغة من نشئوا بينهم وهى العربية لان اللغة لا تولد مع الانسان وانما تكتسب اكتسابا وقد اندمجوا فى العرب فصاروا منهم وهذا الاندمادج لا يترتب عليه أن يكون جميع العرب العدنانيين من ذريته إذ الحكم بهذا يقتضى ان لا يكون مع اسماعيل أحد منهم حتى لا يوجد غير ذريته وهو ما لم يقل به أحد – وياليت الاستاذ المؤلف حذا حذو ذلك المبشر هاشم العربى فى هذه المسألة حيث قال : ” ولا اسماعيل نفسه بأب للعرب المستعربة ولا تملك أحد من بنيه على أمه من الآمم وانما قصارى أمرهم أنهم دخلوا وهم عدد قليل من قبائل العرب العديدة المجاورة لمنازلهم فاختلطوا بها وما كانوا منها إلا كحصاه فى فلاه “(تراجع ص 356 من كتاب مقاله فى الاسلام – ولو أن المؤلف فعل هذا لنجا من التورط فى هذا الموضوع اما مسألة بناء الكعبة فلم نفهم الحكمة فى نفيها واعتبارها اسطورة من الاساطير اللهم الا اذا كان مراده ازالة كل أثر ابراهيم واسماعيل ولكن ما مصلحة المؤلف فى هذا ؟ والله أعلم بمراده.
عن الامر الثانى
من حيث أن المبلغين ينسبون إلى المؤلف أنه يزعم ” عدم انزال القراآت السبع المجمع عليها والثابتة لدى المسلمين جميعاً” ويقول أن هذه القراآت انما قرأتها العرب حسب ما استطاعت لا كما أوحى الله بها إلى نبيه مع أن معاشر المسلمين يعتقدون أن كل هذه القراآت مروية عن الله تعالى على لسان النبى صلى الله عليه وسلم وان ما تجده فيها من أماله وفتح وادغام وفك ونقل كله منزل من عند الله تعالى واستدلوا على هذا بحديث النبى صلى الله عليه وسلم “اقوأنى جبريل على حرف فلم أزل استزيده ويزيدنى حتى انتهى إلى سبعة أحرف” وعلى قوله صلعم لما تحاكم اليه سيدنا عمر بن الخطاب وهشام ابن حكيم بسبب ما ظهر من الاختلاف بين قراءة كل منهما (هكذا انزلت ان هذا القرآن انزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه ) وقالوا أن الحديث وان كان غير متواتر من حيث السند الا انه متواتر من حيث المعنى.
وحيث أنه يجب أن نلاحظ قبل الكلام على عبارة المؤلف ان الحديث انزل القرآن على سبعة أحرف قد ورد من رواية نحو عشرين من الصحابة لا بنصه ولكن بمعناه وقد حصل اختلاف كثير فى المراد بالاحرف السبعة فقال بعضهم أن المراد بالأحرف السبعة الأوجه التى يقع بها الاختلاف فى القراءة (راجع كتاب التبيان لطاهر بن صالح بن أحمد الجزائرى طبع المنار (ص 37 – 38) وقال بعضهم أنها أوجه من المعانى المتفقة بالالفاظ المختلفة نحو أقبل وهلم وتعال وعجل وأسرع وأنظر وأخر وأمهل ونحوه (راجع ص 39 وما بعدها من الكتاب المذكور) وقال بعضهم أنها أمر وزجر وترغيب وترهيب وجدل وقصص ومثل (ص 47 ) وقال بعضهم أنها سبع لغات متفرقة فى القرآن لسبعة أحياء من قبائل العرب مختلفة الألسن (ص 49) وقال بعضهم أن المراد بالسبعة أحرف سبعة أوجه فى أداء التلاوة وكيفية النطق بالكلمات التى فيها من ادغام واظهار وتفخيم ترقيق وآماله واشباع ومد وقصر وتشديد وتخفيف وتليين لان العرب كانت مختلفة اللغات فى هذه الوجوه فيسر الله عليهم ليقرأ كل انسان بما يوافق لغته ويسهل على لسانه ( ص 59 ) وقال غيرهم خلاف ذلك.
وقد قال حافظ أبو حاتم بن حبان البستي :اختلف أهل العلم في معني الاحرف السبعة علي خمسة وثلاثين قولا (ص59و60)وقال الشرف المرسي:هذه الوجوه أكثرها متداخلة ولا أدري مستندها ولا عمن نقلت إلي أن قال وقد ظن كثير من العوام إن المراد بها القراآت السبع وهو جهل قبيح (ص61) وقال بعضهم هذا الحديث من المشكل الذي لا يدري معناه وقال اخر والمختار عندي انه من المتشابه الذي لا يدري تأويله.
ورأي أبي جعفر محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير الشهير في معني هذا الحديث انه انزل بسبع لغات وينفي ان يكون المراد بالحديث القراآت لانه قال فاما ما كان من اختلاف القراءة في رفع حرف وجره ونصبه وتسكين حرف وتحريكه ونقل حرف الي اخر مع اتفاق الصورة فمن معني قول النبي صلي الله عليه وسلم (أمرت أن أقرأ القرآن علي سبعة أحرف) بمعزل لأنه معلوم أنه لا حرف من حروف القرآن مما اختلفت القراءة بهذا المعني يوجب المراء به كفر المماري به في قول أحد من علماء الأمة …..(راجع الجزء الأول من تفسير القرآن للطبري ص23 طبع المطبعة الأميرية).
والمؤلف قد تعرض لهذه المسألة في الفصل الخامس الذي عنونه” الشعر الجاهلي واللهجات ” حيث تكلم علي عدم ظهور إختلاف في اللهجة (يريد باللهجة هنا الأختلافات المحلية في اللغة الواحدة أو ما يسميه الفرنسيون حيث تكلم علي عدم ظهورإختلاف في اللهجة (يريد باللهجة هنا الاختلافات المحلية في اللغة الواحدة أو ما يسميه الفرنسيون Dialecte أو تباعد في اللغة أو تباين في مذهب الكلام مع أن لكل قبيلة لغتها ولهجتها ومذهبها في الكلام وهو يريد بذلك أن بدلل علي أن الشعر الذي لم يظهر فيه أثر لهذه الأختلافات لم يصدر عن هذه القبائل إنما حمل عليها حملا بعد الأسلام ولكي يبرهن علي صحة نظرة في هذه النقطة قال أن القرآن تلي بلغة واحدة ولهجة واحدة هي لغة قريش ولهجتها لم يكد يتناوله القراء من القبائل المختلفة حتي كثرت قراآته وتعددت اللهجات فيه وتباينت تباينا كثيرا جد القراء والعلماء المتأخرون في ضبطه وتحقيقه وأقاموا له علما أو علوما خاصة وقد أشار بإيضاح الي ما يريده من الأختلاف في القراآت فقال إنما يشير الي اختلاف أخر في القراآت يقبله العقل ويسيغه النقل وتقتضيه ضرورة اختلاف اللهجات بين قبائل العرب والتي لم تستطيع أن تغير حناجرها وألسنتها وشفافها لتقرأ القرآن كما كان يتلوه النبي وعشيرته من قريش فقرأته كما كانت تتكلم فأمالت حيث لم تكن تميل قريش ومدت حيث لم تكن تمد وقصرت حيث لم تكن تقصر وسكنت حيث لم تكن تسكن وأدغمت أو أخفت أو نقلت حيث لم تكن تدغم ولا تخفي ولا تنقل.فالمؤلف لم يتعرض لمسألة القراآت من حيث أنها منزلة أو غير منزلة وانما قال كثرت القراآت وتعددت اللهجات وقال أن الخلاف الذي وقع في القراآت تقتضيه ضرورة اختلاف اللهجات بين قبائل العرب التي لم تستطع أن تغير حناجرها وألسنتها وشفاها فهو بهذا يصف الواقع وان صح رأي من قال ان المقصود بالاحرف السبعة هو القراآت السبع فان هذه الاختلافات التي كانت واقعة فعلا كانت طبعا هي السبب الذي دعي الي الترخيص للنبي صلي الله عليه وسلم بان يقرىء كل قوم بلغتهم حيث قال صلي الله عليه وسلم ( أنه قد وسع لي أن اتىء ٍكل قوم بلغتهم) وقال أيضا (أتاني جبريل فقال أقرأ القرآن علي حرف واحد فقالت أن أمتي لا تستطيع ذلك حتي قال سبع مرات فقال لي أقرأ علي سبعة أحرف فقال لي أقرأ علي سبعة أحرف الخ) وان لم يصح هذا الرأي فان نوع القراآت الذي عناه المؤلف إنما هو من نوع ما أشارإليه الطبري بقوله انه بمعزل عن قول النبي صلي الله عليه وسلم سبعة أحرف) لانه معلوم انه لا ار من حروف القرآن مما وسلم ( اسس ان اقرأ القرآن اختلفت القراءة في قراءته بهذا المعني يوجب المراء به كفر المماري به في قوله أحد من علماء الأمة .
ونحن نري ان ما ذكره المؤلف في هذه المسألة هو بحث علمي لا تعارض بينه وبين الدين ولا اعتراض لنا عليه.
عن الأمر الثالث
من حيث ان حضرات المبلغين ينسبون للأستاذ المؤلف انه طعن فى كتابه على النبى صلى الله عليه وسلم طعناً فاحشاً من حيث نسبه إذ قال فى ص 72 من كتابه ونوع أخر من تأثير الدين فى انتحال الشعر واضافته إلى االجاهلين وهو ما يتصل بتعظيم شأن النبى من ناحية اسرته ونسبه فى قريش فلامر ما اقتنع به الناس بأن النبى يجب أن يكون صفوة بنى هاشم وأن يكون بنو هاشم صفوة بنى عبد مناف وأن يكون بنو عبد مناف صفوة قصى وأن يكون قصى صفوة قريش وقريش صفوة مضر ومضر صفوة عدنان وعدنان صفوة العرب والعرب صفوة الانسانية كلها وقالوا أن تعدى المؤلف بالتعريض بنسب النبى صلى الله عليه وسلم والتحقير من قدره تعد على الدين وجرم عظيم يسئ المسلمين والاسلام فهو قد اجترأ على امر لم يسبقه إليه كافر ولا مشرك.
المؤلف أورد هذه العبارة فى كلامه على ” الدين وانتحال الشعر ” والاسباب التى يعتقد انها دعت المسلمين إلى انتحال الشعر وأنه كان يقصد بالانتحال فى بعض الاطوار إلى اثبات صحة النبوة وصدق النبى وكان هذا النوع موجهاً إلى عامة الناس وقال بعد ذلك والغرض من هذا الانتحال على ما يرجح – انما هو ارضاء حاجات العامة الذين يريدون المعجزة فى كل شئ ولا يكرهون أن يقال لهم ان من دلائل صدق النبى فى رسالته انه كان منتظرا قبل أن يجئ بدهر طويل ثم وصل إلى ما يتعلق بتعظيم شأن النبى من ناحية اسرته ونسبه فى قريش.
ونحن لا نرى اعتراضناً على بحثه على هذا النحو من حيث هو وانما كل ما نلاحظ عليه انه تكلم فيما يختص باسرة النبى صلى الله عليه وسلم ونسبه فى قريش بعبارة خالية من كل احترام بل بشكل تهكمى غير لائق ولا يوجد فى بحثه من يدعوه لايراد من حيث ان حضرات المبلغين ينسبون للأستاذ المرنيتبنتالعبارة على هذا انحو.
عن الامر الرابع
يقول حضرات المبلغين ان الاستاذ المؤلف انكر ان للاسلام اولية فى بلاد العرب وانه دين ابراهيم اذ يقول اما المسلمون فقد ارادوا ان يثبتوا ان للاسلام اولية فى بلاد العرب كانت قبل أن يبعث النبى وان خلاصة الدين الاسلامى وصفوته هى خلاصة الدين الحق الذى اوحاه الله إلى الانبياء من قبل إلى أن قال وشاعت فى العرب أثناء ظهور الاسلام وبعده فكرة ان الاسلام يجدد دين إبراهيم ومن هنا اخذوا يعتقدون ان دين إبراهيم هذا قد كان دين العرب فى عصر من العصور ثم عرضت عنه لما اضلها المضلون وانصرفت إلى عبادة الأوثان الخ.
وحيث أن كلام المؤلف هنا هو استمرار فى بحث بيان اسباب انتحال الشعر من حيث تأثير الدين على الانتحال ولا اعتراض على البحث من حيث هو وقد قرر المؤلف فى التحقيق انه لم ينكر ان الاسلام دين إبراهيم ولا أن له اولية فى العرب وان شأن ما ذكره فى هذه المسألة كشأن ما ذكره فى مسألة النسب : رأى القصاص إقتناع المسلمين بأن للاسلام أولية وبأنه دين إبراهيم فإستغلوا هذه الاقتناع وانشأوا حول هذه المسألة من الشعر والاخبار مثل ما انشأوا حول مسألة النسب.
ونحن لا نرى اعتراضنا على ان يكون مراده بما كتب فى هذه المسألة هو ما ذكره ولكننا نرى انه كان سئ التعبير جداً فى بعض عباراته كقوله : ولم يكن احد قد احتكر ملة إبراهيم ولا زعم لنفسه الانفراد بتأويلها فقد أخذ المسلمون يردون الاسلام فى خلاصته إلى دين إبراهيم هذا الذى هو أقدم وأنقى من دين اليهود والنصارى كقولة وشاعت فى العرب أثناء ظهور الاسلام وبعده فكرة ان الاسلام يجدد دين إبراهيم ومن هنا أخذوا يعتقدون أن دين إبراهيم هذا قد كان دين العرب فى عصر من العصور … لأن فى ايراد عباراته على هذا النحو ما يشعر بأنه يقصد شيئا أخر بجانب هذا المراد خصوصاً اذا قربنا بين هذه العبارات وبين ما سبق له ان ذكره بشأن تشككه فى وجود إبراهيم وما يتعلق به.
عن القانون
نصت المادة 12 من الامر الملكى رقم 42 لسنه 1923 بوضع نظام دستورى للدولة المصرية على ان حرية الاعتقاد مطلقة .
ونصت المادة 14 منه على ان حرية الرأى مكفولة ولكل انسان الاعراب عن فكرة بالقول أو الكتابة أو التصوير أو بغير ذلك فى حدود القانون.
ونصت المادة منه على ان الاسلام دين الدولة.
فلكل انسان اذن حرية الاعتقاد بغير قيد ولا شرط وحرية الرأى فى حدود القانون فله ان يعرب عن اعتقاده وفكرة بالقول أو بالكتابة بشرط ان لا يتجاوز حدود القانون.
وقد نصت المادة 139 من قانون العقوبات الاهلى على عقاب كل تعد يقع بأحدى الطرق العلانية المنصوص عليها فى المادتين 148 ، 150 ، على احد الاديان التى تؤدى شعائرها علناً.
وجريمة التعدى على الاديان المعاقب عليها بمقتضى المادة المذكورة تتكون بتوفر أربعة أركان :
الأول – التعدى.
الثانى – وقوع التعدى بأحد طرق العلنية المبينة فى المادتين 148 ، 150 عقوبات.
الثالث – وقوع التعدى على احد الأديان التى تؤدى شعائرها علنا.
الرابع – القصد الجنائى.
” عن الركن الاول ”
لم يذكر القانون بشأن هذا الركن فى المادة لفظ “تعد” وهذا لفظ عام يمكن فهم المراد منه بالرجوع إلى نص المادة باللغة الفرنسية وقد عبر القانون فيه عن التعدى بلفظ Outrage والقانون قد استعمل لفظ Outrage هذا فى المواد 155 و 159 و 160 عقوبات ايضاً ولما ذكر معناها فى النص العربى للمواد عبر فى المادة 155 بقولة ” كل من انتهك حرمة ” وفى المادتين 159 و 160 باهانة فيتضح من هذا – ان مراده بالتعدى فى المادة 139 كل مساس بكرامة الدين أو انتهاك حرمته أو الحط من قدره أو الازدراء به لان الاهانة تشمل كل هذه المعانى بلا شك.
وحيث أنه بالرجوع إلى الوقائع التى ذكرها الدكتور طه حسين والتى تكلمنا عنها تفصيلاً وتطبيقها على القانون يتضح ان كلامه الذى بحثناه تحت عنوان ” الامر الأول ” فيه تعد على الدين الاسلامى لانه انتهك حرمة هذا الدين بان نسب إلى الاسلام انه استغل قصة ملفقة هى قصة هجرة اسماعيل بن إبراهيم إلى مكة وبناء إبراهيم واسماعيل للكعبة واعتبار هذه القصة اسطورة وانها من تلفيق اليهود وانها حديثة العهد ظهرت قبيل الاسلام إلى آخر ما ذكرناه تفصيلاً عند الكلام على الوقائع وهو بكلامه هذا يرمى الدين الاسلامى بانه مضلل فى أمور هى عقائد ثابتة وواردة فى القرآن باعتبار انها حقائق لامرية فيها كما ان كلامه الذى بحثناه تحت عنوان ” الأمر الرابع ” قد أورده على صورة تشعر بان يريد به اتمام فكرته بشأن ما ذكر – إما كلامه بشأن نسب النبى صلى الله عليه وسلم فهو ان لم يكن فيه طعن ظاهر الا انه أورده بعبارة تهكمية تشف عن الحط من قدره – وإما ما ذكره بشأن القرآن مما تكلمنا عنه فى الامر الثانى فإنه بحث برئ من الوجهة العلمية والدينية أيضاً ولا شئ فيه يستوجب المؤاخذة لا من الوجهة الأدبية ولا من الوجهة القانونية.
” عن الركن الثانى ”
لا كلام فى هذا الركن لأن الطعن السابق بيانه قد وقع بطريق العلانية اذ أنه ورد فى كتاب الشعر الجاهلى الذى طبع ونشر وبيع فى المحلات العمومية والمؤلف معترف بهذا .
” عن الركن الثالث ”
لا نزاع فى هذا الركن ايضاً لان التعدى وقع على الدين الاسلامى الذى تؤدى شعائره علنا وهو الدين الرسمى للدولة.
” عن الركن الرابع ”
هذا الركن هو الركن الادبى الذى يجب أن يتوفر فى كل جريمة فيجب أذن لمعاقبة المؤلف أن يقوم الدليل على توفر القصد الجنائى لديه وبعبارة أوضح ان يثبت انه انما أراد بما كتبه أن يتعدى على الدين الاسلامى فإذا لم يثبت هذا الركن فلا عقاب.
أنكر المؤلف فى التحقيقات انه يريد الطعن على الدين الاسلامى وقال انه ذكر ما ذكر فى سبيل البحث العلمى وخدمة العلم لا غير غير مقيد بشئ وقد أشار فى كتابه تفصيلاً إلى الطريق الذى رسمه للبحث ولابد لنا هنا من أن نشير إلى ما قرره المؤلف فى التحقيق من أنه كمسلم لا يرتاب فى وجود إبراهيم واسماعيل وما يتصل بهما مما جاء فى القرآن ولكنه كعالم مضطر إلى أن يذعن لمناهج البحث فلا يسلم بالوجود العلمى التاريخى لابراهيم واسماعيل فهو يجرد من نفسه شخصيتين وقد وجدنا المؤلف قد شرح نظريته شرحاً مستفيضاً فى مقال نشره بجريدة السياسة الاسبوعية بالعدد نمرة 19 الصادر فى يوليه سنة 1926 ص 5 تحت عنوان العلم والدين وقد ذكر فيه بالنص : فلكل امرئ منا يستطيع اذ فكر قليلاً ان يجد فى نفسه شخصيتين متمايزتين احداهما عاقلة تبحث وتنقد وتحلل وتغير اليوم ما ذهبت اليه أمس وتهدم اليوما ما بنته أمس والاخرى شاعرة تلذ وتألم وتفرح وتحزن وترضى وترعب وترهب فى غير نقد ولا بحث ولا نحليل وكلتا الشخصيتين متصلة بمزاجنا وتكوننا لا نستطيع ان نتخلص من احداهما فما الذى يمنع ان تكون الشخصية الاولى عالمة باحثة ناقدة وان تكون الشخصية الثانية مؤمنة مطمئنة طامحة إلى المثل الأعلى.
ولسنا نعترض على هذه النظرية باكثر مما اعترض به هو على نفسه فى مقال حيث ذكر بعد ذلك : سنقول وكيف يمكن ان نجمع المتناقضين ولست احاول جوابا لهذا السؤال وانما أحولك على نفسك الخ ولا شك فى أن عدم محاولة الاجابة على هذا الاعتراض انما هو عجزه عن الجواب والمفهوم انه أورد هذا الاعتراض لانه يتوقعه حتى لا يوجه اليه.
الحقيقة انه لا يمكن الجمع بين النقيضين فى شخص واحد وفى وقت واحد بل لابد من ان تتجلى احدى الحالتين للاخرى وقد أشار المؤلف نفسه إلى هذا فى نفس المقال فى سياق كلامه على الخلاف بين العلم والدين حيث قال بشأنهما : ليسا متفقين ولا سبيل إلى ان يتفقا الا ان ينزل احدهما لصاحبه عن شخصيته كلها.
أما توزيع الاختصاص الذى اجراه الدكتور بجعله العلم من اختصاص القوة العاقلة والدين من اختصاص القوة الشاعرة فلسنا ندركوه والذى نفهمه ان العقل هو الاساس فى العلم وفى الدين معاً واذا ما وجدنا العلم والدين يتنازعان فسبب ذلك انه ليس لدينا القدر الكافى من كل منهما – أننا نقرر هذا بناء على ما نعرفه فى نفسنا أما الدكتور فقد تكون لديه القدرة على ما يقول وليس ذلك على الله يسير.
نحن فى موضع البحث عن حقيقة نية المؤلف فسواء لدينا ان صحت نظرية تجريد شخصيتين عالمة ومتدينة أو لم تضح فإننا على الفرضين نرى انه كتب ما كتب عن إعتقاد تام ولما قرأنا ما كتبه بأمعان وجدناه منساقاً فى كتاباته بعامل قوى متسلط على نفسه وقد بينا حين بحثنا الوقائع كيف قاده بحثه إلى ما كتب وهو وان كان قد أخطاً فيما كتب الا ان الخطأ المصحوب باعتقاد الصواب شئ وتعمد الخطأ المصحوب بنية التعدى شئ أخر.
وحيث انه مع ملاحظة أن اغلب ما كتبه المؤلف مما يمس موضوع الشكوى وهو ما قصرنا بحثنا عليه انما هو تخيلات وافتراضات واستنتاجات لا تستند على دليل علمى صحيح فإنه كان يجب عليه ان يكون حريضاً فى جرأته على ما أقدم عليه مما يمس الدين الاسلامى الذى هو دينه ودين الدولة التى هو من رجالها المسئولين عن نوع من العمل فيها وان يلاحظ مركزه الخاص فى الوسط الذى يعمل فيه – صحيح انه كتب ما كتب عن اعتقاده بان بحثه العلمى يقتضيه ولكنه مع هذا كان مقدراً لمركزه تماما وهذا الشعور ظاهر من عبارات كثيرة فى كتابه منها قوله : واكاد اثق بان فريقا منهم سيلقونه ساخطين عليه وبأن فريقا آخر سيزورون عنه وازورار ولكنى على سخط أولئك وأزورار هؤلاء أريد أن اذيع البحث.
ان للمؤلف فضلاً لا ينكر فى سلوكه طريق جديد للبحث حذا فيه حذو العلماء من الغربيين ولكنه لشدة تأثر نفسه مما اخذ عنهم قد تورط فى بحثه حتى تخيل حقاً ما ليس بحق أو ما لا يزال فى حاجة الى اثبات انه الحق – انه قد سلك طريقاً مظلما فكان يجب عليه ان يسير على مهل وان يحتاط فى سيره حتى لا يضل ولكنه أقدم بغير احتياط فكانت النتيجة غير محمودة.
وحيث انه مما تقدم يتضح ان غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدى على الدين بل ان العبارات الماسة بالدين التى أوردها فى بعض المواضع من كتابه انما قد أوردها فى سبيل البحث العلمى مع اعتقاده ان بحثه يقتضيها.
وحيث انه من ذلك يكون القصد الجنائى غير متوفر.
“فلذلك ”
تحفظ الأوراق ادارياً
القاهرة فى 30 مارس سنة 1927 رئيس نيابة مصر