التأطير القانوني لسياسة الخصخصة: المسار التشريعي والقضائي

Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter

التأطير القانوني لسياسة الخصخصة: المسار التشريعي والقضائي

عماد مبارك

 

مدخل

في مايو 1991، وقعت الحكومة المصرية اتفاق مع صندوق النقد الدولي باﻹلغاء التدريجي لحوالي 50% من الدين الخارجي، تماشيًا مع تنفيذ الحكومة المصرية لما التزمت به في خطاب النوايا الموقع في مايو 1991، هذا باﻹضافة إلى ما نصت عليه الاتفاقية من تقديم تمويل لمصر، وذلك بشرط تنفيذ اتفاقية التكييف الهيكلي مع البنك الدولي، وكان المطلوب من الحكومة تنفيذه هو: تحرير سعر الصرف، وخفض الموازنة1.

وقد أدخل البنك الدولي الاتفاق ضمن “برنامج الإصلاح الاقتصادي والتكيف الهيكلي” الذي قد وضع لتطبيقه خلال الفترة ما بين عاميً 1991 و 1993، ثم تم اقتراح تمديد العمل ببرنامج الإصلاح الاقتصادي الشامل لثلاث سنوات أخرى من عام 1993 حتى عام 19962.

ونفاذًا لهذه الاتفاقيات، قام المشرع المصري في محاولة تهيئة المناخ التشريعي لإنفاذ هذه السياسات الجديدة، بإصدار القانون رقم 203 لسنة 1991، بشأن قطاع اﻷعمال العام3.

لذا نتناول في القسم اﻷول من هذا الجزء من التقرير، اﻹطار التشريعي والتنظيمي لسياسات الخصخصة، والغرض من إصدار القانون 203 لسنة 1991 وما يستتبعه من قرارات إدارية.

على الجانب الآخر تصدرت المحاكم المصرية المشهد في مرحلتين، كانت المرحلة اﻷولي سنة 1997، عندما أصدرت المحكمة الدستورية العليا الحكم المثير للجدل الذي منح السلطة وفقًا لتصريح رئيس المحكمة الدستورية العليا المستشار عوض المر تفسيرًا للدستور بطريقة تمهد الطريق للخصخصة. لذا نستعرض في القسم الثاني من التقرير مبررات المحكمة الدستورية العليا بخصوص هذا الحكم وتفسيرها له وإذا ما كان الحكم نتاج ضغوط تعرضت لها المحكمة الدستورية أم أن الحكم يعبر عن توجه المحكمة في ذلك الوقت.

أما القسم الثالث نستعرض من خلاله المرحلة الثانية التي بدأت إرهاصاتها اﻷولى سنة 2008 أي بعد مرور إحدى عشر عامًا على حكم المحكمة الدستورية العليا، حيث أصدرت محكمة القضاء اﻹداري حكمًا بإلغاء قرار رئيس مجلس الوزراء بإنشاء الشركة القابضة للرعاية الصحية وتحويل مستشفيات وعيادات التأمين الصحي إلى شركات تابعة لها وهو الحكم الذي أيدته المحكمة اﻹدارية العليا.

وفي 2010 أصدر القضاء اﻹداري حكمًا بإلغاء عقد بيع أرض مدينتي، وأيدت المحكمة اﻹدارية العليا الحكم في سبتمبر 2010، كان هذا الحكم بمثابة كرة الثلج، ففي 21 ديسمبر من نفس العام أقيمت دعوى تطالب ببطلان عقد بيع شركة عمر أفندي، وأصدرت المحكمة حكمها بعد ثورة 25 يناير 2011 وبدأ بعدها العمال في اللجوء إلى محكمة القضاء اﻹداري لاسترداد شركاتهم، حيث شهدت السنوات اللاحقة للثورة إصدار العديد من اﻷحكام التي تقر ببطلان عقود الخصخصة، لما شابها من فساد وإهدار للمال العام، وغياب الشفافية والرقابة والمساءلة باﻹضافة إلى تضارب المصالح ومخالفة القوانين القائمة.

 

القسم اول

التنظيم القانوني للخصخصة: محاولة تهيئة المناخ التشريعي

في محاولة تهيئة المناخ التشريعي لإنفاذ هذه السياسات الجديدة، قام المشرع المصري بإصدار القانون رقم 203 لسنة 1991، بشأن قطاع اﻷعمال العام4، والذي بموجبه حلت الشركات القابضة محل هيئات القطاع العام الخاضعة ﻷحكام القانون رقم 97 لسنة 1983. وبموجب ذلك، تغيرت طبيعة أموالها من مال عام لا يجوز بيعه أو التصرف فيه إلا بقانون إلى مال مملوك للدولة ملكية خاصة5 يجوز لها التصرف فيه بقرارات إدارية.

ووفقًا لما أوردته المذكرة اﻹيضاحية يهدف إصدار القانون إلى الفصل بين الملكية والإدارة حيث يقتصر دور الدولة بصفتها المالكة للقطاع العام على المحاسبة على النتائج، وتمارس الإدارة في ذات الوقت نشاطها فى الاستثمار بذات الأسلوب والمنهج الذي تدار به الاستثمارات الخاصة بعيدا عن سيطرة الأجهزة الحكومية والتعقيدات الإدارية. وهو اﻷمر الذي يتطلب تقليص دور الأجهزة الحكومية التي تمارس شكلا من أشكال الإشراف والتدخل والرقابة على الوحدات الاقتصادية ليقتصر الإشراف على جهة واحدة تتمثل في المالك. وبذلك تتمكن شركات القطاع العام من تصحيح هياكلها التمويلية من خلال الاعتماد على الذات.

فالغرض من هذا التغيير في هيكل وإدارة وصفة الشركات المملوكة للدولة بتحويلها من القطاع العام إلى قطاع الأعمال، هو فصلها ماليا عن خزانة الدولة بحيث تستقل بخسائرها وأرباحها، وفصلها إداريا عن الوزارات التي كانت خاضعة لها،علاوة بالطبع على فتح الباب أمام إعادة هيكلتها أو تصفيتها أو بيعها كشركات مملوكة لشركات قابضة.

بموجب هذا القانون أصبحت أيضًا حقوق العمال التي كانت مستقرة بحكم قانون العاملين بالقطاع العام، حقوقًا يتم التفاوض عليها، كذلك تم إنقاص حصة العمال من أرباح الشركات. ولم تستطع الحكومة السير قدمًا في خصخصة الشركات، إلا بعد تنفيذ مسألة المعاش المبكر.6

ولما كانت الحكومة تعلم بأن سياستها سوف تزيد من إفقار الغالبية العظمى من الشعب المصري، ومنهم العمال، وأنه من المنتظر أن يحتج العمال على ما يحدث لهم من اعتداءات على حقوقهم، عدلت الحكومة قانون النقابات سنة 1995 لتضمن بقاء نفس رجالها في قمة الهرم النقابي، لتمرير هذه السياسات وإحكام قبضتها على النقابات القاعدية والعمال7.

وهنا تجب اﻹشارة إلي أن التنظيم الدستوري والتشريعي أمر واجب وضروري فإن افتقاده من شأنه أن يصيب عمليات الخصخصة بالبطلان؛ فقد غاب تمامًا التنظيم الدستوري والتنظيم التشريعي المتكامل القائم على اﻷسس الدستورية، فإذا كان التأميم لا يكون إلا بقانون، فإنه ومن باب أولى أن تكون الخصخصة بقانون عملًا بقاعدة توازي الاختصاصات.

تأتي أهمية التنظيم الدستوري والتشريعي للخصخصة في كونه ضرورة لنقل ملكية المشروعات العامة التي أنشئت أصلًا بقانون، وكذا تحديد القواعد والشروط التي يتعين على السلطة التنفيذية الالتزام بها وليس وضعها بنفسها وفق هواها.

وعلى الرغم من التحول في مصر إلى سياسة تحرير الاقتصاد، والتي تشكل الخصخصة جزءًا منه في بداية التسعينات، إلا أن التفكير في التدخل التشريعي لم يرد على بال السلطة التنفيذية منذ ذلك الوقت وحتى اﻵن؛ فلم يتضمن قانون قطاع اﻷعمال العام رقم 203 لسنة 1991 أيّ تنظيم للخصخصة، ولم ترد به أي أشارة صريحة أو ضمنية إليها .

ونعتقد أن السبب وراء غياب اﻹطار التشريعي، رغبة السلطة العليا في توافر أكبر قدر من المرونة للسلطة التنفيذية في تحديد نطاق وطرق خصخصة شركات قطاع اﻷعمال العام، حيث أبقت على درجة من الغموض التشريعي والتنظيمي، لتسهيل التحايل على القوانين القائمة وتغييب الرقابة والمحاسبة. نفس الغموض وعدم اليقين الذي سمح للسلطة التنفيذية بالمرونة، تحول لمصدر للمقاومة مع تفعيل دور مجلس الدولة وبدء المنازعات القضائية حول الخصخصة من 2008.

وهو ما سمح للسلطة التنفيذية من وضع برنامج الخصخصة وتنفيذه بنفسها، وإعماًلا لذلك، وضع المكتب الفني لوزير قطاع اﻷعمال العام، في 14 فبراير 1993، دليل الإجراءات والإرشادات العامة لبرنامج الحكومة لتوسيع قاعدة الملكية على الرغم من أن هذا البرنامج لا يعدو أن يكون مجرد خطة عمل أو توجيهات من السلطة التنفيذية تلتزم بها في ممارسة اختصاصها، وبالتالي لا ترقى إلى العمل التشريعي.

وقد أفصحت الحكومة أن الخصخصة في حد ذاتها ليست السياسة الاقتصادية التي تنتهجها، وإنما هي أسلوب ترى أتباعه من شأنه رفع كفاءة أداء الاقتصاد القومي بانسحاب الحكومة من النشاط الاقتصادي وتركه للقطاع الخاص8.

لم يُجْدِ إصدار القانون رقم 203 لسنة 1991، الذي ظن مصدّريه أنه يسمح بالخصخصة، وكذا إصدار قانون سوق رأس المال بالقانون رقم 95 لسنة 1992 الذي خلق المؤسسات التي ستقوم بتنفيذ عمليات الخصخصة بسوق المال ونظم وأساليب اﻹشراف عليها؛ إذ لم ينظم أيهما عملية الخصخصة وضوابطها على نحو يتفق مع الدستور والقانون9.

لقد جاء القانون رقم 203 كإعلان عن البداية الحقيقية لبرنامج توسيع قاعدة الملكية، حيث أعاد تنظيم شركات قطاع اﻷعمال من خلال 27 شركة قابضة تمثل 27 قطاع نشاط و314 شركة تابعة. اعتُبرت هذه الشركات القاعدة التي سوف تخضع لبرنامج الخصخصة، ويشمل ذلك قطاعات صناعية وخدمية وتجارية، على سبيل المثال الصناعات الكيماوية والمعدنية والتعدينية والغذائية، وشركة التجارة الخارجية والداخلية، وقطاعات خدمية مثل السينما والسياحة والفنادق، وقطاعات أخرى مثل التشييد والإسكان10. مع استبعاد أخرى بالكامل كالصناعات الاستخراجية أو النقل والمرافق الحيوية والطرق والتي بقيت تحت مظلة القطاع العام بهيئاته الاقتصادية والخدمية.

وفي ما قد يمثل إعلانًا عن تطور استثنائي في تاريخ برنامج الخصخصة، قال بيان صادر من رئاسة مجلس الوزراء، في 15 نوفمبر 2021 إن دراسة أعدها مركز معلومات مجلس الوزراء اقترحت بـ«مجموعة من الآليات لتمكين القطاع الخاص، منها تحديد القطاعات الرئيسية التي ستستمر بها الدولة، والقطاعات التي ستخرج منها، والقطاعات التي سيتم الخروج التدريجي منها، إلى جانب إعادة إصلاح القطاع العام من خلال الإبقاء على الشركات الكبرى في القطاعات الاستراتيجية والأكثر أولوية، والتخلي عن الشركات في القطاعات الأقل أولوية11

عودة إلى عام 2000، أصدر عاطف عبيد، رئيس مجلس الوزراء، القرار رقم 1765 بتشكيل اللجنة الوزارية للخصخصة12، والذي نص في مادته اﻷولى على تشكيل اللجنة الوزارية برئاسة رئيس مجلس الوزراء، وفي المادة الثانية منه على تحديد اختصاصات اللجنة كالتالي:

“تختص اللجنة بدراسة كل ما يتعلق بموضوعات الخصخصة في مختلف المجالات ولها على اﻷخص:

– تحديد المشروعات والشركات التي يمكن طرحها للخصخصة، وما يتعين أن يبقى منها تحت سيطرة الدولة.

– وضع خطة شاملة للخصخصة مدعمة ببرنامج زمني في ضوء ما تقدمه الجهات المختصة من بيانات أو تقارير.

– اقتراح المعايير والضوابط التي تتم على أساسها الخصخصة.

– اقتراح أوجه صرف أو استثمار ناتج الخصخصة.

– اعتماد توصيات الوزراء المعنيين بشأن قيمة الشركات واﻷصول المطروحة والجدول الزمني لطرح هذه الشركات واﻷصول”.

ووفقًا لما سبق، فإن اللجنة الوزارية للخصخصة، وحدها دون غيرها، هي صاحبة الاختصاص في تحديد المشروعات والشركات التي يمكن طرحها للخصخصة، واقتراح المعايير والضوابط التي تتم على أساسها الخصخصة.

وفي عام 2004، أصدر رئيس الجمهورية القرار رقم 231 لسنة 2004 بشأن تنظيم وزارة الاستثمار، والذي نص في الفقرة الثانية من مادته اﻷولى على:13

“تعمل وزارة الاستثمار على تنمية وتشجيع الاستثمار في جمهورية مصر العربية من خلال:

  1. ……………………..
  2. توسيع قاعدة ملكية شركات قطاع اﻷعمال العام من خلال تنفيذ برنامج الخصخصة والتحول إلى القطاع الخاص وتطوير آداء الشركات في إطار السياسة العامة للدولة”.

كما نص في البند الثاني من مادته الثانية على أن من ضمن اختصاصات وزارة الاستثمار: “تنفيذ كافة الاختصاصات والمسئوليات المنصوص عليها في قانون شركات قطاع اﻷعمال العام الصادر بالقانون رقم 203 لسنة 1991 ولائحته التنفيذية وبصفة خاصة:

– اتخاذ القرارات اللازمة للمحافظة على حقوق الدولة في شركات قطاع اﻷعمال.

– وضع الضوابط الخاصة بتشكيل وعمل الجمعيات العامة للشركات القابضة والتابعة ومجالس إدارتها ونظام وتشكيل اللجان المختصة واعتماد قراراتها.

– تصحيح الهياكل التمويلية لشركات قطاع اﻷعمال، وذلك بالاعتماد على قدرتها الذاتية.

– اﻹشراف على تنفيذ برنامج نقل الملكية للقطاع الخاص وأسلوب البيع، وبرامج إعادة هيكلة الشركات التابعة و هيكلة العمالة، واقتراح أوجه استخدام عوائد البيع.

– اﻹشراف على الاستفادة من المنح المقدمة للمساعدة في تنفيذ برنامج نقل الملكية للقطاع الخاص، وبرامج إعادة هيكلة الشركات التابعة، وبرامج التنمية البشرية لقيادات شركات قطاع اﻷعمال العام”.

وفي ذات السياق، جاءت المادة 26 مكرر من اللائحة التنفيذية لقانون شركات قطاع اﻷعمال العام الصادرة بقرار رئيس مجلس الوزراء رقم 1590 لسنة 1991 والمضافة بقرار رئيس مجلس الوزراء رقم 980 لسنة 2006 لتوجب طرح الشركات التابعة في إطار برنامج إدارة اﻷصول المعتمدة أيًّا كانت وسيلة البيع، ليكون طرح الشركة التابعة بالكامل أو بأغلبية اﻷسهم فيها بطريق الاكتتاب أو بنظام عروض الشراء من خلال بورصة اﻷوراق المالية – بعد عرض الوزير المختص على المجموعة الوزارية للسياسات الاقتصادية بحضور وزير القوى العاملة والهجرة، على أن يتم العرض على المجموعة المشار إليها لاستكمال إجراءات البيع لمستثمر رئيسي أو أكثر بصفة نهائية.

ومن ثم، فإن إجراءات خصخصة أي مشروع أو بيع أيٍّ من الشركات التابعة باعتبار أن رأس مالها مملوك بالكامل للدولة يمر بمجموعة من المراحل اﻹدارية14:

المرحلة اﻷولى: وهي مرحلة تقرير البيع بتحديد الشركة محل البيع لتكون محلًا للخصخصة، وخروجها من تحت سيطرة الدولة، واقتراح المعايير والضوابط التي تتم على أساسها خصخصة تلك الشركة، واقتراح أوجه صرف أو استثمار ناتج خصخصة تلك الشركة، وهو ما تتولاه “اللجنة الوزارية للخصخصة” والتي تعتمد توصيات وزير الاستثمار المختص بشأن قيمة الشركة واﻷصول المطروحة، ثم تُحيله لمجلس الوزراء لاعتماده.

المرحلة الثانية: مرحلة تفويض وزير الاستثمار للشركة المختصة لاتخاذ إجراءات طرح الشركة للخصخصة وإجراءات إبرام عقد البيع نيابة عن الدولة مالكة رأس مال الشركة بالكامل وفقًا لقرار رئيس الجمهورية رقم 231 لسنة 2004 بتنظيم وزارة الاستثمار، وقرار وزير الاستثمار رقم 342 لسنة 2005.

المرحلة الثالثة: مرحلة موافقة المجموعة الوزارية للسياسات الاقتصادية برئاسة وزير المالية على استكمال إجراءات بيع الشركة تنفيذًا لحكم المادة 26 مكرر من اللائحة التنفيذية للقانون رقم 203 لسنة 1991 التي أوجبت موافقة المجموعة على استكمال بيع الشركات لمستثمر رئيسي قبل العرض على الجمعية العامة للشركة القابضة للتجارة.

المرحلة الرابعة: مرحلة موافقة الجمعية العامة للشركة القابضة على البيع وفقًا لقانون قطاع اﻷعمال العام رقم 203 لسنة 1991.

المرحلة الخامسة: عرض تفصيلات عملية بيع الشركة على اللجنة الوزارية للخصخصة ومجلس الوزراء ﻹقرار واعتماد البيع.

المرحلة السادسة: قيام الجهة المفوضة بالبيع من وزير الاستثمار (الشركة القابضة المختصة) بموافاة إدارة اﻷصول بوزارة الاستثمار بصورة كاملة من مستندات البيع وما يفيد تحويل الحصيلة (حصيلة بيع اﻷصول المملوكة للدولة) للحساب المخصص لذلك بالبنك المركزي فور إتمام عملية البيع وفقًا لقرار وزير الاستثمار رقم 342 لسنة 2005 لتُقيّد في خزانة الدولة ولِحسابها ممثلةً في وزارة المالية بعد خصم تكاليف ومصروفات البيع المعتمدة من الجهة القائمة بالبيع وفقًا لقرار رئيس مجلس الوزراء رقم 1506 لسنة 2005 بشأن تنظيم حصيلة برنامج إدارة اﻷصول المملوكة للدولة.

 

القسم الثاني

المحكمة الدستورية العليا : تمهيد الطريق للخصخصة

يقول الدكتور تامر مصطفى في كتابه “الصراع على السلطة الدستورية”: “في بداية التسعينيات أضحت المحكمة الدستورية العليا قوة هامة في النظام السياسي المصري، ففي الميدان الاقتصادي، لعبت المحكمة دورًا رائدًا في إلغاء قوانين التأميم التي وضعت في عهد عبد الناصر، وأبدت استعدادها باكرًا للدفع بعجلة التعويض ولتوسيع نطاقه أكثر بكثير مما أرادت الدولة. وفي الميدان السياسي، فاجأت المحكمة العليا الكثيرين بإصدارها أحكامًا مدويًة فرضت حل مجلس الشعب مرتين ووضع نظام جديد للانتخابات المحلية والوطنية. وخلال الثمانينيات، بدأت مصالح الجمعيات المدنية وأحزاب المعارضة والمحكمة الدستورية بالتلاقي، وازداد هذا التأزر مع إصدار المحكمة أحكامًا أكثر جزمًا برئاسة المستشار عوض المر في الفترة الممتدة بين عامي 1991 و 1997 فقد ترأس المر مجموعة جديدة من القضاة، عينوا وفقًا ﻵلية التوظيف التي تتيح للمحكمة الدستورية العليا اختيار قضاتها من داخل السلك القضائي، وحلوا مكان القضاة القدامي الذين كانوا قد أحيلوا للعمل في المحكمة الدستورية العليا في العام 1979 من المحكمة العليا الخاضعة لهيمنة النظام. وبدأت المحكمة أيضًا. في ظل رئاسة المستشار عوض المر، باللجوء إلى القانون الدولي لتدعيم أحكامها، كما بنت علاقات مؤسسية مع خبراء قانونيين أجانب ومع منظمات حقوقية دولية. كذلك، حولت المحكمة الدستورية العليا نفسها إلى نواة الجهود اﻹصلاحية عبر الاستمرار في إفساح المجال للناشطين السياسيين لرفع الدعاوى، ما زودها بالقضايا الدستورية اللازمة لتوسيع نطاق رقابتها على دستورية القوانين وأنتج شبكة دعم قضائي تنادي علنًا باستقلالية المحكمة الدستورية العليا. وقد شكلت هذه العلاقة التآزرية عاملا أساسيًا في التوسع السريع للسلطة الدستورية في التسعينيات”15.

وفي دراسة بعنوان “انحراف البنية التشريعية في مصر من واقع أحكام المحكمة الدستورية العليا” أعدها عصام الدين حسن، يستعرض حسن من خلالها رصد وتحليل الأحكام الصادرة عن المحكمة الدستورية العليا على مدار الفترة من 1980 وحتى عام 1996، وفقا للدراسة فقد أبطلت المحكمة 93 نصًا قانونيًا ولائحيًا لعوار أصاب تلك النصوص. حيث تم خرق الحقوق والحريات العامة من جانب المشرع العادي 66 مرة، ويكشف ذلك عن وجود 34 نصًا ينتهك المساواة بين المواطنين أمام القانون، وخرق الحق في الحرية واﻷمان الشخصي، وقانونين انتهاك حرمة الحياة الخاصة للمواطنين وحرمة المسكن، وخمسة قوانين انتهكت حرية الرأي والتعبير، وقانونين انتهاك حق المواطنين في إنشاء النقابات والاتحادات على أساس ديمقراطي، وثمانية قوانين انتهكت حق المواطنين في الانتخاب والترشح، كما ظهر أيضًا من بين النصوص التي أبطلتها المحكمة 6 قوانين تخالف مبدأ تكافؤ الفرص، وقوانين انتهكت ضمانات التأمين الاجتماعي والصحي، وخمسة قوانين انتهكت مبادئ العدالة الاجتماعية والضريبية.16

ولكن بحلول أواخر التسعينيات، بدأ النظام يزداد قلقًا من نشاط المحكمة الدستورية، فقد وجدت أحزاب المعارضة ومجموعات الدفاع عن حقوق اﻹنسان والناشطون السياسيون فيها مؤسسة رسمية لها القدرة والعزم الكافيان للحد من صلاحيات السلطة التنفيذية تدريجيًا. وبرز تآزر واضح بين المحكمة الدستورية العليا وشبكة الدعم القضائي الناشئة. وإذ بدأ النظام يزداد قلقًا من المكاسب التي تحققها المعارضة عبر المحكمة الدستورية العليا، سعى إلى مجابهة كل تلك التطورات. وخلال خمس سنوات، طبق النظام سلسلة من التدابير القانونية والخارجة عن القانون بهدف إضعاف شبكة الدعم القضائي والحد في نهاية المطاف من الاستقلالية التي نعمت بها المحكمة الدستورية العليا طوال عقدين من الزمن. وسعى الناشطون السياسيون إلى إبطال القيود الجديدة التي فرضها النظام في المحاكم وخارجها، لكنهم لم يفلحوا في ذلك، نظرا إلى التفاوت الهائل في القوة بين الدولة والقوى الاجتماعية.17

توجه المحكمة الدستورية العليا وملف اصلاح الاقتصادي

نص الدستور بصريح العبارة على أن اقدمية هي للقطاع العام وأن اخير يقود عملية التقدم في مصرفهل يمكن للمحكمة الدستورية العليا أن تقبل بذلك؟ ثبت أن القطاع العام فشل فشلًا ذريعًا في مجتمعنا. لم يكن أي جانب من جوانبه فعالًا. فشل في ادارة وفشل في در الإيرادات، كما فشل في شتى نواحي الحياةوأعلن البنك الدولي أن الحل الوحيد هو في تعديل الدستور، غير أن الحكومة رفضت القيام بذلك. لذا فقد واجهت المحكمة الدستورية العليا مشكلة حقيقية؛ إما أن تتقدم مصر أو تتراجع. ذاك هو الظرف الذي دفعنا إلى اتخاذ قرارنا. كنا أمام حكومة ترفض تعديل الدستور، فيما كان البنك الدولي يكرر أن السبيل الوحيد للتقدم هو في تعديل الدستور. كنا مجبرين على تفسير الدستور بطريقة تمهد الطريق للخصخصة18

المستشار عوض المر

تعد سياسات ملف اﻹصلاح الاقتصادي من السياسات المثيرة للجدل، لذا حاول النظام تفادي معارضة ومقاومة الفئات المهددة لتنفيذ تلك السياسات، من خلال خلق إطار تشريعي وتنظيمي فضفاض يسمح لها بالمرونة في اتخاذ الإجراءات المناسبة؛ فقد رفض النظام أن يعدل الدستور في ذلك الوقت لذا، قرر الالتفاف حول المسألة آخذًا في الاعتبار تلك المخاطر السياسية؛ فأصدر القانون رقم 203 لسنة 1991 بشأن الخصخصة من دون إدخال أي إصلاحات على الدستور. وبالتالي تُركت مهمة معالجة التناقضات بين هذا القانون والدستور إلى المحكمة الدستورية العليا.

وفي عام 1993، أقام عامل بالشركة المصرية للورق واﻷدوات الكتابية (رومني) دعوى رقم 372 لسنة 1993 عمال كلي اﻹسكندرية، طالبًا الحكم بتسوية مستحقاته طبقًا لما كان يتقاضاه من حوافز ومكافآت مالية عن اﻹنتاج. وقال شرحًا لدعواه أنه كان عاملًا للطباعة بالشركة المصرية للورق والأدوات الكتابية (رومنى) وظل بها إلى أن صدر قرار بدمجها مع الشركة المصرية للأدوات الكتابية. وأمام محكمة الموضوع، دفع المدعي بجلستها المعقودة في 16 نوفمبر 1993 بعدم دستورية قانون شركات قطاع الأعمال العام الصادر بالقانون رقم 203 لسنة 1991، وقد سمحت المحكمة له باتخاذ إجراءات الطعن بعدم الدستورية19.

وضع هذا الطعن المحكمة الدستورية في موقف حرج، إذ إن الدستور مشبع باﻹشارات إلى أهمية القطاع العام والنمو الاشتراكي المنحى؛ ونذكر منها نصوص المواد التالية:

تنصّ المادة الرابعة من دستور 1971 على:

الأساس الاقتصادي لجمهورية مصر العربية هو النظام الاشتراكي الديمقراطي القائم على الكفاية والعدل، بما يحول دون الاستغلال ويؤدى إلى تقريب الفوارق بين الدخول، ويحمى الكسب المشروع، ويكفل عدالة توزيع الأعباء والتكاليف العامة“.

كما تنص المادة 30 على:

الملكية العامة هي ملكية الشعب، وتتأكد بالدعم المستمر للقطاع العام، ويقود القطاع العام التقدم في جميع المجالات ويتحمل المسئولية الرئيسية في خطة التنمية“.

وتنص المادة 33 على أن:

للملكية العامة حرمة، وحمايتها ودعمها واجب على كل مواطن وفقًا للقانون، باعتبارها سندًا لقوة الوطن وأساسًا للنظام الاشتراكي ومصدرًا لرفاهية الشعب“.

وأخيرًا ينص الدستور في مادته رقم 59 على:

حماية المكاسب الاشتراكية ودعمها والحفاظ عليها واجب وطني“.

وفي 1 فبراير 1997، أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكمها حيث تبنت تفسيرًا ليبراليًا لنصوص الدستور، وربما يكون تراءى للمحكمة الدستورية أن الطعن الدستوري في هذه القضية كان قائمًا على مناهضة الخصخصة كفكرة، والرأسمالية كانحياز أو خيار اقتصادي، وأن ذلك معارض للنظام الاشتراكي الذي نص عليه دستور 1971. لذلك كان أبرز ما استندت إليه المحكمة في حيثيات حكمها ليس تبيان مدى موافقة النص القانوني للنص الدستوري، ولكن تبيان رؤيتها للنصوص الدستورية وعلاقتها بالواقع والقانون20.

وقد اعتمدت المحكمة في تبرير موقفها على أمرين انطلقت منهما: فمن جانب، ترى المحكمة أن القطاع العام فشل فشلًا ذريعًا في اﻹدارة وتحقيق الأرباح، ما دفع بضرورة الحفاظ على موارد الدولة من التبديد وتحقيق التنمية. ومن جانب آخر، اعتبرت المحكمة أن المقصود من عبارة “القطاع العام” في الدستور هو “الاستثمار العام”، وبالتالي فإن الاستثمار بمختلف صوره (العام والخاص) ليس إلا توزيعًا للأدوار فيما بينهما. لذا ذهبت المحكمة إلى أن:

تواصل التنمية وإثرائها لنواتجها وعلى ما تنص عليه المادة (30) من الدستورإنما يمثل أصلاً يبلوره الاستثمار العام. ولئن مهد هذا الاستثمار الطريق إلى الاستثمار الخاص، وكان جاذباً لقواه، إلا أنه أسبق منه وجودًا، وأبعد أثرًا، إذ يمتد لميادين متعددة لا يُقبِل عليها الاستثمار الخاص أو يتردد فى ولوجها، وإن كان تدفق الاستثمار العام لمواجهتها لازمًا، ضمانًا لسير الحياة وتطويرًا لحركتها بما مؤداه: أن لكل من الاستثمارين العام والخاص دوره فى التنمية، وإن كان أولهما قوة رئيسية للتقدم تتعدد مداخلها، وليس لازمًا أن يتخذ هذا الاستثمار شكل وحدة اقتصادية تنشئها الدولة أو توسعها، ولا عليها أن تبقيها كلما كان تعثرها باديًا، أو كانت الأموال الموظفة فيها لا تغل عائدًا مجزيًا، أو كان ممكنًا إعادة تشغيلها لاستخدامها على نحو أفضل. ولا مخالفة فى ذلك للدستور، بل هو تكريس لتلك القيم التى يدعو إليها، وفى مقدمتها أن الاستثمار الأفضل والأجدر بالحماية، يرتبط دومًا بالدائرة التى يعمل فيها، وعلى تقدير أن الاستثمارين العام والخاص شريكان متكاملان، فلا يتزاحمان أو يتعارضان أو يتفرقان، بل يتولى كل منهما مهامًا يكون مؤهلًا لها وأقدر عليها. وإن جاز القول بأن الاستثمار العام يثير قدرة المواطنين ويقظتهم وتميزهم، وعلى الأخص من خلال نقل التكنولوچيا وتطويعها وتعميمها“.

كما أقرت المحكمة: “بأن الاستثمار بمختلف صوره العام منها والخاصليس إلا أموالاً تتدفق، وسواء عبأتها الدولة أو كوّنها القطاع الخاص، فإنها تتكامل فيما بينها. ويعتبر تجميعها لازمًا لضمان قاعدة إنتاجية أعرض وأعمق لا يكون التفريط فيها إلا ترفًا، ونكولًا عن قيم يدعو إليها التطور ويتطلبها. وما تنص عليه المادة (29) من الدستور من أشكال للملكية تتقدمها الملكية العامة، وتقوم إلى جانبها كل من الملكية التعاونية والملكية الخاصة، ليس إلا توزيعاً للأدوار فيما بينها، لا يحول دون تساندها وخضوعها جميعاً لرقابة الشعب ومقتضاها أن يكون الاستثمار العام قوداً للتقدم، معبداً الطريق إليه؛ فلا يقتصر على ميادين محدودة بل يمتد إلى مواقع رئيسية تعمل الدولة من خلالها على تنفيذ مهامها السياسية والاجتماعية ويندرج تحتها متطلباتها فى مجال الدفاع والأمن والعدل والصحة والتعليم وحماية بيئتها ومواردها، وصون بنيتها الأساسية، والحد من نمو سكانها، وأداء خدماتها بوجه عام لغير القادرين، ولازمها أن تعزز قيادتها هذه بدعمها لأعباء يقصر الاستثمار الخاص عن تحملها”.

كما قامت المحكمة بالتعليق على نص المادة 59 من الدستور وما تحتويه من إشارة إلى المكاسب الاشتراكية بالقول أن: “الدستور، وإن كفل بنص المادة 59 ما أسماه بالمكاسب الاشتراكيةواعتبر دعمها والحفاظ عليها واجبًا وطنيًا، إلا أنه خلا من كل تحديد لها يكون معرفًا بمضمونها ونطاقها، بل جَهِلَ تمامًا بها، ولم يُحِل حتى إلى قانون لبيان مكوناتها، ولا يتصور بالتالي أن يكون الدستور كافلًا للعمال غير تلك الحقوق والمزايا التي نص عليها في شأنهم”.

ووفقًا لهذا المنطق، كان يحق للنظام تصفية جميع الشركات التي تملكها الدولة، ذائعة الصيت بسبب انعدام كفاءتها، واستخدام تلك الموارد في أشكالٍ أخرى من الاستثمارات العامة بما يخدم مصالح الشعب بشكل أفضل. واعتبرت المحكمة أن أحكام الدستور بشأن الاقتصاد يجب أن تُقرأ “في ضوء السياقات الراهنة ومرامي التنمية الحالية”، ما دفع اليساريين إلى اتهام المحكمة بأنها قد ألغت الدستور برمته من خلال تفسيرها هذا. حتى إن مؤيدي المحكمة القدامى استنكروا بشدة ما اعتبروه تخطي المحكمة لصلاحياتها مرة أخرى من خلال التلاعب بالدستور وأداء مهمة تشريعية. وقد رد المستشار عوض المر رئيس المحكمة في ذلك الوقت على منتقديه قائلا21:

“… لا يمكن ﻷي دستور أن يفرض على مجتمع ما طريقة محددة لتحقيق التقدم. وبما أن هذه الطرق متغيرة وعلمية في طبيعتها، فهي في حركة دائمة. وما يُنظر إليه على أنه خطوة نحو التقدم في زمن معين قد يكون العكس تمامًا في زمن مختلف. لذا، إذا سلمنا بأن سبل التنمية متغيرة وعلمية في طبيعتها، فلا ينبغي فرض أي من تلك السبل على مجتمعنا. يجب أن تتوافر لدى الدولة بدائل لاستثمار أموالها في مجالات تتوافق مع المصلحة العامة“.

وقد اعتبر المستشار عوض المر أيضًا أن22:

اﻷحكام الدستورية تنبض حياة، ولا يمكن تفسيرها بطريقة تعيق مجتمعنا. يجب ألا يكون في دستورنا ما يعيق المجتمع. كما يجب ألا يُفسر الدستور على أنه يكبح سعينا إلى التقدم. لذلك، وبالرغم من أن حكم المحكمة جاء كانحراف كامل عما ينص عليه الدستور، إلا أنه يندرج في إطار تطلعاتنا المشروعة. وبالتالي، لن أندم عما فعلت مهما وجه من انتقادات إلى هذا الحكم. لم يكن هذا الحكم عادلًا فحسب، بل كان ضرورة ماسة في مجتمعنا“.

ختاما فإن المحكمة الدستورية العليا أيدت مصالح النظام الاقتصادية اﻷساسية، عبر إلغاء التشريعات ذات المنحى الاشتراكي من حقبة عبد الناصر، فقد لقى برنامج تحرير الاقتصاد، الذي أطلق في 1991، مقاومة شديدة من الفئات الاجتماعية والاقتصادية العريضة المعني بها نموذج ناصر الاشتراكي التنموي، والتي سمح لها السياق آنذاك بالعمل النقابي التنظيمي الذي مكنها بدوره من ممارسة حقها المشروع في حماية مصالح أعضائها، ومن مؤيدي سياسات إعادة توزيع الثروة التي وضعت في حقبة عبد الناصر. ولكن عشرات اﻷحكام الصادرة في مجال الخصخصة وإصلاح عمليات اﻹسكان وإصلاح قانون العمل مكنت النظام من إلغاء تلك السياسات من دون التسبب بمعارضة مباشرة من الفئات التي شعرت بأنها مهددة بسبب اﻹصلاح الاقتصادي لصالح طبقة المحاسيب الرأسماليين. وبالتالي مكنت اﻷحكام والتوجه الليبرالي للمحكمة الدستورية السلطة التنفيذية من تبرير أعمالها عبر الادعاء بأن كل ما تقوم به هو صون سيادة القانون، وأخفت بالتالي تطبيقها للإصلاحات المثيرة للجدل عبر قنوات سياسية صريحة23.

 

القسم الثالث

قضاء مجلس الدولة وبرنامج الخصخصة

مجلس الدولة: تاريخ من الصراع مع السلطة وبسط الولاية القضائية

لم يستقر النظام القضائي المصري على رأي حاسم في مدى جواز رقابة دستورية القوانين قبل إنشاء المحكمة العليا عام 1969. كانت محكمة النقض قد أخذت بجواز هذه الرقابة في إحدى القضايا، لكن جاء حكمها مقتضبًا، فلم يعالج الموضوع العلاج الوافي الذي يستحقه، ثم تلى ذلك حكم صادر من محكمة مصر اﻷهلية في أول مايو 1941 قرر صراحة حق المحاكم في نظر دستورية القوانين، لكن محكمة استئناف مصر اﻷهلية ألغته متبنية الرأي العكسي بعدم جواز الرقابة على دستورية القوانين. وكان حكما عنى واضعوه ببسط أسبابه في جلاء وقوة فطغى على ما سبقه من اﻷحكام المخالفة24.

في 10 فبراير 1948 حسمت محكمة القضاء اﻹداري هذا الموضوع في حكم شهير لها، وذهبت المحكمة إلى أنه ليس في القانون المصري ما يمنع المحاكم المصرية من التصدي لبحث دستورية القوانين، سواء من ناحية الشكل أو الموضوع. … إن الدستور المصري إذ قرر مبدأ الفصل دون أن يصرح به فقد قرنه بمبدأ آخر أكده ضمنًا معه حين قرر في المادة 23 منه أن استعمال السلطات يكون على الوجه المبين بالدستور، وبذلك جعل استعمال السلطات لوظائفها ينظمه دائما تعاون متبادل بينها على أساس احترام كل منها للمبادئ التي قررها الدستور. وقد استقرت بعد ذلك أحكام المحكمة على المبدأ الذي أرساه الحكم25.

بدأ الصدام مع السلطة بعد تدبير واقعة الاعتداء على السنهوري رئيس مجلس الدولة في مقر عمله يوم 29 مارس 1954، ولم يعد السنهوري إلى المجلس بعد هذا الحادث، حيث أصدر مجلس قيادة الثورة في 15 ابريل 1954، قرارا بحرمان الوزراء الحزبيين السابقين – ومنهم السنهوري – من كافة الحقوق السياسية ومن تولى الوظائف العامة.

لم يكد يمضي عام على الصدمة التي روعت مجلس الدولة بالاعتداء بالضرب على رئيسه حتى روع بصدمة جديدة أخرى في 23 مارس 1955، حين صدر القانون رقم 165 لسنة 1955 فى شأن مجلس الدولة. في عام 1969 حيث تم الاعتداء على كافة الهيئات القضائية، بإصدار القرار بقانون رقم 83 لسنة 1969 بشأن جواز إعادة تعيين بعض أعضاء الهيئات القضائية.

يقول المستشار طارق البشري في كتابه “الديمقراطية ونظام 23 يوليو”26: ان السلطة التشريعية في ظل نظام 23 يوليو، لم تفقد استقلالها فقط، بل فقدت وجودها نفسه، واندمجت في السلطة التنفيذية، التي يتولاها مجلس الوزراء. أما بالنسبة للقضاء – الذي اعترف الدستور المؤقت باستقلاله – فإن أصل الوجود المستقل له إنما ينشأ من قيام التوازن بين سلطتي التشريع والتنفيذ. فإذا فقدت السلطة التشريعية استقلالها يكون القضاء قد أحيط به، ﻷن التبعية التنظيمية تتأتي من عاملين تنظيميين، أن يكون للمتبوع تعيين التابع وعزله (أو صرف أجره ومنعه)، وأن يكون على التابع أن ينفذ تعليمات المتبوع.

ويستطرد المستشار طارق البشري قائلا: “إن جهاز الدولة الذي اندمجت فيه السلطتان التشريعية والتنفيذية من الوجهة العملية كان قد أحاط بالسلطات القضائية وحاصر وجودها المستقل”.

وبعد هزيمة 1967 ضعف النفوذ المعنوي للنظام الحاكم وبدأت المعارضة السياسية تتوالد بكافة اتجاهاتها، فلم يعد يسوغ لدى الرأي العام تقبل انشاء المحاكم الخاصة، وبعد أن اهتزت الشرعية السياسية للنظام عامة، ومن جهة اخرى بدأت الوظيفة الكامنة في القضاء العادي تحاول من خلال نشاطها القضائي اليومي أن توسع من ولايتها المنتقصة من خلال بعض اﻷحكام التي بدأت تناقش من بعيد مدى دستورية أو شرعية بعض الإجراءات السابقة، سواء السياسية أو الاقتصادية وان تجاوز بتوسع اختصاصها النطاق المضروب عليها.

ويمضي البشري قائلًا:” تنبهت الدولة لهذا فبدأت محاولة إدخال القضاء والقضاة في الإطار السياسي للدولة ومحاولة النفوذ إلى الجهاز القضائي نفسه. واتخذ ذلك سبيلين، هما الدعوة لإدخال القضاة في التنظيم السياسي (الاتحاد الاشتراكي)، والدعوة إلى إعادة صياغة الهيكل القضائي نفسه بالمناداة بالقضاء الشعبي، أي محاولة إدخال عناصر غير القضاة في المحاكم.

في كتابه “الصراع على السلطة الدستورية”27 يقول تامر مصطفى: تظهر السجلات العائدة إلى خمسينيات القرن الماضي أن تعزيز النظام لسلطته وتقويضه للمؤسسات القضائية كبّداه آثمانًا باهظة بشكل غير مباشر، فقد أدى تأميم القسم اﻷكبر من القطاع الخاص وإزالة جميع القيود أمام السلطة التنفيذية إلى هجرة هائلة لرأس المال من البلاد، ومع وفاة عبد الناصر في العام 1970، كان الاقتصاد في حالة مزرية، فقد كان القطاع العام غير فعال إطلاقًا ويحتاج إلى ضخ مستمر لرؤوس اﻷموال، وكانت بنية البلاد التحتية تنهار.

ويضيف تامر مصطفى: وفي مواجهة الركود الاقتصادي والضغوط المتزايدة من المقرضين الدوليين خلال سبعينيات القرن المنصرم، ربط أنور السادات، خلف عبد الناصر، بقاء النظام بجذب الاستثمارات اﻷجنبية المباشرة واستثمارات المواطنين المصريين الذين يملكون أصولًا قيمتها عشرات مليارات الدولارات خارج البلاد. ولكن نظرًا إلى سجل النظام في تأميم معظم القطاع الخاص في الماضي، اتضح أنه من الصعب إقناع المستثمرين بأن الدولة لن تصادر ممتلكاتهم ولن تسن قوانين تعيق دخولهم إلى السوق المصرية. وبعد الفشل في جذب الاستثمارات طوال عقد كامل من دون توفير ضمانات مؤسساتية فعلية لحقوق الملكية، أنشأ النظام محكمة دستورية عليا مستقلة على الصعيد المؤسساتي، ومنحها سلطة مراجعة القوانين، وقد صممت المحكمة الجديدة لطمأنة المستثمرين ولفرض قيود مؤسساتية فعلية على السلطة التنفيذية، ولكنها شكلت ساحة جديدة للناشطين السياسيين لتحدي الدولة.

استخدم السادات المحكمة الدستورية العليا الجديدة والمحاكم اﻹدارية بعد إصلاحها كدعامتين أساسيتين لصياغة إيديولوجية جديدة تهدف إلى إضفاء الشرعية على النظام، وترتكز على أهمية “سيادة القانون” وتحويل مصر إلى “دولة مؤسسات” وقد استخدم السادات اﻹصلاحات المؤسساتية وخطاب سيادة القانون للنأي بنظامه عن الفشل الجلي لنظام عبد الناصر، ولصياغة سردية جديدة تكسبه شرعية وتكون مختلفة عن أسس الدولة الشعبوية.

رغم أن اﻹصلاحات القضائية ساعدت الحكومة في إظهار التزامها بضمان حقوق الملكية، إلا أن المحكمة الدستورية العليا والمحاكم اﻹدارية لم تخدم مصالح النظام بطريقة صريحة وواضحة، بل إن اﻹصلاحات القضائية أنتجت قنوات مؤسساتية مكنت الناشطين السياسيين من مقارعة السلطة التنفيذية بطرق قلبت أنماط التفاعل بين الدولة والمجتمع رأسًا على عقب، فاللمرة اﻷولى منذ الانقلاب العسكري في العام 1952، بات بإمكان الناشطين السياسيين إلغاء تشريعات النظام عن حق عبر التقدم بدعاوى دستورية بكل بساطة. وهي عملية تتطلب قدرًا قليلاً من الموارد المالية وتمكن الناشطين من الالتفاف على قيود النظام. وأصبح التقاضي هو الاستراتيجية اﻷساسية التي يتبعها الناشطون السياسيون لتحدي الدولة. وقد نجحوا في ذلك بشكل مدهش وبطرق لم تكن ممكنة إطلاقًا عبر مجلس الشعب في الماضي.

إن العامل اﻷساسي الذي سمح بتوسع السلطة القضائية عبر مدة عقدين من الزمن هو تآزر الجهود بين المحكمة الدستورية العليا والمحاكم اﻹدارية وثلاث مجموعات ناشطة في المجتمع المدني -هي جمعيات خبراء القانون وأحزاب المعارضة ومنظمات الدفاع عن حقوق اﻹنسان.

إرهاصات المرحلة الجديدة للصراع مع السلطة

“لقد كان لسياسات الخصخصة وسبل تنفيذها تأثيرًا خطيرًا جدًا على الاستثمار، وعلى البطالة، وفي إهدار المال العام وشيوع الفساد”28.

بدأت إرهاصات تلك المرحلة الهامة في تصدى مجلس الدولة للإجراءات التي اتخذتها السلطة التنفيذية لخصخصة وبيع شركات القطاع العام، في 2007 عندما اقيمت خمس دعاوى قضائية من سياسيين ومنظمات حقوقية للطعن على قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 637 لسنة 2007 بإنشاء الشركة “القابضة للرعاية الصحية” وكان الهدف من هذا القرار هو تهيئة البيئة التشريعية لخصخصة الهيئة العامة للتأمين الصحي.

كانت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية قد أقامت الدعوى (رقم 21665/61) في إبريل 2007 فور صدور القرار. وقد تضامنت منظمات أخرى مع الدعوى تحت مظلة لجنة الدفاع عن الحق في الصحة، وهي لجنة تضم أكثر من 20 منظمة وهيئة، وقد تشكلت في مايو 2007 فور صدور قرار رئيس الوزراء من أجل التصدي لهذا القرار ومقاومة خطط خصخصة التأمين الصحي بشكل عام. وقامت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية بالتعاون مع مركز هشام مبارك للقانون بتنسيق وقيادة الجانب القانوني من عمل اللجنة29.

ونظرا لمخاطر إنشاء الشركة القابضة على تمتع المواطنين بالحق في الصحة، إذ أنه بموجب قرار إنشاء الشركة القابضة يتحول التأمين الصحي الاجتماعي إلى تأمين صحي تجارى، وهو ما يشكل ضرراً كبيراً سيقع على عاتق المنتفعين ولا سيما الفقراء منهم. فعلى العكس من نصوص القوانين السابقة التي حرصت على التعامل مع التأمين الصحي والرعاية الصحية للمنتفعين بالطابع الاجتماعي الذي يقدم الرعاية الصحية المتكاملة للمريض دون النظر لنسبة اشتراكه، وذلك من خلال هياكل غير ربحية، يجعل القرار المطعون عليه الخدمة تقدم من خلال شركة ربحية لها وظائف استثمارية، ولها حق شراء أسهم وبيعها وإدارة محفظة مالية (مادة 5 من القرار)، ولها إدارة الأصول والاستثمارات بما يعظم عوائد التشغيل (مادة 7)، وتستهدف الربح (مادة 11) و تقديم خدمة معيارية بسعر مقبول (مادة 7 بند 6، 3). كل هذا يفيد إضافة هامش للربحية على سعر تكلفة الخدمة بشكل سيؤدي لا محالة إلى زيادة أسعارها، فالفرق بين الخدمة بسعر التكلفة والخدمة بسعر القطاع الربحي كبير. والفرق كبير جداً بين أسعار بعض الخدمات الصحية كما تقدم في مستشفيات التأمين وأسعار تقديمها في المستشفيات الخاصة30.

وفي 4 سبتمبر 2008 أصدرت محكمة القضاء اﻹداري حكمها بوقف تنفيذ القرار المطعون فيه، كما أرست المحكمة أسساً قانونية جديدة بشان العلاقة بين المواطنين والدولة فيما يتعلق بالتأمين الصحي يتجاوز أثرها قرار إنشاء الشركة القابضة لينطبق بشكل أعم على كافة الخطط الحكومية المتعلقة بإصلاح القطاع الصحي.

شكّل النجاح في هذه القضية نقلة نوعية، لأنه حال دون انتقال قطار الخصخصة من محطة خصخصة القطاع العام (التجاري والصناعي والزراعي) إلى محطة خصخصة الهيئات العامة، فضلًا عن تجاوزها للإخفاق الذي أصاب المحاولة الأولى أمام المحكمة الدستورية بشأن القانون 203 لسنة 1991، ونجاحها في إرساء عدد من المبادئ القضائية لحماية التأمين الصحي الاجتماعي31.

وفي 22 يونية 2010 أصدرت محكمة القضاء الإداري حكمها بإلغاء عقد بيع أرض “مدينتي” الذي حررته وزارة الإسكان لصالح شركة طلعت مصطفى، وهو الحكم الذي أيدته المحكمة اﻹدارية العليا في 14 سبتمبر 2010، واستندت في حكمها إلى أن العقد تم بالأمر المباشر، ودون اتباع قواعد قانون المزايدات والمناقصات، فضلًا عما أصاب العقد من خلل في التوازن العقدي والمالي لصالح الشركة.

ساهم هذا الحكم في لفت نظر عمال الشركات التي تم خصخصتها إلى اللجوء إلى محكمة القضاء اﻹداري لمقاومة إجراءات الخصخصة والطعن على عقود البيع، ففي 21 أكتوبر 2010 أقام عمال شركة عمر أفندي دعوى للطعن على إجراءات خصخصة شركتهم. وفي 7 مايو 2011 قضت المحكمة ببطلان خصخصة الشركة، ليصبح قضاء مجلس الدولة ساحة المقاومة والتصدي لاجراءات وعقود الخصخصة خلال السنوات اللاحقة.

في النهاية اتخذت عملية الخصخصة أشكالًا وعقودًا مختلفة حسب الظروف التي تمر بها الدولة، وحسب المرحلة التي قطعتها في عملية إعادة الهيكلة، وأيضًا حسب مستوى مقاومة المعارضين للخصخصة.

لذا نحاول في هذا الجزء من التقرير استعراض المخالفات القانونية التي أقرتها محكمة مجلس الدولة ومظاهر الفساد وإهدار المال العام وغياب الشفافية والرقابة والمحاسبة والمساءلة التي كشفت عنها اﻷحكام الصادرة.

 

قراءة في أحكام مجلس الدولة وكشف فساد برنامج الخصخصة

“إن القرار الذي يصدر من جهة اﻹدارة بإبرام عقد من العقود يمثل إفصاح اﻹدارة عن إرادتها بقصد إحداث أثر قانوني، وبتحليل العملية القانونية التي تنتهي بإبرام العقد إلى اﻹجزاء المكونة له، يتضح أن القرارات السابقة أو اللاحقة على العقد، كوضع اﻹدارة لشروط المناقصة أو المزايدة، وقرارات لجنة فحص العطاءات، وقرارات لجنة البت، والقرار بإرساء المناقصة أو المزايدة، هي بغير منازع قرارات إدارية منفصلة عن العقد، ومن ثم يجوز الطعن فيها باﻹلغاء بسبب تجاوز السلطة”32.

على الرغم من فشل أول محاولة لمقاومة الخصخصة أمام المحكمة الدستورية العليا عام 1997 عندما أصدرت المحكمة حكمها بدستورية قانون قطاع اﻷعمال رقم 203 لسنة 1991 الذي مهد الطريق للخصخصة ودعم برنامج تحرير الاقتصاد الذي يتماشى مع توجهاتها الليبرالية.

وفي 2007 بدأ مسار قضائي جديد حيث لجأ سياسيين ومنظمات حقوقية إلى محكمة مجلس الدولة لمقاومة ومواجهة إجراءات الخصخصة والطعن عليها لمخالفتها للقوانين والقرارات.

فقد لعب قضاء مجلس الدولة دورًا هامًا في كشف مظاهر الفساد التي شابت إجراءات الخصخصة وبيع شركات قطاع اﻷعمال العام، وغياب الشفافية وحرية المنافسة وتكافؤ الفرص باﻹضافة إلى تضارب المصالح، حيث أصدر أحكامًا قضائية نهائية قضى فيها ببطلان هذه الخصخصة وما ترتب عليها من بيوع ورهون وتوثيق، وأمر باستعادة الدولة للأصول المبيعة.

فعندما أعلن المجلس العسكري عن نيته بتكليف كمال الجنزوري برئاسة مجلس الوزراء33، يشاء القدر أن يصدر حكم محكمة القضاء الإداري في 3 ديسمبر 2011 في واحدة من أوضح قضايا فساد الخصخصة وإهدار المال العام ألا وهى قضية بيع وخصخصة “الشركة العربية للتجارة الخارجية” والتي تم بيع 90% من أسهمها في أغسطس 1999 -في ظل رئاسة الجنزورى للحكومة- وبدون مقابل مادى حقيقى بل وتم منح المستثمر علاوة على ذلك 11 مليون و582 ألف جنيه مصرى. وبالرغم من أن قيمة أصول هذه الشركة لا تقل عن 400 مليون جنية تم بيعها مقابل مبلغ 13 مليون و680 ألف جنيه، لم يدفع المشتري منها حال توقيع العقد إلا 50% من قيمة الصفقة وقدرها 6 مليون و 840 ألف جنيه والباقي يسدد بعد سنة كاملة34.

لم يكن هذا الحكم الوحيد الذي صدر خلال هذا الشهر فهناك العديد من اﻷحكام التي أقرت ببطلان عقود الخصخصة، منها الحكم ببطلان خصخصة شركة “شبين الكوم للغزل والنسيج” و”شركة طنطا للكتان” و “الشركة الوطنية للقطن والتجارة” وأخيرا “الشركة القابضة للقطن والتجارة”.

فالجنزوري، الذي شغل عدة مناصب بالدولة في فترة حكم السادات، ومنها محافظ لمحافظتي بني سويف والوادي الجديد ومديرًا لمعهد التخطيط، كلفه سلفه مبارك بوزارة التخطيط عام 1982 ليصبح في 1984 وزيرًا لها في صياغتها الجديدة (التخطيط والتعاون الدولي) والمنوط بأعمالها ربط السياسات الاقتصادية الداخلية بخطة وروشتة صندوق النقد والبنك الدوليين ونادي باريس والجهات المانحة والمقرضة. وظل الجنزوري محتفظًا بهذا المنصب حتى بعد تعيينه نائبًا لرئيس الوزراء إلى أن تم تكليفه برئاسة الحكومة في 4 يناير 1996. فهو ليس بعيدًا عن النظام الحاكم الذي ثار الشعب على سياساته وأدوات حكمه ولم يأتي من أجل حكومة إنقاذ وطني، إنما من أجل إنقاذ النظام الحاكم الذي ينتمي إليه وظل أحد اللاعبين اﻷساسيين في دائرة اتخاذ قراره السياسي والاجتماعي لمدة تزيد على العشرين عامًا35.

وهو نفسه من شهدت فترة حكومته اﻷولى واحدة من أعلى معدلات النشاط في برنامج خصخصة الشركات التابعة للقطاع العام، فالمؤسسات المالية العالمية التي كان يعمل معها الجنزوري كوزير للتخطيط رأت أن العبور من عنق الزجاجة للاقتصادات النامية يكمن في رفع الدعم عن الفقراء وتخلي الدولة عن الشركات المملوكة لها بخصخصتها لتشجيع الاستثمار والتخلص من عبئها وخسائرها. وكانت النتيجة إنجازه حوالي 30% من مجمل عمليات البيع التي تمت ضمن برنامج الخصخصة منذ بدايته في 1991 وحتى اﻷرقام المتوفرة في 200936.

أولًا: مظاهر الفساد وإهدار المال العام

  1. الثابت من أوراق قضية بيع شركة غزل شبين أنها شهدت نماذج لإهدار المال العام، منها طرح كراسة الشروط والتي تتضمن الاحتفاظ بالعمالة البالغ عددها 5482. وقدمت كل عروض الشراء على هذا الأساس. وخلال المرحلة من الإعلان عن تلقي المظاريف في 29 يونية 2005 وحتى إتمام البيع في أول ديسمبر 2006، قامت الشركة القابضة -دون مبرر منطقي- باتخاذ إجراءات إعادة هيكلة العمالة، والإعلان عن المعاش المبكر للعاملين بالشركة. وبلغ عدد العاملين الذين خرجوا على المعاش المبكر 1465 عاملًا، وهو ما يعني أن الشركة القابضة تحملت تكلفة إعادة الهيكلة، وأهدرت ما يزيد عن 73 مليون جنيه. وهو ما كان يستدعي إعادة تقييم الشركة وطرحها للمزايدة مرة أخرى بعد هذا المتغير الجوهري. فاستمرار البيع على هذا النحو يفيد أن المال العام دعم هذه الصفقة بنفس القيمة التي تعادل قيمة المعاش المبكر الذي صُرف للعمال، ومع العلم أن الشركة تم بيعها بمبلغ 174 مليون جنيه.37 وبالتالي، فإن القيمة الحقيقية لخصخصة هذه الشركة تمت بمبلغ يعادل مائة مليون وواحد فقط، لم يدفع منها المستثمر إلا 70 مليون فقط. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل انعكس ذلك على الأجور والتي انخفضت بسبب خروج هذه العمالة بنحو 24.8 مليون جنيه سنويًا.

ولم يكفِ متخذي قرار البيع تقييمها بهذا الثمن البخس وبيعها وفق هذه الاجراءات، وإنما أضافوا إلى طابور البطالة 1465 عاملًا، على نحو يخلّ بصناديق المعاشات، حيث تحول كل هؤلاء من دافعي تأمينات إلى مستحقي معاشات.

فإن المقارنة بين حقيقة المبالغ التي دفعها المستثمر الهندي في شراء هذه الشركة (70 مليون جنيه) وبين قيمتها الاقتصادية وفقًا لتقييم أصول الشركة عام 1993 والذي أكد أن القيمة الاقتصادية لأصول الشركة في 30 يونية 1993 تقدر بـ (607.017.000 مليون جنيه) يكشف حقيقة المال العام الذي تم إهداره في هذه الصفقة38.

  1. الصفقة الوهمية؛39 هكذا وصفت محكمة القضاء اﻹداري عملية بيع “الشركة العربية للتجارة الخارجية” بالصفقة الوهمية، حيث تم بيع 90% من أسهمها لشركة “إنفستيا القابضة للاستثمار” بمبلغ وقدره 13 مليون و680 ألف جنيهًا وذلك في 4 أغسطس 1999، وكان هذا هو عرض الشراء الوحيد الذي تم تقديمه. وكان من الواجب إعادة طرح الشركة في وقت لاحق خاصة أنه لا توجد ضرورة ملحة لبيع الشركة على هذا النحو، حيث أن عقد البيع يكشف أن المشتري حصل على ثروة من المال العام مقابل حصوله على هذه الشركة ولم يدفع شيئا، وذلك على النحو التالي:

– قيمة الصفقة في العقد هي (13 مليون و 680 ألف جنيهًا) دفع منها المشترى وقت تحرير العقد 50% أي ما يعادل (6 ملايين و840 ألف جنيهًا) ولم يدفع المبلغ المتبقي.

– استلم المشتري بمجلس تحرير العقد مبلغًا وقدره (مليون و300 ألف جنيه) قيمة حصة إسكان العاملين عن أعوام سابقة قبل الخصخصة، ومصير هذا المبلغ وصفته المحكمة بأنه غير معلوم، وتساءلت لماذا مُنح للمستثمر رغم أنه يخص العاملين.

– حصل المشترى على مبلغ وقدره (11 مليون و900 ألف جنيه) مديونية من قبل شركة “بورسعيد للصناعات والهندسة” (عبد الوهاب قوطة) لصالح “الشركة العربية للتجارة الخارجية” في صورة تسهيلات بنكية ممنوحة من بنوك القطاع العام للشركة العربية للتجارة الخارجية بصفتها قبل الخصخصة. وكان من الأجدر سداده للبنوك بدلا من تسليمه للمستثمر الذي استولى على هذا المبلغ.

– المشتري ذاته كان مدينا للشركة العربية للتجارة الخارجية قبل خصخصتها بمبلغ وقدره (6 ملايين و437 ألف جنيهًا) وظل يماطل في سدادها حتى بلغ مقدارها بعد إضافة فوائد التأخير (7 ملايين جنيه)، ولم يقم بسداد المبلغ حتى تمام بيع الشركة وتسليمها له على النحو الثابت بتقرير الجهاز المركزي للمحاسبات.

– جاء بالبند السادس من التعاقد أن يؤول للبائع الفائض عن السنة المالية المنتهية في 30 يونية 1999 مقابل تحمله الخسائر المحققة عن ذات السنة، بالرغم أن العقد تم تحريره في 4 أغسطس 1999 أي بعد انتهاء السنة المالية وتبيان تحقق الميزانية للفوائض. فكيف يتم التفريط في المال العام ويمنح المستثمر أرباح الشركة عن فترة لم يكن مالكا فيها للشركة وكانت تخضع لملكية القطاع العام؟

– جاء بالبند الخامس عشر من العقد أن الطرفين اتفقا على نقل العمولات وكافة مستحقات الشركة لدى العراق إلى البائع مقابل تحمله لجميع الدعاوى والتعويضات والتعاقدات التي ينشأ عنها نزاع وذلك قبل حرب الخليج 2 أغسطس 1990، دون إيضاح إذا ما كان هناك دعاوى رُفعت منذ الحرب حتى البيع الذي تم في 1999. وكذلك لم يتم إيضاح حجم العمولات والمستحقات.

  1. تضارب المصالح: الثابت من أوراق صفقة بيع “شركة النصر للمراجل البخارية” أنها شهدت تضارب للمصالح وتسهيل الاستيلاء على المال العام، وفقا لحكم المحكمة الذي أقر: “ومن حيث أنه وعن انعدام قرار البيع لقيامه على اجراءات شابها البطلان والفساد، فإن بيع كافة أصول شركة النصر للمراجل البخارية الذي تم بموافقة مجلس إدارة الشركة القابضة للصناعات الهندسية قد شابه (عيب تعارض المصالح) لما هو ثابت من أوراق الدعوى أن المهندس/ محمد عبد المحسن هلال شتا كان عند البيع عضوًا بمجلس إدارة الشركة القابضة للصناعات الهندسية (الشركة البائعة)، ووافق على البيع لشركة “بابكوك اند ويبلكس انتر ناشيونال انفستمنت إنك” وشركة “بابكوك وويلكوكس مصر” – شركة مساهمة مصرية – الصادر تأسيسها بقرار وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية رقم 649 لسنة 1994، وقد اثبتت اﻷوراق أن نجليّ محمد عبد المحسن شتها وهما (هشام محمد شتا) و(خالد محمد شتا) كانا من المشاركين بكل من الشركتين المشتريتين المشار إليهما، وهما من الموقعين لعقد شراء شركة النصر للمراجل البخارية وأوعية الضغط (طرف رابع وخامس) ضمن نسبة المشاركة وقدرها 49% والتي تعدلت بقرار رئيس الهيئة العامة للاستثمار رقم 354 لسنة2001 بتعديل أسم الشركة إلى “الشركة الدولية لتصنيع المراجل واﻷعمال المعدنية” والتي تملك اسهمها بالكامل 23579 سهما لكل من (محمد عبد المحسن هلال شتا) و(هشام محمد عبد المحسن هلال شتا) و(خالد محمد عبد المحسن هلال شتا) وهي الشركة التي انقسمت إلى شركتين بقرار رئيس الهيئة العامة للاستثمار رقم 1184 لسنة 2006، فصارت الشركة اﻷولى القاسمة هي الشركة الدولية لتصنيع المراجل البخارية ويرأس مجلس إدارتها (خالد محمد شتا) والشركة الثانية المنقسمة هي شركة الخلود للتنمية العقارية والسياحة ويرأس مجلس إدارتها (محمد عبد المحسن هلال شتا) ومن ثم يثبت أن عضو مجلس إدارة الشركة القابضة للصناعات الهندسية المهندس محمد عبد المحسن هلال شتا كان عند بيع شركة النصر للمراجل البخارية وأوعية الضغط عضوا بمجلس إدارة الشركة القومية للصناعات الهندسية، وأسهم في بيعها لشركة بابكوك وويلكوكس التي ساهم فيها نجليه هشام محمد شتا خالد محمد شتا اللذان انفردا بالشركة بعد تخارج الشريك اﻷجنبي، ثم انضم إليهما والدهما عضو مجلس إدارة الشركة القابضة للصناعات الهندسية البائعة…… وعلى ذلك فقد شاب إجراءات البيع عيب الفساد والانحراف بالسلطة وتعارض المصالح وإهدار قواعد الافصاح والشفافية”40

ثانيًا: تجاهل القواعد القانونية: قانون المناقصات والمزايدات وقانون نزع الملكية للمنفعة العامة

  1. مخالفة قانون المناقصات والمزايدات والإخلال بقواعد المساواة والشفافية وتكافؤ الفرص

يعد قانون تنظيم المناقصات والمزايدات رقم 89 لسنة 1998 “بمثابة الشريعة العامة في شأن جميع التعاقدات التي تجريها وحدات الجهاز اﻹداري للدولة، واﻷشخاص المعنوية العامة، والتعاقدات المتصلة بالتصرف في المال العام، بحسبانه قد تضمن تنظيمًا جامعًا لكل الوحدات اﻹدارية التي يتكون منها الجهاز اﻹداري للدولة…وجامع كذلك لكل أنواع التعاقدات التي تبرمها هذه الجهات، وأيضًا ما تجريه الدولة من تصرفات في المال العام عن طريق الشركات القابضة، ومانعًا من تطبيق أي أحكام قانونية أخرى على هذه التعاقدات”41.

والقاعدة في المزايدة العامة هي قيامها على أسس من مبادئ العلانية والمساواة وحرية المنافسة، بما يسمح باشتراك أكبر عدد ممكن من مقدمي العطاءات والعروض للتوصل لأفضل الشروط وأعلى الأسعار في المزايدة أو أقل الأسعار في المناقصة.

– الثابت من أوراق خصخصة شركة النصر للمراجل البخارية وأوعية الضغط 42 والتي استندت إليها المحكمة كسبب من أسباب إبطال اجراءات الخصخصة بتلك الشركة هو تحويلها من مزايدة عامة إلى ممارسة بالمخالفة لقانون المزايدات والمناقصات المصري حيث تقدمت 6 شركات عالمية بعروضها، ولم يصل أي من العروض إلى القيمة الأساسية لتقييم الشركة والمقدرة بـ16 مليون دولار.

كان من اللازم إلغاء المزايدة لتحقق أحد الأسباب الوجوبية لإلغائها وفقًا لقانون المزايدات والمناقصات المتمثل في عدم وصول قيمة عروض المزايدة إلى الثمن والقيمة الأساسية، كما أن جميع العروض اقترنت بتحفظات وكان ذلك يعطى سببًا إضافيًا لإلغاء المزايدة. ولكن القائمون على عملية البيع حولوا الإجراءات إلى ممارسة حيث كشفوا عن السعر المقدر لأصول الشركة بالمخالفة للقانون الذي يستوجب أن يظل سعر الأصول سريًا ربما يتقدم أحدهم بسعر أعلى من السعر المقدر، وتفاوضوا مع مقدمي العروض الستة لزيادة سعر كل منهم على حدة، ثم اختاروا من بينها (3) عروض وتفاوضوا مجددًا مع كل شركة على حدة.

  1. مخالفة قانون نزع الملكية للمنفعة العامة والتأميم

ذهبت محكمة القضاء الإداري في حيثيات حكمها على خصخصة شركات غزل شبين، وطنطا للكتان، والنيل لحليج الأقطان باعتبارها شركات مؤممة، وكذا شركة المراجل البخارية باعتبارها من الأموال المنزوع ملكيتها للمنفعة العامة إلى أن:

“الجهة الإدارية المالكة للمال العام المنزوع ملكيته أو المؤمم ليست شركة وليست تاجرًا، ولا يحق لها أن تخرج عن الغرض المحدد لنزع الملكية للمنفعة العامة جريًا وراء تحقيق مصلحتها المالية حتى ولو كانت سداد ديون الشركات التابعة الخاسرة وفق برنامج الخصخصة، فلا يجوز لها السماح بتغيير النشاط الذي تقررت له نزع الملكية للمنفعة العامة أو الذي تقرر تأميمه لغايات محددة أو التصرف في أراضي ومباني الأصول التي تقرر تأميمها أو نزع ملكيتها للمنفعة العامة، فذلك مما يتسم بعدم المشروعية لما فيه من إهدار للضمانات التي حددها الدستور لنزع الملكية والتأميم وانحراف بهاتين الوسيلتين عن الغرض الذي شُرعتا من أجله، ولا يصح في هذا المقام التعلل بالمصلحة العامة الداعية لإتباع أسلوب الخصخصة، إذ ليست هناك مصلحة عامة تتحقق بمخالفة أحكام القانون والدستور، ومن ثم لا يجوز في مجال سياسات الخصخصة أن تكون الأرض المؤممة أو المنزوع ملكيتها للمنفعة العامة المقام عليها المشروع أو مبانيها أو الشركة التابعة المراد خصخصتها وطرحها للبيع محلًا للبيع من الدولة ممثلة في مجلس الوزراء أو وزير الاستثمار أو وزير المالية أو الشركات القابضة إلى المستثمر أو المشتري للشركة أو المشروع، أو محلًا للبيع من جانب المستثمر أو المشتري إلى الغير سواء احتفظ ذلك الغير بنشاط الشركة أو المشروع أو لم يحتفظ بذلك النشاط، فالمال محل التأميم أو المال محل نزع الملكية قد صار في الملكية العامة للدولة، مخصصًا للغرض الذي حدده القانون أو القرار، وليس في القانون ما يجعل للدولة -أيًا من كان يمثلها- أن تخرجها من تلك الملكية إلى الملكية الخاصة للمشتري أو المستثمر أو للشركة الخاصة المشترية، وبالتالي لا يجوز للأموال التي تنزع ملكيتها للمنفعة العامة أو التي تكون محلًا للتأميم بحسبانها من أموال الدولة العامة، أن تكون محلًا للتصرف فيها، أو الحجز عليها، أو تملكها بالتقادم، كما لا يجوز أن تخضع للتسجيل بالشهر العقاري أو السجل العيني أو للرهن أيًا كان نوعه لغير الدولة، ولا يترتب عليها للغير أي من الحقوق العينية التبعية سواء أكان رهنًا رسميًا أو رهنًا حيازيًا أو حق اختصاص أو حق امتياز”43.

ثالثًا: البيع بالمخالفة للقانون 203 ثم تعديل القانون بعد إتمام البيع

في عامي 1997 و1998 تم طرح بيع “شركة النيل لحليج الأقطان” بالبورصة دون وجود نص في القانون 203 لسنة 1991 يبيح هذا الطريق. وفي سنة 2006، تم تعديل اللائحة التنفيذية لقانون قطاع الأعمال العام لتسمح للشركات التابعة ببيع كامل أسهمها.

وقد ذهبت المحكمة الإدارية العليا في حيثيات حكمها بشأن تأييد حكم القضاء الإداري ببطلان خصخصة شركة النيل لحليج الأقطان إلى أن جهة الإدارة “اتخذت من حق القطاع الخاص في المشاركة في الإنتاج وفي المساهمة في الناتج القومي المحلي ذريعة للنيل من حق قطاع الأعمال العام في الوجود…. وأن هذه السياسة دون سند من القانون وبأساليب احتيالية تنم عن فساد وعدم شفافية… وذلك ببيعها بخسًا سواء للمستثمر الرئيسي بالمخالفة لنص المادة 10 من هذا القانون44 والتي تقصر التصرف بالبيع على أصل فقط من خطوط الإنتاج الرئيسية، أو ببيع كل أسهم الشركة التابعة بما يؤدي إلى جعل الشركة القابضة أو الأشخاص الاعتبارية العامة وبنوك القطاع العام في رأسمالها تساوي صفر، وذلك بالمخالفة للمادتين 20 من قانون قطاع الأعمال العام و25/ بند خامسًا من لائحته التنفيذية”45 بحسبانهما لا يسمحان بالبيع على هذا النحو.

وأدرك القائمون على برنامج الخصخصة -لاحقًا- حقيقة هذه المخالفة. فأصدر رئيس الوزراء القرار رقم 980 لسنة 2006 بإضافة نص المادة 26 مكرر إلى اللائحة التنفيذية للقانون المشار إليه والتي أجازت لأول مرة طرح الشركات التابعة بالكامل أو أغلبية الأسهم فيها بطريق الاكتتاب أو بنظام عروض الشراء من خلال بورصة الأوراق المالية بعد عرض الوزير المختص على المجموعة الوزارية للسياسات الاقتصادية.

وهذا المبدأ الذي أرسته المحكمة الإدارية العليا لا يتعلق بصفقة بيع النيل لحليج الأقطان فقط ولكنه يمتد لكافة عمليات خصخصة الشركات والتي تم فيها بيع الشركات التابعة بالكامل أو جعلت أسهم الشركة القابضة أو الأشخاص العامة أو بنوك قطاع الأعمال العام صفرًا والتي تمت قبل نشر قرار رئيس الوزراء رقم 890 لسنة 2006 بتعديل اللائحة التنفيذية لقانون قطاع الاعمال العام لأن القانون واللائحة التنفيذية لا يسمحان بذلك46.

فكان المتاح فقط هو تخفيض أسهم الشركات القابضة أو الأشخاص الاعتبارية العامة أو بنوك القطاع العام إلى أقل من 51%، ولم يكن متاحًا بيع الشركة التابعة بالكامل أو جعل نسبة تلك الكيانات السالف بيانها صفرًا إلا بعد صدور قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 890 لسنة 2006 المنشور بالجريدة الرسمية بالعدد 123 في 4 يونية 472006.

 

خاتمة

قدم مجلس الدولة نموذجًا لدور القضاء وتأثيره الإيجابي على الحياة العامة في مصر، حيث كشف من خلال أحكامه الفساد الذي شاب عمليات الخصخصة وبطلان إجراءات بيع شركات القطاع العام.

كما شهدت عمليات الخصخصة في مصر نماذجًا صارخة من عقود تغل يد الدولة، وتطلق العنان للمشترين ليس فقط لتشريد العمال وطردهم بل وتسمح بتغيير طبيعة نشاط الشركة لدرجة تصل إلى إعدام النشاط وتسقيع الأراضي، وبيعها دون أن يكون للدولة حق وقف تلك الممارسات، بل وتمكين المشترين من اللجوء للتحكيم المحلي أو الدولي في ظل هذه الشروط التي تُعلي من حقوق المشتري على حساب حقوق الدولة. فلم يكن الهدف الرئيسي من تطبيق تلك السياسات توسيع قاعدة الملكية وفتح المجال أمام القطاع الخاص، إنما كان بالدرجة الأولى محاولة من الدولة للتخلص من تلك الشركات ومن عمالها دون النظر للآثار السلبية الاجتماعية منها والاقتصادية على العمال وعلى مقومات الصناعة والإنتاج في مصر48.

وختامًا، ننهي هذا الجزء بما أكد عليه حكم المحكمة الادارية العليا بشأن بطلان بيع شركة المراجل البخارية من أنه: لا يسوغ للدولة بعثرة أو تبديد أموالها العامة والخاصة، باعتبارها من عناصر الثروة القومية، وتستعصي على كل استغلال لا يستهدف تحقيق الصالح العام، ولا يجوز بحال من اﻷحوال أن تكون مرتعًا لفساد مؤسسي صغرت أمامه التشريعات.

 

هوامش

1- فاطمة رمضان تطور تشريعات النقابات العمالية من الملكية حتى اﻵن – مجلة دار المرايا العدد الثامن الصادر في….. ص118

2- قرار رئيس الجمهورية رقم 534 لسنة 1993 بشأن الموافقة على اتفاقية منحة مشروع الخصخصة بين حكومتي جمهورية مصر العربية والولايات المتحدة اﻷمريكية منشور بالجريدة الرسمية العدد 18 بتاريخ 5 مايو 1994.

3- نشر في الجريدة الرسمية عدد 42 مكرر، بتاريخ 19 يونيو 1991.

4- نشر في الجريدة الرسمية عدد 42 مكرر، بتاريخ 19 يونيو 1991.

5 أملاك الدولة الخاصة وفقا للقانون رقم 10 لسنة 1987م بشأن أملاك الدولة العامة والخاصة

هي العقارات والمنقولات المملوكة للدولة أو لأحد الأشخاص الاعتبارية العامة، والتي لا تكون مخصصة لمنفعة عامة أو التي انتهى تخصيصها للمنفعة العامة.

يعتبر من أملاك الدولة الخاصة (نماذج ) :

الأراضي التي لا مالك لها، والتي تقع داخل حدود المدن والقرى أو خارجها.

الأراضي البور «غير المزروعة» والأراضي الصحراوية والمراعي، التي تقع خارج حدود المدن والقرى.

الأراضي الزراعية والبور التي تكون الدولة قد منحتها بشرط زراعتها أو استثمارها لغرض معين وتوقف مالكوها عن تنفيذ هذا الشرط مدة خمس سنوات متصلة، على أن يعوض هؤلاء الملاك عما يكونون قد أقاموه عليها من منشآت إذا توافرت لهم شروط التعويض.

جميع العقارات والعقارات بالتخصص والمنقولات التي تملكها الدولة أو الأشخاص الاعتبارية العامة غير المخصصة لمنفعة عامة

6- فاطمة رمضان مرجع سابق ذكره ص118.

7- فاطمة رمضان مرجع سابق ذكرة ص 118

8- جمال محمود الكردي التنظيم القانوني للخصخصة في القانون المقارن والقانون الدولي الخاص، دار النهضة العربية 2018 ص47.

9- المستشار حمدي ياسين عكاشة الخصخصة الفاسدة ومخططات بيع مصر 2022 ص 118

10- إلهامي المرغني ورجائي موسى، خصخصة الخدمات وسياسات الليبرالية الجديدة دراسة صادرة عن مركز دعم التنمية للاستشارات والتدريب 2007 ص 12

11بيسان كساب “خطة حكومية من وحي «الصندوق» لتمكين القطاع الخاص.. هل يعود قطار الخصخصة للتسعينيات؟ مدى مصر في 16 نوفمبر 2021.

12- قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 1765 لسنة 2000 منشور في الوقائع المصرية عدد 197 بتاريخ 30 أغسطس 2000.

13- قرار رئيس الجمهورية رقم 231 لسنة 2004 بتنظيم وزارة الاستثمار منشور بالجريدة الرسمية العدد 31 تابع بتاريخ 29 يولية 2004.

14- المستشار حمدي ياسين عكاشة مرجع سابق ذكره ص 840

15تامر مصطفى الصراع على السلطة الدستورية – دور المحكمة الدستورية العليا في السياسة المصرية. دار تدوين للطباعة والنشر لبنان. 2017 ص125

16 – عصام الدين حسن، “انحراف البنية التشريعية في مصر من واقع أحكام المحكمة الدستورية العليا”، مركز المساعدة القانونية لحقوق اﻹنسان، القاهرة يونيه 1996.

17تامر مصطفى مرجع سابق ذكره ص19

18 المرجع السابق ص135

19- حكم المحكمة الدستورية العليا في الطعن رقم 7 لسنة 16 دستورية بتاريخ 1 فبراير 1997.

20- خالد علي مقال بعنوان “قراءة في دفاتر الخصخصة 2: مواجهة الخصخصة” منشور على موقع المفكرة القانونية

21- تامر مصطفى مرجع سابق ص 136.

22- تامر مصطفى المرجع السابق ص 137

23- تامر مصطفى الصراع على السلطة الدستورية – دور المحكمة الدستورية العليا في السياسة المصرية. دار تدوين للطباعة والنشر لبنان. 2017 ص 19

24 – فاروق عبد البر، دور مجلس الدولة المصري في حماية الحقوق والحريات العامة الجزء اﻷول 1988 ص446.

25 -المرجع السابق ص447.

26 -طارق البشري الديمقراطية ونظام 23 يوليو 1952-1970 مؤسسة اﻷبحاث العربية 1987 ص 105 وما بعدها.

27 -تامر مصطفى الصراع على السلطة الدستورية – دور المحكمة الدستورية العليا في السياسة المصرية. دار تدوين للطباعة والنشر لبنان. 2017 ص 17 وما بعدها

28- حكم محكمة القضاء اﻹداري رقم 40510 لسنة 65 قضائية جلسة 21 سبتمبر 2011 ببطلان بيع شركة المراجل البخارية والمؤيد بحكم المحكمة اﻹدارية العليا في الطعون أرقام 1976 و 2677 و 2688 و2699 لسنة 58 قضائية عليا جلسة 17 ديسمبر 2012.

29 -ورقة تعريفية “قضيتنا ضد تحويل التأمين الصحي إلي شركة قابضة” المبادرة المصرية للحقوق الشخصية 2008.

  • 30المرجع السابق.

31- خالد علي مقال بعنوان “قراءة في دفاتر الخصخصة 3: طرق الدولة لاهدار المال العام ومواجهتها. منشور على موقع المفكر القانونية.

32- حكم محكمة القضاء الاداري في الدعوى رقم 11492 لسنة 65 فضائية جلسة 7 مايو 2011.

33- قرار المجلس العسكري رقم 6 لسنة 2011 بتعين كمال الجنزوري رئيسا للوزراء 14 سبتمبر 2011، منشور بالجريدة الرسمية العدد 50 تابع بتاريخ 15 ديسمبر 2011.

34- انظر حكم محكمة القضاء اﻹداري في الدعوى رقم 37540 لسنة 65 ببطلان عقد بيع الشركة العربية للتجارة الخارجية

35- هبة خليل الجنزوري والخصخصة تقرير صادر عن المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في 7 ديسمبر 2011 ص 2

36- المرجع السابق

37- الحكم 34517 و40848 لسنة 65 ق ببطلان خصخصة غزل شبين الصادر في 21 سبتمبر 2011 والمؤيد بحكم الإدارية العليا 1834 و2678 لسنة 58 ق عليا جلسة 21 يناير 2013.

38- المرجع السابق

39- حكم محكمة القضاء اﻹداري في الدعوى رقم 37540 لسنة 65 ق ببطلان عقد بيع الشركة العربية للتجارة الخارجية، أنظر أيضا حكم المحكمة اﻹدارية العليا بتأييد حكم محكمة القضاء اﻹداري. أنظر أيضًا مقال خالد على “قراءة في دفاتر الخصخصة 3 مرجع سابق ذكره.

40 -حكم المحكمة في الدعوى رقم 40510 لسنة 65 قضائية ببطلان عقد بيع شركة المراجل البخارية، أيدته المحكمة اﻹدارية العليا في الدعوى أرقام 1976، 2677، 2699 لسنة 58 قضائية.

41- الطعن رقم 9820 لسنة 48 ق عليا جلسة 6 / 7/ 2003.

42- حكم المحكمة في الدعوى رقم 40510 لسنة 65 قضائية ببطلان عقد بيع شركة المراجل البخارية، أيدته المحكمة اﻹدارية العليا في الدعوى أرقام 1976، 2677، 2699 لسنة 58 قضائية.

43- راجع في هذا الشأن الحكم في الدعوى رقم 34517 و40848 لسنة 65 ق ببطلان خصخصة غزل شبين الصادر في 21 سبتمبر 2011 والمؤيد بحكم الإدارية العليا 1834 و2678 لسنة 58 ق عليا جلسة 21 يناير 2013.

أنظر أيضا والحكم 34248 لسنة 65 ق ببطلان خصخصة شركة طنطا للكتان والصادر بجلسة 21 سبتمبر 2011 والمؤيد من الإدارية العليا بالأحكام أرقام 196، 1977، 2679، 2541 لسنة 58 ق ع الصادرين في 15 أبريل 2013.

44- قانون 203 لسنة 1991 بشأن شركات قطاع اﻷعمال.

45- حكم المحكمة اﻹدارية العليا في الطعون أرقام 8259، 8263، 8735، 8818، 8816، 8808، 8763، 7862 لسنة 58 ق عليا ببطلان عقد بيع شركة النيل لحليج اﻷقطان.

46- خالد علي مرجع سابق ذكره

47- المرجع السابق

48- خالد علي مقال بعنوان “قراءة في دفاتر الخصخصة 3: طرق الدولة لاهدار المال العام ومواجهتها. منشور على موقع المفكر القانونية.

للاطلاع على التقرير كامل

محاكمة مسار الخصخصة: قراءة نقدية من وجهتي النظر الاقتصادية والقانونية

محتوى المدونة منشور برخصة المشاع الإبداعي نَسب المُصنَّف 4.0