هشام مبارك المفكر والباحث عن المعرفة
د. محمد السيد سعيد
أحببت هشام مبارك حبا جما ، وكذلك احترمت كثيرا عقله الشاب المفكر ، وتأسرنى تماما الكتابة عنه وعنى ، غير أننى لن أفعل ذلك بالضبط . فما أريده هنا هو أن أتحدث عن تجربة نشأة مفكر شاب فى الظروف بالغة الصعوبة التى تحيط ببلادنا فى تلك المرحلة التى شهدت تفتح وعى الباحث عن المعرفة لدى هشام مبارك وبعض رفاق جيله .
إن حديثى عن هذه التجربة سوف تكتنفه كثير من التحيزات التى أعيها ولكنى عاجز كلية عن تجاوزها . ولذلك ، فإنى أطلب من القارئ ومن كافة الزملاء المعنيين بالقضية أن يعيدوا رواية الحكاية لأنفسهم ولنا كما يروها هم . وربما يكون هشام مبارك نموذجا مثاليا للوعود الكبرى لنشأة مفكر شاب ، وكذلك ربما لطبيعة القيود والصعوبات التى كان عليه أن يحلها بعناية وهو فى طريقة للتحقق .
لقد تعرفت على هشام مبارك بالصدفة البحتة ، كان ذلك أثناء حملة اعتقالات طالت عديدا من النشطاء عام 1989 . أما المناسبة التى تعرفت عليه فيها لأول مرة فكانت فى سياق محاضرة ألقيتها على المجموعة التى كانت محتجزة فى اليومين الأولين من تلك الحملة فى قسم البوليس النموذجى لمدينة نصر فيما أتذكر .
ورغم أن معرفتى بعدد من زملاء هذه الحبسة ، كانت تعود إلى أيام الدراسة ، فقد كنت أبدو غريبا وسطهم . وعندما فهموا أنه كان لى دور فى تطور المنظمة المصرية لحقوق الإنسان ، سريعا ما تساءلوا عن معنى وطبيعة فكر حقوق الإنسان . ومن هنا انطلقت المحاضرة .
وقد فهمت بدورى ان حملة الاعتقالات جاءت إلى قسم بوليس مدينة نصر – وبعد ذلك إلى سجن أبو زعبل – بعدد كبير من الأشخاص الذين انتموا إلى الماركسية . ولذلك فقد بدا من المنطقى أن أستعد للمؤاخذات والتحفظات التقليدية لدى الماركسين حيال مفهوم وحركة حقوق الإنسان . وتشمل تلك التحفظات عدد كبيرا من الحجج ” التقليدية ” مثل رفض التجربة المتمثل فى مفهوم الإنسان . طالما أنه يبدو وكأنه عاجز عن الإحاطة بالواقع والوضع الطبقى والاجتماعى ، واستحالة ” تحقق ” الإنسان فى المجتمع البرجوازى وضرورة التعاطف مع مفهوم الإنسان بالارتباط مع الملكية ، ونزع الملكية ، أى بالارتباط مع الانقسام الأساسى فى المجتمع الرأسمالى بين طبقة المالكين وطبقة الإجراء الذين يضطرون لبيع قوة عملهم ، وللخضوع للاغتراب والتشيؤ الناتجين تلقائيا عن انفصالهم عن منتوجات عملهم ، وكذلك ، بل وفوق ذلك كله التوظيف الانتهازى لمفهوم حقوق الإنسان فى المعترك الدولى ، من جانب أمريكا بالذات .
ورغم أن هذه التحفظات قد سجلت فعلا ، فإنه يتعين على أن أعترف بأن الدهشة والقبول كانت تسم استجابة أغلب هؤلاء الزملاء ومن بينهم هشام مبارك .
لقد علمت بعد ذلك أنه كان لهشام مبارك صلة عميقة بالفكر الماركسى وأتذكر مع ذلك أن ما هزنى هو أنه كان ينصت باهتمام ودهشة لتلك المحاضرة ، وأنه قد صمد حتى نهايتها وبعد أن غلب النعاس غالبية الزملاء الآخرين الذين أرهقتهم محنة هذه الاعتقال وحوادثه الغريبة .
أظن أن ما هزنى فى نمط استجابة هشام مبارك هو تلك المعاناة الناشئة عن التوتر بين استعداده فى تلك اللحظة لقبول فكر كان يبدو غريبا عنه ، وانغماسه شبه الكلى فى الفكر الماركسى الذى كان يبدو رافضا بل واتهامنا حيال حقوق الإنسان .
لقد إستمر ذلك التوتر بعد ذلك لفترة ، وهذا ما بدا لى مفهوما تماما ومتسقا مع تجربة هذا الجيل الممتاز من الشباب الموهوبين فكريا والمؤطرين أيديولوجيا فى نفس الوقت . غير أن هذا التوتر بالذات هو ما أظنه كان البداية الحقيقية لمشوار فكرى ومعرفى أعتقد أن هشام مبارك كان قد قطع على نفسه عهدا بالبدء فيه ربما فى تلك اللحظة بالذات .
فرغم أن هشام مبارك لم يتخل أبدا عن المثل الملهمة التى دفعته فى اتجاه الماركسية . وبصفة أخص قيم العدالة الاجتماعية والانتصار لأبناء الشعب وأبناء هذا الوطن من المقهورين والمعوزين ، فإنه من بين قلة صغيرة . ممن انغمسوا فى تجربة النضال الفكرى الماركسى وكانوا الأكثر استعدادا للتجدد واقتحام ميدان المعرفة اللانهائى ، حتى لو كان ذلك على حساب التخلى عن تلك السكينة الآسرة والاطمئنان الروحى العميق الذى يميز هؤلاء الذين قنعوا بالماركسية التقليدية كشفرة كاملة لفك طلاسم المعرفة أيا كانت القضية والموضوع والسياق وتغير الأحوال وتراكم المعارف والخبرات .
إن هذا الاستعداد هو ما دفعه لصياغة مشروعه الفكرى والبحثى الخاص والذى لم يكتمل بكل أسف بسبب وفاته المفاجئة والمروعة .
إن القرارات الأساسية التى اتخذها كبداية لهذا المشوار لها دلالة عميقة بحد ذاتها .
ولكن سأناقشها أيضا انطلاقا من تجربة جيله .
وربما كان القرار الأول هو الانضمام للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان فور خروجه من السجن ، والعمل من خلالها بشكل مهنى . وداخل المنظمة تعامل هشام بإنفتاح كامل وبدون تحفظ تقريبا مع فكر حقوق الإنسان والأرجح أنه لم يكن قد حل بعد معضلات تسوية العلاقة بين الفكر الماركسى التقليدى من ناحية وفكر حقوق الإنسان من ناحية أخرى .
ولكنه اكتشف زيف القول بوجود خصومة بين التحليل الماركسى ، ومقولة الصراع الطبقى ، ومقولة الإنسان وحقوقه ، إلا فى مجال محدد ، وهو التسليم بأن العنف هو قابلة التاريخ ” بين الماركسيين ، وهو ما لم يتحداه كثيرون من داخل حلبة الماركسية ، بكل أسف .
لقد واجه الماركسيون المصريون محنة فكرية كبيرة عندما فضح جوريا تسوف مأسى التطبيق السوفيتى للماركسية ، وخاصة فيما يتعلق بنقد الشمولية وعنف وإرهاب الدولة ، وقد تنوعت الاستجابات . فقد اعتبر البع جوريا تشوف ببساطة تامة عميلا للمخابرات المركزية . وأكد البعض على العكس تماما أن الماركسية المصرية كان لها موقفها المتقدم من النموذج السوفيتى تجسد فى نقد مبكر للشمولية . وتقدمت تيارات مختلفة بتفسيرات أخرى تقع بين الطرفين .
وأظن أن هشام مبارك قد تميز داخل جيله بحسم كامل لموقفه من هذه القضية . إذ انتصر للنقد الحازم للشمولية السوفيتية . وفى حدود ما تبادلناه من أفكار ومناقشات ، فإنه لم يبرئ الماركسية ( التقليدية ) ذاتها من هذه النزعة الشمولية . واعتقد أن استيعاب الماركسية لفكر حقوق الإنسان قد صار ضرورة ملحة لإنقاذ الماركسية ذاتها .
ولا أظن أن هشام قد تصدى مباشرة لإشكالية تحقيق هذا الدمج والاستيعاب على المستوى الفكرى . ولكنه اتخذ موقفا عمليا من بعض تفريعات هذه الإشكالية . فعلى سبيل المثال ، كان الموقف من الغرب يجسد بين أبناء جيله بكل انتماءاتهم الفكرية والسياسية أحد أهم أركان الموقف الوطنى والتقدمى . ففى ظل ثقافة الحرب البارده ، انتهى الفكر التقدمى والوطنى إلى تبنى موقف الرفض الكامل من الغرب بكل تعبيراته الثقافية والحضارية والسياسية . ومثل هذا الموقف نوعا من الدوجما التى لم يملك سوى أقل القليلين تحديها ، حيث كاد هذا التحدى يتساوى أو يستدعى تهمة الإخلال بالشرف السياسى والثورى .
مثل هذا الموقف كان يتعارض عمليا على الأقل مع العمل من خلال المنظمة المصرية ، التى كانت تؤسس فى ذلك الوقت شبكة تحالفات واسعة النطاق مع منظمات حقوق الإنسان الغربية المنشأ . وبينما نظر البعض لهذه الممارسة كأنها نوع من ” العمالة ” للغرب ، فإن هشام كان حاسما فى اكتشاف الفارق الكبير بين النقد الحاسم للراسمالية والإمبريالية الغربية من ناحية والرفض الجزافى والمطلق للغرب من ناحية ثانية . لقد اكتشف بكل بساطة أن ثمة إمكانية نظرية وعملية لتأسيس تحالفات أو ائتلافات موضوعية مع العناصر الديموقراطية والتقدمية الغربية التى تعمل من خلال منظمات حقوق الإنسان ، بل ومع الحركة العالمية لحقوق الإنسان بروافدها المتعددة والمتنوعة . ومن خلال الخبرة والممارسة ، اكتشف هشام زيف مقولة “الغرب ” كمواز ومساو للأمبريالية والرأسمالية ، وأدرك حتمية إدماج فكرة ” العالمية ” كأحد ركائز فكر حقوق الإنسان ، بل والفكر التقدمى عموما . لقد تطلب منه ذلك قدرا كبيرا من المعاناة ، ولكنه إذ بدأ التفتح كمفكر كان حاسما تماما فى قراره بالانفتاح ويكسر الدوائر المغلقة لفكر الحرب الباردة ، وثنائياته المعروفة.
إن مراجعته لعقيدة ” العنف كقابلة للتاريخ ” أدت به إلى اتخاذ قراره الثانى الأهم فى مشواره الفكرى ، وهو بحث قضية عنف الجماعات الإسلامية ، وأظن أن ذلك كان قرارا شجاعا بسبب أن الماركسيين المصريين لم يكونوا قد قدموا نقدا شاملا للعنف ذاته . وربما كانت مشكلة الجيل الجديد منهم بالذات مع الجماعة الإسلامية مركزه فى المحتوى الفكرى والبرنامجى لهذه الجماعة وللتيار الجهادى فى حركة الإسلام السياسى عموما ، ولم تكن أساسا مع البعد العنفوى أو الإرهابى فى الفكر والممارسة المنطلقين من الإسلام السياسى .
لقد كان مقوف الماركسيين الشباب من الحركة الإسلامية عموما شديد الإضطراب ، طوال عقد الثمانيات . فمما لا شك فيه أن نجاج الإسلاميين فى اغتيال الرئيس السادات قد أثار إعجابا ملحوظاً بين القوى التقدمية التى تحملت مسئولية معارضة سياساته دون أن تنجح فى إجهاضها أو قطع الطريق عليها ، وخاصة زيارته التى وصفت بالمشئومة للقدس . وقد وجدت النظرية التى قالت بأن التيار الإسلامى هو ساعد الحركة الوطنية ( بينما القوى التقدمية تشكل عقل هذه الحركة ) نوعا من الرضا والقبول غير المعلن .
وعلى صعيد الحركة الإجتماعية ، لاقت نظرية صاغها عندئذ أستاذ الجيل الدكتور إسماعيل صبرى عبد الله بشأن الإسلاميين قدرا مماثلا من القبول المضمر . إذ أعلنت هذه النظرية أن التيار الإسلامى الجديد يعبر عن احتجاج البرجوازية الصغيرة والطبقات الشعبية التى لم تجد قيادة يسارية نافذة . وأنه بذلك قد ” خطف ” الجمهور الطبيعى لليسار .
وبصفة عامة كانت نظرة التقدميين للتيار الإسلامى الجديد إيجابية نوعا ما خلال السنوات القليلة الأولى من عقد الثمانينات . غير أن تلك النظرة سريعا ما تغيرت ، وحل محلها قدر هائل من الشكوك ، حيث تجلى واضحا البعد السوداوى والقمعى لهذا التيار ، وخاصة ضد النساء والأقباط . وقد فهم هشام مبارك هذه الحقيقة مبكرا بالنسبة لغيره من التقدميين وسارع بتمييز موقفه عن تلك المواقف التى استمرت فى إضفاء أوصاف إيجابية على عنف الجماعات . والمرجح أنه قد أخذ فى رفض منهج العنف والإرهاب عموما بعد منتصف عقد الثمانينات مباشرة ، وأن موقفه النقدى من العنف الأسود للجماعات الإسلامية قد بدأ يزداد تبلورا مع الوقت .
إن انضمام هشام للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان وعمله من خلالها عام 1989 قد ضاعف من شدة المعضلة التى كان يواجهها مع أبناء جيله ، ومع القوى الديمقراطية فى الوطن عموما . فقد وجد نفسه يدافع بتكرس ونزاهة كاملين عن الحقوق الإنسانية للافراد المنتمين للجماعات الإسلامية ، وذلك فى نفس الوقت الذى كان موقفه الرافض فيها يزداد وضوحا وتبلورا .
ويبدو أن هذا هو السبب الذى دفعه لتركيز جهده البحثى لدراسة عنف الجماعات الإسلامية ، وهو الجهد الذى تجسد فى سفر حقيقى هو كتابة المعنون بـ ” الإرهابيون قادمون ” .
وقد تبدت قدرات هشام البحثية بأروع ما يكون فى هذا الكتاب النادر ، والذى سد فراغا كبيرا فى المعرفة بالتيارات الإسلامية عموما ، والعلاقات المتبادلة بين هذه التيارات .
وعندما أشير هنا إلى تفتح قدرات هشام مبارك كمفكر وباحث فى هذا الكتاب ، فأنا لا أعنى فحسب تلك الجدية البارزة التى تعامل بها مع موضوع كتابه، ومهارات التعامل مع عدد كبير جدا من المراجع بدأ كتابه نسجها وقراءتها بعمق، وإنما أعنى أيضا تلك النزاهة الفكرية التى تميز بها الكتاب .
وهنا أتذكر أول لقاء بيننا حول فكرة الكتاب . لقد جاءنى هشام ولديه فرضية كان يبدو متحمسا لها فى البداية. وهى أن عنف الجماعية الإسلامية وحركة الجهاد ليس سوى نوع من الامتداد الطبيعى، بل وتقسيم العمل مع حركة الأخوان المسلمين .
وقد بدت لى تلك النظرية فى ذلك الوقت كرجع صدى للموقف المتشدد الرافض للتيار الإسلامى عموما ، أى كموقف مسبق نابذ وغير مستعد للتفاهم مع الحركتين معا: أى حركة الأخوان ( باعتبارها الحركة الأم ) وحركة الإسلام والجهادى ( بتفريعاته المختلفة وخاصة الجهاد والجماعة الإسلامية ). وأخذنا فى مناقشة تلك الفرضية طويلا . وبعد نهاية اللقاء لم يكن يبدو أن هشام قد تأثر كثيرا برفضى التام لتلك الفرضية أو النظرية ، أو بدفاعى عن الحاجة للتمييز بين تيارى الأخوان والجماعة الإسلامية . غير أن لقاءاتنا التالية والتى تمت مع تقدمه فى الإطلاع والبحث عكست اقتناعه المتزايد بما كنت قد طرحته عليه فى لقائنا الأول حول الكتاب . وجاء الكتاب نفسه لكى يسجل ويوثق هذا التمييز على نحو واضح .
لقد كانت نزاهته الفكرية والبحثية واضحة للغاية فى الكتاب . وقد أصاب أستاذنا صلاح عيسى فى تقديمه للكتاب من أن هشام مبارك قد سعى لكى يفهم واقع الظاهرة ( الأصولية ) من داخلها وليس من داخله هو ، إدراكا منه بأن فهم الظواهر على حقيقتها هو أساس التعامل الصحيح معها ” كما أن هذه النزاهة وهذه الروح الموضوعية والمنهجية العلمية التى ميزت الكتاب جاءت تعبيرا عن وعى هشام بضرورة الفصل بين البحث العلمى والصراع السياسى .
فأجناس الكتابة والتاريخ التى تجهز الساحة السياسية لصالح فصيل معين لا تنكر فقط أهمية المعرفة الموضوعية وإنما تنكرها ذاتها أيضا ، من حيث أن سوء الطوية هو الذى يحرك هذا التجهيز ، ومن ثم السلوك والأداء السياسى لهذا الفصيل .
وقد برز فى هذا الكتاب أيضا المهارة المنهجية التى تمتع بها هشام مبارك . فلم يوظف فيه أسلوب واحد للتحرى والبحث وإنما عدة أساليب فى وقت واحد . فهو يبحث فى أصول الخطاب وتشكيله والظروف السياسية التى حرثت له الأرض ، وذلك من خلال متابعة الأدبيات الكبرى التى صدرت عن آباء التيار الجهادى وخاصة الأستاذ سيد قطب . وهويجرب هذا الأسلوب من جديد من خلال قراءة متمعنة للأدبيات السرية للتيار الأصولى الجهادى . وهو يبحث فى الواقع عن طبيعة التجربة السياسية لهذا التيار فى منطقة سوهاج وفى منطقة امبابة وهو كذلك يستعين بما يعرفه عن خلافات المعسكرات الفرعية لهذا التيار فى السجون ، رغم كونها غير موثقة . ومما لا شك فيه أن خبراته المباشرة قد أعانته كثيرا على فهم دقائق هذه الخلافات وأصول الممارسات التى نشأت عنها .
- لقد كانت سنى التسعينات هى التى شهدت التعبير الحقيقى عن هشام مبارك كمشروع مفكر واعد للغاية . فاتسع إنتاجه الفكرى ، وشمل إضافة لكتابه المذكور عددا كبيرا من المقالات المتميزة بمجلة اليسار ، وكذلك مساهماته الفكرية من خلال مركز المساعدة القانونية الذى أسسه مع زملائه الكرام.
غير أن النضج المبكر لهشام الباحث والمفكر لم يكن مقنعا له . فقد كان يدرك جيدا ما يعوزه حتى يعطى كامل هذه الوعود . فهشام مثل الغالبية العظمى من أكثر الشباب امتيازا فى هذا الوطن لم يكن قد أتقن لغة أجنبية أثناء دراسته القانونية والجامعية . وكان يعرف أن هذا نقص خطير فى تكوينه كمفكر وباحث . وقد بذلك جهدا كبيرا فى تعلم اللغة الإنجليزية ، وخاصة عندما ذهب إلى الولايات المتحدة فى منحة دراسية لدراسة حقوق الإنسان . وتحسنت لغته بشكل ملحوظ مع الاحتكاك المتواتر بمنظمات حقوق الإنسان فى الخارج ، ولكنه كان يطمع فى السيطرة على هذه اللغة حتى يقرأ ويكتب بها بدون مشكلات .
إذ كان يعرف أن بدون امتلاك ناصية اللغة الإنجليزية سيظل محروما من الإطلاع المباشر على ذخائر المعرفة الحديثة ، وخاصة الجديد منها . ومن ناحية ثانية ، فإن هشام كان يتطلع للاستزادة من العلوم والمعارف الاجتماعية المعاصرة فلم يكن قد تصالح مع دراسته للقانون أبدا فيما أعتقد . بل ربما أذهب إلى ابعد من ذلك بالقول بأن القانون كمجال للدراسة والبحث لم يجد هوى فى نفسه . وقد اعتبر حصوله على شهادة الحقوق أقرب إلى الصدفة منها إلى القصد .
ولذلك فقد كان ينوى الانتقال إلى دراسة علم الاجتماع بشكل أعمق مما أتاحته له الظروف اطلاعه على المعارف الاجتماعية كمثقف عام ، وخاصة من خلال الأدبيات الماركسية الأكثر شهرة .
وسريعا ما بدأت فكرة الدراسة فى الخارج تداعبه . والواقع أنه لم يجد صعوبة فى قبوله كطالب للدكتوراه فى جامعة بريطانيا الشهيرة . إذ كانت سمعته كمناضل فى حقوق الإنسان قد أصبحت عالمية ، وكان يحظى باحترام جميع من قابلهم من الأكاديميين ذوى الصلة بقضية حقوق الإنسان .
ولم يتردد بعض هؤلاء عن مساعدته فى الحصول على منحة دراسية لاستكمال دراسته فى انجلترا، رغم إدراكهم صعوبة التحول من دراسة القانون إلى دراسة علم الاجتماع على مستوى شهادة الدكتوراه فى هذه الجامعات البريطانية . ولم تكن شهرته كمناضل حقوقى هى الشافع الوحيد له بل كانت أيضا ثقة هؤلاء الأكاديميين فى ذكائه المتقدم هى أهم دوافعهم لمساعدته . وبكل أسف ، فإن القدر لم يمهله لإنجاز هذا المشروع الكبير . إذ خطفته المنية قبل شهور قليلة من السفر للاستزاده من العلم الاجتماعى الحديث من خلال دراسته لنيل شهادة الدكتوراه .
لقد كتبت لهشام مبارك توصية أكاديمية وجهتها للدكتور سامى زبيدة وهو عالم اجتماع بريطانى شهير متخصص فى دراسات الشرق الأوسط ، ومن أصل عراقى . وقلت فى هذه الشهادة أنه ليس لدى أدنى شك فى أن هشام مبارك بعد أن يستكمل تعليمه فى جامعة بريطانية كبيرة سيصير من أبرز العقول المصرية والعربية ومن أهم مفكرى جيله .
ولم أشعر فى أية لحظة بأنى قد جاملت أو أنى قد مضيت مع مشاعرى العميقة تجاه إلى أبعد مما أعتقد بالفعل . وما أشد لوعتى وحزنى أن مصر قد فقدت هذا المناضل والمفكر الشاب .
والآن ، ربما يكون الأوان قد آن لتجميع عناصر وخيوط فكر هشام مبارك .
إن مصادر الإلهام لدى هشام الباحث والمفكر يمكن حصرها فى ثلاثة . الأول كان بالطبع الماركسية التى غرف منها فى صدر شبابه وأثناء دراسته الجامعية . وأنا لا أعرف بالضبط كيف التقى هشام مع الماركسية. غير أنى أستطيع فهم ما حدث ولو بالتقريب . فهشام قد انتمى كليا للشعب ولفقراء هذا الشعب بالذات . ولم يحدث أبدا أن تخلى هشام عن أحلامه الكبيرة بتقدم مصر وبتحقيق العدالة وتمكين فقراء هذا الوطن من نيلها . وقد شكلت معرفته المباشرة بالفقر فى الصعيد بالذات أهم دوافعه للتحرر والخلاص على الإطلاق .
ومن ناحية ثانية : فإن الماركسية بدت له كما بدت لأجيال سابقة من الشباب المتحمس باعتبارها أشد تيارات الوطنية المصرية راديكالية وثورية . ولم يكن هشام قد شهد بنفسه الحركة التقدمية المصرية وهى فى أوجها داخل الجامعات المصرية أثناء عقد السبعينيات . غير أنه كان قد تشرب ميراثها مما كان قد تبقى منها فى الجامعة .
أما المصدر الثانى: فأعتقد أنه يتمثل فى قسمات شخصية هشام نفسه . فقد كان شديد الحساسية وشديد الرقة وكان توقه للعدالة والانسجام فى العالم يؤجج داخله حماسة للنضال ، وكذلك حماسة للمعرفة . وفوق كل شى كان هشام شديد الذكاء وقادرا على قراءة الواقع والشخصيات بفطرة سليمة ونافذة . وكان كذلك غير هياب امام الحقيقة . ورغم الآلام المبرحة التى كانت تنتابه عندما يصطدم أقل صدام مع من يعتبرهم أساتذته ورفاقه ، فإنه لم يكن راغبا فى وقف فكره الخاص من أجل الحصول على شهادة براءة أو مباركة الآخرين . فقد كان ببساطة مستعدا لدفع ثمن ممارسة ما يؤمن به بالفعل وما توصل إليه بالمعرفة الخاصة أو بالخبرة المباشرة .
وأخيرا فقد شكلت تجربته مع النضال الحقوقى سواء من خلال المنظمة المصرية فى البداية أو فى مركز المساعدة القانونية بعد ذلك أهم محرك لتطوره ولمشروعه الفكرى والبحث الخاص .
إن المرء ليندهش من السلاسة التامة التى التقى بها هشام مع فكر حقوق الإنسان . ومما لا شك فيه أن تكوينه الشخصى قد ساهم على نحو بارز فى هذا اللقاء السلس . ولكن وعيه الحاد وذكاءه المتقدم يمثل أيضاً عاملا هاما . وأخيرا فإنه لا يمكن إنكار دور تلك اللحظة التاريخية الغريبة التى تفتح فيها الوعى الفكرى المستقل لهشام: أى النصف الثانى من عقد الثمانينيات بما حفل به من تغيرات عالمية ، ومن هزائم لمشروعات إنسانية كبرى قديمة وتفتح لوعود مشروعات إنسانية كبرى جديدة .. هذه اللحظة كانت هامة أيضا فى تبلور اهتمامه بالنضال الحقوقى .
وببساطة ، فإن هشام لم يكن راغبا فى إعلان أية قطيعة مع الماركسية . وإذا جاز لى أن استنتج من بعد خصوصية أخذه للمسألة برمتها فقد يمكن تلخيصها فيما يلى . أن الماركسية لم تكن أبدا مشروعا جاهزا ومكتملا ومؤطرا بصورة نهائية . لقد تجمعت عناصرها ثم تحللت ثم تجمعت على نحو مختلف وتحللت من جديد . وهذه العملية التاريخية تتيح التعامل مع الماركسية لا باعتبارها مذهبا فكريا وإنما كمجال معرفى أهم ما يميزه هو أنه يحدد لنفسه مكانا ومنصة انطلاق: وهى قيم العدل والمساواة ، وإلغاء الفقر والاستغلال . ومن ثم يصير من الممكن الغرف من استنتاجات صحيحة للماركسية كمشروع بحثى ، وإهمال تلك الاستنتاجات التى أثبت التاريخ أنها زائفة أو غير صحيحة أو مهجورة . المهم فى الأمر هو النضال والممارسة ببعديها الفكرى والواقعى . ومن خلال الممارسة يمكن إعادة تأسيس موقف شامل من التشكيلة الرأسمالية والتشكيلات ما قبل الرأسمالية . إن تجاوز القهر والاستغلال فى هذه التشكيلات فى تلك اللحظة يفرض النضال من أجل تأمين وضمان الحقوق الأساسية للإنسان ، من خلال تفعيل إمكانيات الإنسان: أى الشعب نفسه .
هذا النضال ليس أمر سهلا . إذ لا ينكر أحد السهولة التى أمكن بها للتيار الإسلامى مثلا أن يقنع قطاعات واسعة من الناس بطائفة من الشعارات المبهرة التى كان شأنها مع ذلك أن تقود الشعب لا فى إتجاه الخلاص وإنما فى اتجاه تأسيس نظام جديد للقهر . هنا يأتى دور الفكر ، وأيضا دور الحوار المتصل والتخصيب المتبادل بين تيارات السياسة والمجتمع فى مصر وفى العالم العربى ، والحوار لا يتفق مطلقا مع العنف . إن نبذ العنف ورفضه هو جواز المرور الشرعى إلى مشروع وطنى وقومى للتحرر والخلاص الاجتماعى والسياسى . وكان هشام مصرا على أن المقصود بالحوار والتخصيب المتبادل بين التيارات الفكرية والسياسية لا يهدف إلى تشكيل نخبة جديدة تقود البلاد إلى حيث تشاء . وإنما كان الهدف لديه هو تمكين الشعب نفسه من الاختيار الحر ، ومن تفعيل قدراته بنفسه .. إن دور النضال الحقوقى والاجتماعى ليس هو أن تحل نخبة مامهما كان إخلاصها أو انتماؤها السياسى محل الشعب وإنما مساعدة الشعب على التعرف على طريقة للخلاص بنفسه ولنفسه .
—————————————————————————————————
بعض أوراق الورد!
رجاء النقاش
لا شك أن ما نعانيه فى هذه المرحلة فى حياتنا هو حاجتنا إلي نماذج إنسانية نقتدي بها ونسعد بمواقفها من الحياة، ونحاول أن نجد في هذه النماذج ما يقودنا إلي التصرف الصحيح ، ويخرج بنا من حالات الأكتئاب والإحباط والاضطراب النفسي التي تعترينا أحيانا وتسيطر علينا ، فنحس أن الحياة لا طعم لها ولا جمال فيها ، وننظرإلي المستقبل بكثير من التشاؤم، ويفكر بعضنا وخاصة من شباب الأجيال الجديدة في الهجرة إلي بلد آخر، قد يكون فيه أمل ومستقبل وأحلام والهجرة فى حد ذاتها ليست فكرة خاطئة أو سيئة، فكل بلاد العالم حتي تلك البلاد المتقدمة المتحضرة فيها مهاجرون يبحثون عن الأفضل والأجمل ويدفعون لذلك ثمنا غاليا هو الأغتراب عن مواطنهم الأصلية التي ولدوا فيها وتنفسوا هواءها وأكلوا خبزهاوملحها، ولكن الهجرة لا يجوز أبدا أن تتم لأن الإنسان غاضب علي وطنه ، كاره للحياة فيها، بل يجب ان تتم الهجرة الصحيحة والإنسان يحمل وطنه في قلبه، وبذلك تكون هناك جغرافيا اخري غير جغرافيا الخرائط ويمكننا أن نسمي هذه الجغرافيا الجديدة باسم ” جغرافيا القلوب ” أو ” الجغرافيا النفسية “، فكل واحد منا يحمل خريطة وطنه في قلبه ونفسه وعقله، وله ـ مادامت هذه الخريطة في داخله ــ أن يذهب إلي مكان يشاء الذهاب إليه ، إن وجد فيه وضعا أفضل وفرصة أحسن للحياة.
وأعود إلي النقطة الأساسية وهي أننا بحاجة إلي نماذج إنسانية طييبة في بلادنا،سواءأقمنا فيها أو رحلنا عنها ولست أشك في أن مشكلة المشاكل الآنأمام الشباب هي مشكلة النموذج أو القدوة أو المثل الأعلي…..وقد كانت الأجيال السابقة الناجحة تجد أمامها هذه النماذج والأمثلة العليا، مثل طه حسين الذي كافح من أجل أن يتعلم أفضل تعليم في الدنيا، رغم أنه فقير، ورغم أنه كان فاقدا للبصر. وقد كافح طه حسين كفاحا خالدا من أجل الأرتقاء بنفسه ، حتي أصبح رجلا يملأ القلب والعيون، ويثير إعجاب القادة والزعماء والجماهير، من العرب والأجانب بل لقد أصبح هو نفسه أحد القادة الكبار لبلاده،وأحد الممثلين العظماء لهذه البلاد فى أي مكان من العالم ومن يقرأ كتاب “الأيام” لطه حسين في أجزائه الثلاثة سوف يكشف أن وراءنجاح طه حسين قصة كفاح وكدح وصبر ومثابرة، وهي قصة عظيمة جدا،لأنها مليئة بالموسيقي الروحية الرائعة. موسيقي الأرادة القوية ومقاومة الظروف الصعبة، والأرتقاء من الحضيض إلي القمة، والأنتصار المدهش علي الفقر وفقدان البصر.
ولم يكن نموذج طه حسين نموذجا فريدا، بل تكرر هذا النموذج الإنساني المؤثر في شخصيات أخري، ومجالات أخري كثيرة، فهناك طلعت حرب ومصطفي كامل وعباس العقاد، وهدي الشعراوي وأم كلثوم وغيرهم من الرجال والنساءالذين اجتهدوا وجاهدوا،واستطاعوا أن يتركوا في حياتنا أعظم الآثار.
والآن لو سألنا أنفسنا ، أو سألنا أي شاب من شبابنا. من هو مثلك الأعلي في الحياة وماذا تريد أن تكون في هذه الدنيا؟ فإنه لا شك سوف يضطرب ويرتبك، لأن حياتنا المعنوية والروحية ليست منظمة بطريقة سليمة ، وأجهزة الإعلام عندنا لا تمد بصرها أبعد من الحياة الفنية والإعلامية. فكل من يقدمهم الإعلام فى بلدنا هم فنانون وصحفيون، وكأن بلدنا ليس فيه أطباء ومهندسون ومحامون وعلماء وعمال وفلاحون، وكأن هذا البلد ليس فيه من يكافحون كفاح الأبطال في الجبال والمناجم والأراضي الصحراوية وفي أعماق الصعيد والريف المصري.
ولذلك فقد ضاقت الدائرة علي شبابنا الباحثين عن نماذج ومثل عليا يقتدون بها، ويضعونها أمام عيونهم وهم يبحثون عن وسائل للنجاح في المستقبل، وزاد من تعقيد المسألة أن مجتمعنا قد أصيب بنوع من “الهيستريا” التي لم تعد تجد قيمة للإنسان إلا بما يملكه من الأموال، فالأغنياء أصبح لهم صوت مرتفع ، والإغراءات التي تحتاج إلي أموال كثيرة أصبحت تطارد الناس في إعلانات التليفزيون والصحف ، بل وفي الأحاديث الخاصة التي يتبادلها الناس بين بعضهم البعض. وطبعا ليس هناكما يمنع اهتمام أهل مصر بالمال، لأنهم ظلواعصورا طويلة راضين بما هم فيه من فقر وسوء حال، وهذا خطأ فادح، فالمال قوة كبري من قوي الحياة الناجحة. وبدون المال يعجز الفرد والمجتمع معا عن التقدم وامتلاك وسائل الحياة الحديثة. ولكن المال وحده لا يصنع التقدم والنهضة، فكم من شعوب كانت تملك ثروات ضخمة ولكنها أضاعتها في الترف وخدمة الكسل والخمول، وأكبر نموذج لذلك هو أسبانيا في عصر النهضة، بعد أن استطاع الأسبان طرد العرب سنة 1492، فقد تمكنت أسبانيا من جمع كميات غير محدودة من الذهب. وأصبحت أكبر دولة مالكة للذهب في عصرها، ولكنه لم تستخدم ذهبها وثروتها النادرة منه استخداما صحيحا، فتخلفت أسبانيا، وسبقها الإنجليز والألمان والفرنسيون والطليان ، ولم يكن أحد من هؤلاء جميعا يملك ذهب الإسبان، بل لقد كان بعضهم يملكون شيئا أقل قيمة من الذهب وأدني مستوى منه، وهو “الفحم”، ولكن الذين يملكون الفحم تفوقوا علي الذين يملكون الذهب، لأن الذين يملكون الفحم عملوا واجتهدوا وغامروا في البحار المجهولة من أجل اكتشاف افاق جديدة للعمل والإنجاز.
وما أصاب اصحاب الكنوز الذهبية من خمول واسترخاء وتأخر يصيب الكثيرين من الأفراد الذين يملكون الأموال لسبب أو لآخر، فهم يفقدون ميزة الثراء بالتدريج ، لأنهم خاملون لا يعلمون، وليسوا أصحاب خيالات ولا أحلام، والايجدون أي نوع من السعادة فى خدمة الآخرين.
فالمال، وحده لا يمكن أن يكون نافعا لأصحابه، إن لم تكن وراءه إرادة وأفكار وأحلام إنسانية تسعدهم وتسعد غيرهم. المال وحده شيطان أو وثن من الأوثان، والذين لا يفكرون إلا في المال يرهقون أنفسهم، ولن يحققوا شيئا من السعادة الحقيقية حتي لو حصلوا علي هذا المال كما يحلمون.
كل هذه الخواطر دارت بذهني وأنا أفكر في حياة شاب بسيط من أبناء مصر، نشأ في حي شعبي فقير جدا هو حي” أولاد علام” بالجيزة، ولكنه كان بفطرته شابا طيبا نبيلا شديد الذكاء، أما أخلاقه فقد كانت علي العفة ونظافة اليد وطهارة القلب.، وكان يذكرني بتلك الصفة النبيلة التي أطلقها الناس علي متصوف إسلامي شهير هو “الجنيد” رضي الله عنه ، فقد كانوا يسمونه باسمن “طاووس الفقراء” . أي الإنسان الذي يعتز بنفسه ولا يمد يده إلي أحد ، وإن جاءه مال أعطاه بكل السماحة والرضا والفرح للذين يحتاجونه ، وكان “الجنيد” يصر أن يذهب الي الحج ماشيا علي قدميه ، راضيا بحبة تمر وكوب من لبن الجمال أو الماعز ، ولكنه في تعففه وطهارته وحبه للخير كان صاحب كبرياء، وكان كالطاووس الذي يفتخر بنفسه ، وبأنه لا يحتاج إلي أحد وبأن سعادته الكبري هي في أن يخدم الناس ، ويملأ حياتهم بالرضا والطمأنينة ، ولهذا كان أميرا علي قلوبهم ، بأخلاقه وصدقه وأمانته وحبه للخير ، وكان أغنياء عصره يقفون أمامهم في ذهول ودهشة ، فهم أغني منه ، ولكنه صاحب الكلمة المسموعة ، وكان القادر علي التأثير فى النفوس والعقول ، وكان الرائد والقائد المحبوب من الجميع ، وكان علي الدوام مرفوع الرأس ، سيدا ، ورائدا ، بروحه ،وعقله ، وأخلاقه العالية الرفيعة ومن هنا أطلقوا عليه اسم “طاووس الفقراء”.
هذا “الطاووس الجديد” رأيته بعيني ، واقتربت منه عندما ربطتني به صلة عائلية وثيقة ، ثم صدمتني الدنيا بفقدانه فجأة وهو في الرابعة والثلاثين، أي في عز شبابه وفتوته وقوته. وأوشكت أن أقول لنفسي لقد ضاع هذا الشاب الجميل قبل أن يحقق آماله، وقبل أن يصل إلي ما كنت أنتظره له من تفوق ونجاح.
إنه الشاب المصري “هشام مبارك” زوج ابنتي”لميس”. وأشهد أنني لم أكن راضيا عندما للزواج منها منذ خمس سنوات، فلم أكن أعرف عنه إلا أنه من الشباب الذين يعملون بالسياسة.
وقد علمتني التجربة الطويلة أن أكره العمل السياسي المباشر، فالسياسة في بلادنا، وفي كل تلك البلاد التي تطلق عليها اسم “العالم الثالث” هي مغامرة غير مأمونة العواقب لأن التقلبات فيها كثيرة ، والمتاعب لا تنتهي ، واستقرر حياة أصحابها أمر محفوف بالمخاطر وهذه كلها حقائق لا مجال لإنكارها أو الهروب منها ، فالسياسة في بلادنا ليست مثل السياسة في البلاد التي حققت لنفسها الأستقرار في القوانين والدساتير ، بل السياسة عندنا “دوامة” ، قد ترفع صاحبها إلي أعلي الدرجات ، ولكنها سرعان ما تنزل به إلي القاع ، فالأضطرابات كثيرة ، والتحولات من يوم إلي آخر مفاجىء.
والصدمات لا تنتهي ولا تعرف حدودا تتوقف عندها . وما من إنسان ، رجلا كان أو امرأة ،عمل بالسياسة في بلادنا إلا وذاق منها مرارات لا حدود لها ، وكثيرا ما التقي الآن برجال وصلوا إلي أعلي درجات السلطة ، ولم يكن أحد يتصور أن مظاهر القوة والنفوذ سوف تزول عنهم ، وتنقلب عليهم الأيام ، ولكن هذا هو ما حدث ، فقد زالت عنهم القوة وزال النفوذ ، وانقلبت عليهم الأيام ، ودخلوا السجن وبقي بعضهم فيها عشر سنوات أو أكثر ، وتعرضوا لكثير من الخسائر و “البهدلة” فالسياسة في بلاد العالم الثالث ، ونحن من هذه البلاد ، صعبة وقاسية ، وثمن العمل بها باهظ وثقيل .
ومن هنا كان ترددي في الموافقة علي الزواج ابنتي من شاب يعمل بالسياسة منذ أن كان طالبا في كلية الحقوق ، وقد دخل السجن وهو طالب ، ودفع ثمنا غاليا لنشاطه السياسي منذ شبابه الأول. كنت أحلم لابنتي الوحيدة باستقرار عائلي يساعدها علي النجاح في عملها الذي اختارته واجتهدت فيه ، وهو دراسة الأدب الإنجليزي وتدريسها لطلابها في جامعة القاهرة .
وكنت أري في الشاب الذي اختارته للزواج منه “وعيدا” بحياة عاصفة غير آمنة. كان هذا هو رأيى-حسب معلوماتي القليلة- عن هذا الشاب الذي تقدم للزواج من ابنتي ولكنني عودت نفسي وربيتها علي مبدأ أساسي هو أن أعلن آرائي دون أن أحاول فرضها علي أحد. فما من آمنت برأي من الآراء إلا وأنا أقول بيني وبين نفسي . ربما كان هذا الرأي خطأ ، فلا تحاول أن تفرضه علي أحد ، وتلك سياستي مع نفسي وطريقتي التي لا أحيد عنها . وقد علمني هذا الموقف شيئا أحمد الله عليه ، وهو أنني أحترم خصومي وأجد لهم فى نفسي ألف عذر وعذر.وما أكثر الآراء التى اعتقدت في صحتها ودافعت عنها وثبت خطؤها مع الأيام ، مما جعلني أتاكد من صحة سلوكي فى عدم التعصب لرأي من الآراء وعدم النفور من معارضة أحد لرأي أقوله او وجهة نظر اعتنقها ، وإذا كان هذا هو ما تعودت عليه مع الآخرين الذين لا تربطني بهم صلة قرابة أو صداقة ، فقد كنت أكثر حرصا على تطبيق هذا المبدأ في التعامل مع أولادي وأفراد عائلتي ، فأنا اقول رأيى وأدافع عنه وأتحمس له ، ولكنى لا أتعصب لهذا الرأي ولا افرضه علي أحد .
وهذا ما قلته لابنتي وهي متحمسة للزواج من شاب لم أكن أعرف عنه إلا أنه يعمل بالسياسة.
ولكنني وجدت من ابنتي إصرارا لا يتزعزع علي اختيار هذا الشاب وعلي الأيمان به والثقة فيه.
وتراجعت عن معارضتي علي الفور أمام إصرارها وثقتها النهائية في الشاب الذياختارته . وزادنى قدرة علي هذا التراجع أنني جلست إلي هذا الشاب “هشام مبارك” مرة واحدة ، فمال قلبي إليه ، وشممت في شخصيته عطر الإخلاص والأمانة والنبل ، وعندها غيرت رأيى تماما . وأحسست أننى أخطأت ، وأن ابنتي على صواب ، وأنها أحسنت الأختيار. فليكن هذا الشاب مشتغلا بالسياسة ، وليكن فقيرا ، ولكن ما وجدته فيه من كبرياء وعفة وطموح إنساني نبيل كانت كلها…بالدنيا.
وبدأت أعرف “هشام مبارك” عن قرب ، وعرفت أنه يعمل في مجال جديد وغريب علي بلادنا هو مجال المساعدة القانونية لحقوق الإنسان . ولاحظت أنه شاب جاد فيما يقوم به من عمل ، وأنه يلقي الحب والترحيب والمساعدة من أشخاص وهيئاتمحترمة جدا في بلادنا وفي العالم كله ، وقد نال جائزة من إحدي المؤسسات الدولية في أمريكا ، وقيمة الجائزة خمسة وعشرون ألف دولار ، وعندما سألته ضاحكا : ماذا فعلت بالجائزة يا هشام ؟ ، قال لي في بساطةلقد دفعتها بالكامل لتأسيس مركز “المساعدة القانونية” . واحسست أنني أمام شاب نذر نفسه للعمل في خدمة أهله وبلاده. وأن أفراحه الكبري متصلة بهذا الهدف وليست متصلة بطموحات شخصية للثراء وامتلاك الأشياء.
ولم أتابعه بعد ذلك في عمله ، واكتفيت بذلك الشعور الذي ملأ قلبي ، فقد كنت اطمئن لهذا لهذا الشاب ، وأطمئن معه ، خاصة أن أخلاقه الشخصية كانت فريدة ، فلم يكن يتكلم كثيرا ، بل كان من كبار”المستمعين” فى هذه الدنيا. وكان مليئا بالحياء الجميل . وكان لا يسمح لنفسه بالغضب أو الاحتداد على أحد . وكان قلبه عامرا بالرحمة علي الجميع ، كل ذلك دون أن يسمح لنفسه بأن “يغرق” في بحر من “النزعة العاطفية المزيفة” التي تمنعه من العمل المنظم الدقيق . وكنت أفرح بلقائه كلما سمح لنا وقتنا الضيق باللقاء . وفي هذه اللقاءات كنت أنا”أثرثر” كثيرا ، ولا أسمع منه سوى بضع كلمات فى بضع ساعات . وكنت أطير من السعادة وانا أشاهد نور الابتهاج يشع من وجهه ووجه ابنه الوحيد وحفيدى “زياد”. وزياد لم يبلغ السنتين بعد ، ولكنه عندما كان يري أباء كان يطير..كالعصافير .
ويشاء القدر أن يزورنا هشام مبارك بعد الإفطار بقليل يوم 11 يناير الماضى ” الموافق 3 رمضان” . وقد فتحت له الباب ، وسلمت عليه وبادلنى بضع كلمات قليلة مليئة بلطفه وحنانه المعتاد ، وجلس بينا حوالي عشر دقائق ، وامام زوجته وابنه الصغير وزوجتي ، وأمامي أغمى عليه فجأة ، فحملناه علي أيدينا إلي مستشفي “الفيروز” القريبة منا وهناك قيل لنا : لقد مات بجلطة عنيفة مفاجئة . ولم اصدق فصرخت كالأطفال ولولا رحمة الله لفقدت الوعى فى تلك اللحظة الأليمة . لم أصدق أن شابا فى الرابعة والثلاثين ، في كامل صحته وعافيته يسقط هكذا فجأة ويموت فى دقائق معدودات ، لم أصدق أن آمالى فى هذا الشاب تضيع هكذا وتنتهى بهذه الطريقة.
ولم أكن لأسمح لنفسى أن أشعل قراء الشباب الأعزاء بالحديثعن هذا كله ، لولا أنني اكتشفت بعد وفاته أن كل ما كانت أعرفه عن هذا الشاب من جميل الصفات والأخلاق كان قليلا جدا بالنسبة لحقيقته . فقد كتب عنه كبار الكتاب في مصر ، وقال عنه الكاتب الكبير سلامة أحمد سلامة ” الأهرام 17 يناير 1998 ” تحت عنوان ” شعلة انطفأت ” يقول ” اختطفت يد الموت بالأمس واحدا من أنبل وأشجع وأخلص شباب هذا الوطن.. واحدا من هذه الفصيلة النادرة من الناس الذين وضعوا أنفسهم بكل ما يملكون من جهد وإيمان فى خدمة المجتمع بكل فئاته وطبقاته من أجل أن يحصل كل فرد فيه علي نصيبه من العدالة والحرية ومن حقه في حياة آمنه تخلوـ قدر الإمكان ـ من الجور والقهر والحرمان” . وكتب عنه الكاتب الكبير صلاح عيسي ” العربيـ19 يناير 1998″ يقول: ” كنت أدهش لنضج هشام مبارك المبكرولوضوحه واستقامته فقد كان يتعالى على الأدعاء والكذب ومع اعتزازه الشديد بنفسه فقد كان يخلو من الغرور وينأى بنفسه عن الصراع حول صغائر الأمور وكان من النوع الذى يسمع كثيرا ويتكلم قليلا ولا ينطق لسانه إلا إذا آنس دفئا إنسانيا وكان شغوفا بالأسئلة لا بالأجوبة وبالبحث عن الحقيقة لا بإصدار الأحكام ، وكان صافى الروح ، من النوع الذى لا يعرف قلبة الموجدة ، ولا يثير وجوده إلا ماتثيره نسمة رقيقة تعبر فى طريقه إليك فوق حقل من البنفسج !” وكتب عنه صديقنا الصحفى اللامع مصطفى بكرى مقالا جميلا تحت عنوان “وداع للفارس النبيل” .
وأدهشني أكثر من ذلك ــ”الصدى الدولى” للوفاة المفاجئة لهذا الشاب الوديع الطيب . فقد كتب عنه السفير الكندى فى القاهرة “مايكل بل” كلمة نشرتها الأهرام يقول فيها “كان المستوى المهنى المتميز لعمل الأستاذ هشام مبارك محل تقديري وتقدير كل من اتصل به من السفارة الكندية . كذلك كان صدقه ، وإخلاصه الكامل لقضية حقوق الإنسان محل تقديرنا جميعا. وكلى ثقة بأن مركز المساعدة القانونية الذي أسسه وكان يرأسه سوف يواصل بكفاءة عمله ليكون بذلك خير تكريم لذكراه” . كذلك تحدثت عنه الزميلة العزيزة “عزة محيى الدين” في إذاعة لندن العربية فى رسالة مطولة. وكتبت عنه عنه صحيفتان عالميتان كبيرتان هما” نيويورك تايمز” و “هيرالد تريبيون” .
كل هذا أثاره شاب وديع ، لم تكن له ثروة ولا سلطة ولا نفوذ ، بل كان خادما مخلصا لأهله وبلاده ، وكان كما قال عنه كاتبنا الكبير سلامة أحمد سلامة “صاحب ىرصيد هائل من العملالجاد فى خدمة الوطن ، يضىء الطريق لآلاف الشباب فى زمن عزت فيه القدوة الصالحة ، والعمل لوجه الله والوطن “.
وأحب أن أنهى مقالى باقتباس أجزاء من مقال آخر شديد التركيز والدقة والوضوح كتبه الدكتور عبد المنعم سعيد ” الأهرام العربى ـ 24 يناير 1998″ . فهذا المقال يوضح تماما شخصية هذا الشاب الوديع الطيب المتواضع، يقول الدكتور عبد المنعم سعيد : ” لم أكن أعرف هشام مبارك شخصيا ، ولولا أننا تقابلنا مرتين فى مكتب الأستاذ السيد ياسين لما كنت أعرف شكله علي الأطلاق ، ومع ذلك فإن أعماله وحركته فى المجتمع جعلت الصلة قائمة ربما بأكثر مما كان يقدر ويعرف ، فالحقيقة أن البشر فى بلادنا نوعان : نوع يعمل فى بناء الأمة خطوة خطوة. ولبنة لبنة ، ويعرف أن التطور يأتى من خلال العمل الشاق والدؤوب ، والتراكم التاريخى الذى قد يبدو فى لحظة ما ساكنا لأن الإضافة صغيرة لا يلحظها أحد ، ولكنها فى الأمد الطويل تؤدى إلى التغيير الحقيقى فى الأمم إلى الأفضل والأرقى ، ومن المرجح فى هذا النوع أن نقطة التغيير لديه تبدأ من المحيط الذى يعمل فيه وفى داخل وطنه أولا وقبل كل شىء ، ومن ثم فإن أحوال العالم لديه تكون بالقدر الذى يسهم فى عمليات التطوير الداخلى التى يسعى إليها ، والنوع الثانى : نافذ الصبر إزاء بقاء الأحوال على حالها ، ومن ثم فهو يتطلع إلى معجزة سماوية ، أو إذا ما نفذ صبره مرة أخرى يطلب انقلابا أو ثورة أو يكون مستبدالا عادلا ، وأهدافه فى معظم الأحوال عامة غير محددة ولا تقل فى معظمها عن تغيير العالم بأسره، ولما كان ذلك ليس ممكنا فإن نزعات الإحباط والفشل تتملكه حتى يملأ الدنيا صخبا.
هشام مبارك كات بالتأكيد من النوع الأول عندما عرفه الكثيرين عن طريق الكثيرون عن طريق ما أضافة للعمل الوطنى من خلال مركز المساعدة القانونية الذى أسسه وكان رئيسا له وأظن أنه قام على ثلاثة مفاهيم : أولها: أن لدينا قوانين ظالمة ينبغى تغييرها، وثانيها ، أن الدولة رغم قوانينها الظالمة لا تحترم هذه القوانين ، وثالثها أن الناس لا يعرفون كيف يستخدمون القانون للحصول على حقوقهم ، وقد اختار هشام مبارك هذه المفاهيم الثلاثة للعمل على جبهاتها المعقدة فى دأب وإصرار لا يعرف الكلل أو الملل ، وكان وراء هذه الجبهات جميعهامفهوم راق ، ومتحضر وهو أن القانون واحترامه والمعرفة به أولى خطوات تقدم الأمم ، وهى ليست مسائل “شكلية” لا ينبغى لها أن تقف أمام الطوفان الكاسح لحركة الجماهير كما أن الظلم والقهر للافراد لا ينبغى له انتظار تغيير العالم لمقاومة الاستعمار القديم والجديد وما بعد الجديد ، لقد اختار هشام هذا الطريق عن وعى وسار فيه وترك لنا منهجا بسيطا ولكن تأثيره سوف يكون أكثر مما اعتقد فى حياته، ” القصيرة” رحمه الله .
وبعد.. فهذه بعض ملامح شاب ربطتنى به الظروف عن قرب ، ولم يساعدنى تواضعه على أن أعرف حقيقة جهده وأهميته إلا بعد رحيله الفجائى ، وقد ذهب “هشام” إلى رحابالله ، ولم يترك لابنه الوحيد الطفل “زياد” مالا ولا جاها ولا نفوذا ، ولكنه ترك كل شىء وليستكلماتى هنا إلا بعض أوراق الورد على ذكرى “هشام مبارك”… الشاب الذى يستحق أن يكون “قدوة” لأنه لم يحلم بالمال ولا بالنفوذ ، وإنما كان يحلم ويعمل بالليل والنهار من أجل أن يكون الناس فى بلاده من السعداء والأحرار .
مجلة الشباب ــ فبراير 1998
—————————————————————————————————
(3)
شعلة انطفأت
سلامة أحمد سلامة
اختطفت يد الموت بالأمس واحدا من أنبل وأشجع وأخلص شباب هذا الوطن ..واحدا من هذه الفصيلة النادرة من الناس الذين وضعوا أنفسهم بكل ما يملكون من جهد وإيمان فى خدمة المجتمع بكل فئاته وطبقاته من أجل أن يحصل كل فرد فيه على نصيبه من العدالة والحرية ومن حقه فى حياة امنه تخلو ــ قدر الأمكان ــ من الجور والحرمان لم يكن هشام مبارك الذى غاب عنا فجأة قبل يومين من الشخصيات التى تتابعها وسائل الإعلام ، أو تسلط عليها الأضواء بين الحين والحين ولكنه كان واحدا من المناضلين في صمت فى ميدان العمل العام من خلال المركز الذى أنشأه قبل عدة سنوات ، وهو مركز المساعدة القانونية لحقوق الإنسان ، وكانت المهمة الأساسية لهذا المركز هى تعريف المواطن المصرى العادى بحقوقه وواجباته التى كفلها له الدستور وفصلها القانون ، والدفاع عن هذه الحقوق إذا لزم الأمر بواسطة عدد من المحامين المتطوعين المقتدرين أمام السلطات المختصة أو جهات التحقيق أو المحاكم ، بحيث يجد المواطن العادى له سندا قويا وشرعيا فى مواجهة السلطة ، أيا كانت هذه السلطة وتحت أى مسمى يمكنه الحفاظ على حقوقه والتعبير عن رأيه ، وحتى لا يقع المواطن الذى لا يملك وسيلة الدفاع عن نفسه ضحية الآلة الضخمة التى لا ترحم لأجهزة الدولة أو ضحية اشتباك القوانين وتزاحمها ، أو ضحية التعقيدات والفساد الإدارى أو ضحية اضطهاد دينى أو عنصرى أو تفرقة فى المعاملة.
وعلى كثرة ما أنشىء فى مصر أخيرا من جماعات للدفاع عن حقوق الإنسان والدعوة لها فقد ظلت هناك ثغرة مهمة تتصل بهذا الجانب الحيوى من حقوق الإنسان المدنية والسياسية… وهو جانب المساعدة القانونية والقضائية وخاصة فى ظل الظروف الاستثنائية التى يمر بها المجتمع والتى جعلت من التشريعات والقوانين أداة من أدوات الحكم سواء فيما يتعلق بمعالجة ظواهر إجرامية معينة أو فى حسم كثير من المشكلات السياسية والمدنية.
وفى غصون سنوات قليلة نجح مركز المساعدة القانونية لحقوق الإنسان بفضل جهود هشام مبارك الذى تصدى لإقامة هذا المركز وبذل جهده وعرقه الكثير لكى يمتد نشاطه الى الأسكندرية وأسوان فى تقديم خدمة مدنية ما أحوجنا ليها لمساعدة المواطنين ، وبالأخص من بين الطبقات المطحونة والفقيرة فى المجتمع الذين لا يجدون سبيلا للحصول على مثل هذه الخدمات القانونية .
وتكاتف المركز مع جمعيات أهلية أخرى فى تبنى العديد من الأنشطة المدنية فى الفاع عن الحقوق السياسية ورصدها وتقويتها أو فى حالات الأعتقال والتعذيب وإساءة معاملة المواطنين فى أقسام الشرطة أو فى قضايا مصادرة الكتب والمطبوعات أو فى الأعمال التى تنتقض من حقوق المرأة وذلك من خلال محامين متفرغين أو متطوعين .
كان هشام مبارك شعلة نشاط فى مجال العمل المدنى التطوعى ، أسس لمبادرات خلاقة تعلي من شأن المجتمع وتدفعه إلى الأمام ، لم يهمله القدر ليحقق آماله وأحلامه ولكنه خلف وراءه رصيدا هائلا من العمل الجاد فى خدمة الوطن يضىء الطريق لآلاف الشبب فى زمن عزت فيه القدوة الصالحة والعمل المخلص لوجه الله والوطن..رحمه الله .
الأهرام 17/1/1998
—————————————————————————————————
(4)
نسمة من حقل البنفسج !
صلاح عيسى
عرفت هشام مبارك فى بداية التسعينات حين جاءني ليستشيرني فى مشروع كتابه الذى صدر بعد ذلك بعنوان ” الإرهابيون قادمون” فاجتذبتني شخصيته الهادئة الواثقة الجادة الباحثة عن المعرفة فى زمن بارت فيه بضاعتها، وبدلا من أن يقتصر اللقاء علي نصف ساعة استمر ثلاث ساعات ثم تواصل بعد ذلك إلى أن غادر الدنيا فجأة قب أن يحتفل بعيد ميلاده الخامسة والثلاثين .
منذ اللحظة الأولى بدا لي هشام شابا غيرعادي فقد كان مهموما بقضايا كبرى فى زمن لم تعد فيه غير القضايا الصغرى ويندر أن تجد شابا ـ أو ربما شيخا ـ يفكر في غير نفسه ..وبدت لى اشواقه لافتداء الأخرين وللسير فى طريق النشوات العليا غريبة على شاب بدأ نشاطه العام فى الثمانينات وتكون فى انهارت فيه الأحلام وذوت الزهور وتساوت الظلمات والنور لذلك كنت أسعد باللقاء به والحديث معه وأزور فيه شبابى وأستعيد أحلامي وأسترد تفاؤلى وتفرح روحي وتنبسط تقطبية فى قلبي وأقول لنفسى عقب كل لقاء : ان الارض التى تنبت الحلفا والأشواك لا تزال قادرة على إنبات الزهور الجميلة .
وكنت أندهش لنضوجه المبكر ولوضوحه واستقامته فقد كان يتعالى على الأدعاء والكذب ومع اعتزازه الشديد بنفسه فقد كان يخلو من الغرور وينأي بنفسه عن الصراع حول صغائر الأمور وكان من النوع الذى يسمع كثيرا ويتكلم قليلا ولا ينطق لسانه إلا إذا آنس دفئا إنسانيا وكان شغوفا بالأسئلة لا بالاجوبة وبالبحث عن الحقيقة لا بإصدار الأحكام ، وكان صافى الروح ، من النوع الذى لا يعرف قلبة الموجدة ، ولا يثير وجوده إلا ما تثيره نسمة رقيقة تعبر فى طريقها إليك فوق حقل بنفسج !
ولم أدهش حينما اختار حقوق الإنسان مرفأ لأشواقه العليا فقرر أن يتفرغ للعمل فى مجالها على الرغم من الأشواك الكثيرة التى تحيط به فى بلد أدمن حكامه ـ بل وأحيانا ناسه ـ إهدار تلك الحقوق وعلى الرغم من أنه قد لايكون الاختيار الأفضل لشاب موهوب يبحث عن مستقبل مهني مضمون فقد بدا لى هشام مبارك دائما وكأنما قد خلق ليكون حقوقيا اذ كان يتسم بنزاهة شخصية وعقلية ، تقوده بشكل يكاد يكون فطريا إلى العدل ، وتنأى به عن أن يظلم أو يسكت عن ظلم صغيرا كان هذا الظلم أو كبيرا ، فلم يكن من النوع الذى يستسهل إدانته الأفكار ةأو الأشخاص وكان يتسم بسعة أفق ورحابة عقلية رفعته دائما لأن يسعى لفهم الآخر وليس لفرض أفكاره عليه ، وهو ما يكشف عنه كتابه المهم “الأرهاربون قادمون ” الذي يقارن بين الاخوان المسلمسن وجماعات الجهاد من قضية العنف ، فمع أن الموضوع بطبيعته سياسي بحكم معاصرته ، ومع أن هشام مبارك كان صاحب موقف سياسي مختلف من الظاهرة التى يدرسها فقد سعى لكى يفهم واقع الظاهرة من داخلها ، وليس من داخله .
وهكذا لم تمض سوى شهور قليلة علي تأسيسه لمركز المساعدة القانونية لحقوق الإنسان الذى أنشاه بالقيمة المالية لجائزة دولية ، كان قد حصل عليها لنشاطه فى هذا المجال حتى برز دور المركز كواحد من أكثر منظمات حقوق الإنسان المصرية فاعلية واحتراما إليه يعود كثير من الفضل فى قضايا كثيرة لم تكن أولها قضية فيلم المهاجر ولم يكن آخرها قضية القانون 93 لسنة 1995 بالصحافة .
وكان حماس هشام مبارك للعمل فى مجال حقوق الإنسان هو الذى اجتذبنى واجتذب كثيرين للمساهمة فى هذا المجال، فقد كان حريصا على توسيع نطاق الذين يشاركون فى الدفاع عن تلك الحقوق من كل الأتجاهات والأجيال وكان قادرا دائما على استثارة حماسهم بشخصيته التى تدعو للاحترام والثقة ، وكنت ما أكاد أسمع صوته على الهاتف حتى أدرك أنه سوف يدعونى لاجتماع أو يستشيرنى فى أمر ، أو يستشيرنى للكتابة فى موضوع يتعلق بحقوق الإنسان ، وكان واحدا من قليلين لا أملك أن أرفض لهم طلبا إذ كنت واثقا دائما أنه لا يفعل شيئا لنفسه ،ولا ينشط إلا من أجل افتداء الآخرين .
وفى صباح اليوم الذى مات فى غروبه ، اتصل بى هاتفيا فلم يجدنى..ولم أدهش حين علمت بعد ذلك أنه كان يريد أن يدعونى لحضور الأجتماع الذى عقدته منظمات حقوق الإنسان المصرية للتضامن مع المفكر الفرنسى الكبير ” جارودى ” فهكذا كان هشام مبارك نسمة رقيقة عبرت فوق حقل بنفسج وستظل تتضوع فى سماء الوطن .
العربى 19/1/1998
—————————————————————————————————
(5)
عالم جديد
د.عبد المنعم سعيد
لمة أكن أعرف هشام مبارك شخصيا ، ولولا تقابلنا مرتين فى مكتب الأستاذ السيد ياسين لما كنت أعرف شكله على الأطلاق ، ومع ىذلك فإن أعماله وحركته فى المجتمع جعلت الصلة قائمة ربما بأكثر مما كان يقدر ويعرف ، فالحقيقة أن البشر فى بلادنا نوعان : نوع يعمل فى بناء الأمة خطوة خطوة . ولبنة لبنة ، ويعرف أن التطور يأتى من خلال العمل الشاق والدؤؤب ، والتراكم التاريخى الذي قد يبدو عند لحظة ما ساكنا لأن الإضافة صغيرة لا يلحظها أحد ، ولكنها فى الأمد الطويل تؤدى إلي التغيير الحقيقى فى الأمم إلى الأفضل والأرقى ، ومن المرجح فى هذا النوع أن نقطة التغيير لديه تبدأ من المحيط الذى يعمل فيه وفى داخل وطنه أولا وقبل كل شىء ، ومن ثم فإن أحوال العالم لديه تكون بالقدر الذى يسهم فى عمليات التطوير الداخلى التى يسعى إليها ، والنوع الثانى : ناقد الصبر إزاء بقاء الأحوال على حالها ، ومن ثم يتطلع إلى معجزة سماوية ، أو إذا ما نفذ صبره مرة أخرى يطلب انقلابا أو ثورة أو يكون مستبدلا عادلا ، وأهدافه فى معظم الأحوال عامة غير محددة ولا تقل فى معظمها عن تغيير العالم بأسره ، ولما كان كل ذلك ليس ممكنا فإن نزعات الإحباط والفشل تتملكه حتى يملأ الدنيا صخبا .
هشام مبارك كان بالتأكيد من النوع الأول عندما عرفه الكثيرون عن طريق ما أضافة للعمل الوطنى من خلال مركز المساعدة القانونية والذى أظن أنه قام على ثلاثة مفاهيم : أولها أن لدينا قوانين ظالمة ينبغى تغييرها ، وثانيهما ، أن الدولة رغم قوانينها الظالمة لا تحترم هذه القوانين ، وثالثها أن الناس لا يعرفون كيف يستخدمون القانون على حقوقهم ، وقد اختار رجلنا هذه المفاهيم الثلاثة للعمل على جبهاتها المعقدة فى دأب وإصرار لا يعرف الكلل أو الملل ، وكان وراء هذه الجبهات جميعها مفهوم راق ، ومتحضر وهو أن القانون و إحترامه والمعرفة به أولى خطوات تقدم الأمم ، وهى ليست مسائل ” شكلية ” لا ينبغى لها أن تقف أمام الطوفان الكاسح لحركة الجماهير كما أن الظلم والقهر للأفراد لا ينبغى له انتظار تغيير العالم أو تراجع الهيمنة الأمريكية أو تحرير فلسطين أو يزوغ الصين وإيران لمقاومة الأستعمار القديم والجديد وما بعد الجديد ، لقد اختار هشام هذا الطريق عن وعى وسار فيه وترك لنا منهجا بسيطا ولكن تأثيره سوف يكون أكثر مما اعتقد فى حياته ، رحمه الله.. وإنا لله وإنا إليه راجعون .
الأهرام العربى 24/1/1998
—————————————————————————————————
(6)
وداعا من جيل مزقته الأشواق
إيناس طه
وقعت عينى علي اسمه فى أجندة التليفونات . كان اسمه هو ثانى اسم تحتويه أجندتى وقررت الأقدار أن يختفى من الحياة ، ولكنى لم أقوى على شطبه أو شطبها . هو هشام مبارك وهى اروى صالح . كلاهما رحل وكلاهما كان قصة فى حد ذاته . أسطورة فى هذا الزمن البخس . وقعت عينى على اسمه ، ووقعت كلمة مات كحد السيف ، سيف يقطع شجرة ضاربة بجذورها فى قلب الأرض . شىء انشطر داخلى لعله الأمان ولعله هذا الأحساس بأن هناك رفقة انقطعت أو درب تاه من تحت أقدامنا أو مصير صار ضبابيا أو كالأشباح .
كان متدفقا كعادته حين اتفقنا على لقاء يوم الأربعاء قبل يومين من وفاته ، قال : لدى موعد فى المحكمة قضية لأحد الفقراء ، فهو مؤسس مركز المساعدة القانونية لحقوق الإنسان ومبدع رؤية جديدة فى خدمة فقراء هذا الشعب من خلال القانون . هو رائد تبسيط القانون ليصبح فى متناول الإنسان العادى .
هشام مبارك رحل ، هكذا آن أوان تأبين أناس من جيلنا جيل السبعينات والثمانينات . جاء الآوان فى وقت لا يزال فيه هؤلاء الأشخاص مفعمون ومحملون بأحلام لهذا الوطن ولهذا الإنسان .
هشام مبارك الصامت العميق ، دينامو حركة حقوق الإنسان ، جمعنا عمل مشترك وحلم مشترك ، حلم بوطن خال من الفقر ومن التمييز على أساس المعتقد أو الدين أو الجنس .
قبل سنوات ذهبت لرؤيته فى المستشفى حين دخل لإجراء عملية بأذنه بعد صعاب واجهها حين اعتقل قبل عدة سنوات . رحل ورقمه فى أجندة تليفونى وحلمه فى أذنى وحماسه يملأ وجدانى .
ان تراثى امر توقعته سيحدث من جانبى أو من جانبهم بعد سنوات وسنوات ولم أتوقعه الآن .
هشام مبارك و أروى صالح زهرتين من جيلى حلما بوطن الإنسان فيه إنسان .. حلما بالفقراء وبالغد وبالحرية وبعصر يصبح الفرح فيه أمرا مباحا . كل منهما كان أسطورة فى واقع صار كالإسفاف .
لعله استشعر أن رحيله قد آن . لعله استشعر أن الباقى أياما معدودات . لعله كان يحلم بأكثر مما يسمح به الواقع والوطن ، مما يسمح به العمر ، القلب الذى سكت رغم صخب الحياة . حين ترامت على أذنى عبارة وفاته كانت كحد السيف . شىء انشطر داخلى لعله الامان ولعله الرفقة.. رفقة انقطعت.. رفقة درب وخيار .
خيار وطن للأحرار ، وطن يصبح الإنسان فيه إنسان . خرج من مأزق جيله وكل الأجيال ، مأزق الوصول للناس ، عرف أن الطريق للتغيير يكون عبر الإصلاح . وضع مركزه مشاريعا لقوانين أكثر ديمقراطية فى كل المجالات أولى اهتماما بحرية الفكر ، بالفن ، بالمرأة ، بالإنسان فى كل الطبقات .
وداعا هشام مبارك أرق الرجال ، عشت رجلا حلما ومت شابا أودع داخلنا أحلاما وأشواقا ، وداعا من جيل مزقته الأشواق والتحولات .
ما الذى إنفرط ؟ حبات عمر أم حبات حلم ؟ ..لم يبق منه سوى شتات ؟ ما الذى تهشم ؟ ..ما الذى تاه من تحت أقدامنا ؟ أو صار كالسراب ؟ ما الذى تمزق جيل أم وطن أو درب أم خيار؟
هشام مبارك لست مسئولا لتدق لك الأنغام لتذاع عنك الأنباء ، لكنك حفرت فى جدران القلب شرخا وجرحا ووعدا اعطيته للفقراء . ستظل مشروعا وطأت قدمه الأرض ..ليمشى سريعا .. ليرحل سريعا .. وليمنح سريعا .. ولينبض سريعا ، كنت أسرعنا فى كل شىء ، فى العمل وفى الموت ، وفى فهم المقدس وفى ترك أرض دنستها الأقلام .
هشام مبارك.. وداعا من جيل مزقته الأشواق !
الأهرام 17/1/1998
—————————————————————————————————
(7)
أيامنا الحلوة
ماجدة أباظة
يبدو أن من نحبهم يبقون على قيد الحياة . حين تواجهنى حقيقة أن هشام صديقى ورفيق الأيام التى مسكنا الدنيا فيها بملء الكفوف قد رحل بجسده ، ألوذ إلى مخيلتى للبحث عنه فأجده مازال لم يرحل بعد .
إلا أننى لم أتعود أن أتحدث عنه ، فأنا تعودت أن أتحدث إليه .
تعارفنا فى كلية الحقوق جامعة القاهرة فى 1982ــ1983 . فى البداية كان مجرد تعارف بين زملاء تجمعهم كلية واحدة ، كان صامتا لا يتحدث كثيرا . لم أكن أعرف أن الحديث لن يتوقف بيننا بعد ذلك .
ظللنا فترة من الوقت نتبادل الأحاديث الرسمية وإن كانت مشوبة بالترقب المتبادل .
كان معتزا بأنه من أولاد علام .
ببطء شديد تشكلت مجموعة كلية الحقوق ، وبدأنا العمل الطلابى داخل الجامعة . تحسسنا طريقنا ونحن محملين بأعباء وأثقال الأجيال التى سبقتنا ، فالتركة كانت تغل يدنا وحركاتنا .كيف لا يتذكر هشام كيف أعلنا عن تكوين جمعية ” الوطن ” وقد كان من دعائمها ، كيف دخلنا جميع مكاتب الدكاترة الأجلاء ليمنحونا شرف الاعتراف القانونى بنا كما تمليها اللأئحة الطلابية وكيف تهربوا منا الواحد تلو الآخر بعد الإدلاء بخطب عصماء عن تحملهم المسئولية وقدراتهم على رفض قرارات الإدارة المستبدة . جمعتنا الضحكات والقفشات وفى طياتهاالأحلام . فقد كنا الخطط لنحاصر الدكاترة أثناء تهربهم منا وننقض عليهم قبل أن يلوذوا بالفرار . ماذا حدث على وجه الدقة ؟ وكيف حدث ؟ أن نتحول من مجرد زملاء فرضت عليهم الصدفة المكانية أن يعملوا سويا برغم الاختلافات والتباينات إلى يد واحدة تضرب بعرض الحائط كل الفرضيات المسبقة وتنجح فى أن تشكل تناغما مستحدثا فى العمل المشترك قد ينسى البعض كيف سارت الأمور إلا أنها بالنسبة لى كانت نقطة تحول فى علاقتى بهشام ، فقد كانت بداية كسر الصمت حتى أننا نسينا كيف كان يبدو الصمت فى البداية وأنه لم يكن إلا مجرد وسيلة للتعارف .
مرت أحداث كثيرة علينا فى الجامعة من مظاهرات واعتصامات وندوات ومناقشات كانت لها أبلغ الأثر علينا . كنا غارقين فى صياغة عالمنا وتشكيله وفق أحلامنا وبرغم صعوبة المرحلة التى كنا نمر بها آنذاك نجحنا ” بالقياس ، وإن لم ” والم تكن أنت يا هشام من تبنى شعار ” الماضى خسرناه والحاضر نبنيه والمستقبل لنا ” .
ولم تفرقنا الأيام بعد ذلك كثيرا وإن اختلفت المسالك ، فقد ظللنا نستوعب بعضنا حتى فى الاختلافات والتناقضات التى واجهتنا فيما بعد ، واحتمينا بصداقتنا .
تتبعت هشام فى مراحل تكوينه لمكتب ” المساعدة القانونية ” ، وقبلها عملنا سويا بالمنظمة المصرية لحقوق الإنسان ، فكان دوما يبهرنى بصمته المعلن ودأبه الخافى .
وبرغم موقفى الرافض للنشاط الممول على وجه العموم إلا أن هشام كان ينجح فى ان أنصت له حين يتكلم عن الأفراد الذين استفادوا بالحماية القانونية فى ظروف بالغة القسوة .
كنا قبل أيام من رحيله يداعب كل منا الآخر بأنه قد مر علينا الزمن دون أن نجد طريقنا الحقيقي بعد ، فنحن من الجيل الذى شب دون أن يرضى من أحد ودون أن يرضى عليه احد ، وقلنا أننا كبرنا وتقترب من النهاية ، فقد حرقنا مراحل . ولكنك يا هشام لا تزال …صغيرا وكلما تزداد وحشة الفراق سأنظر إلى ابنك زياد .
—————————————————————————————————
(8)
رحيل هشام مبارك….
بعد أن تعب قلبه من هموم الوطن وناسه
حسين عبد الرازق
لا أذكر على وجه الدقة تاريخ أول لقاء بهشام مبارك ولكن. كان اللقاء فى نهاية عام 1988 كأحد أعضاء حزب التجمع الوطنى التقدمي الوحدوى فى الجيزة ومن حى أولاد علام تحديدا ، عرفنى به الزميل محمد خليل ليعمل معى فى لجنة التحريات بالحزب ، وكنت أتولى الإشراف عليها كأمين للعمل الجماهيري بعد تركى لرئاسة تحرير الأهالى .
كانت اللجنة فى هذا الوقت من أكثر لجان التجمع نشاطا فى توفير الدفاع ورعاية المسجونين السياسين ، وتضم فى عضويتها عددا من الشباب أذكر منهم أمينة النقاش ، محمد سعيد ، سيد أبو زيدج ، حازم منير. وأخرين تعددت لقاءاتنا أسبوعيا . كل ما كنت أعرفه عنه فى ذلك الحين أنه ابن لأحد الفصائل الماركسية المصرية ، ينتمى لأحد أحياء مدينة الجيزة الفقيرة من حيث النشأة ( أولاد علام ) التى أمدت الحركة اليسارية المصرية بكثير من كوادر الشاية اللامعة . ولفت نظرى هدوؤه الشديد وقلة كلامه وانخفاض صوته مهما كان الحوار ساخنا ومحتدما .
وبعد أقل من عام ـ عقب اعتصام عمال الحديد واقتحام الشرطة للمصانع واعتقال وتعذيب بعض قادة الاعتصام ــ اعتقل ” هشام مبارك ” مع عدد من الكتاب والصحفيين منهم ” مدحت الزاهد ،ود. محمد السيد سعيد ” … وتعرضوا بدورهم للتعذيب .
وبعد الأفراج عنه انغمس هشام فى العمل فى المنظمة المصرية لحقوق الإنسان ولم أعد أراه كثيرا وإن ظل الود والتقدير متواصلا بيننا .
ومع صدور مجلة ” مجلة اليسار ” فى مارس 1990 ، وتصاعد ظاهرة التعذيب فى مصر مرة أخرى ، بدأ هشام مبارك يكتب لليسار كاشفا عن جانب آخر من شخصيته ، كان أول مقال له فى العدد الثالث ( مايو 1990 ) تحت عنوان ” تلاميذ زكى بدر يملأون أقسام الشرطة ” وتواصلت دراساته فى اليسار حول ظاهرة التعذيب وحول جماعات الأسلام السياسى لتكشف عن قدرات باحث جاد موضوعى ، ثم ازدادت علاقتنا توثقا من موقعى الحزبى والصحفى وهو من موقعه فى المنظمة المصرية لحقوق الإنسان ، ثم من مركز المساعدة القانونية لحقوق الإنسان الذى أسسه هشام عام 1994 ليلعب دورا بالغ التميز فى حركة حقوق الإنسان فى مصر ، وليد عونى مع عدد من رجال القانون والسياسة والصحافة والفكر المهتمين بحقوق الإنسان أمثال ” نبيل الهلالى وعادل عيد والسيد يسن ود. مصطفى كامل السيد ” للمشاركة فى مجلس أمناء المركز .
وكم كانت سعادتى عندما فؤجئت ذات يوم ب ” لميس النقاش ” تبلغنى أنها ستتزوج هشام مبارك . وهكذا أصبحت علاقتنا تترواح بين العمل معا فى المركز ، والأهتمام المشترك بقضايا حقوق الإنسان ، وعلاقة النسب .. لأكتشف جوانب جديدة فى شخصيى هشام المنحاز دوما للفقراء والمظلومين والمستضعفين .. كان من أبرزهم كم القلق الداخلى والتوتر والحساسية والتواضع والهرب بعيدا عن الأضواء .
كان هشام مهموما بقضايا الوطن وناسه ، يؤرقه حلم أن يسود العدل وأن لايحرم إنسان من حقوقه الأساسية فى الحرية والكرامة ولقمة العيش . وفى أحيان كثيرة كنت أشعر أنه لا توجد له حياة خاصة ، فقد وهب نفسه بالكامل للعمل العام . ومارس هذا العمل باستقامه ووضوح وشرف جعله يغرق فى بحار من الألم المكتوم عندما فؤجى البعض ــ وأحيانا من رفاق الطريق ــ يسعى لتعطيل أعمال كبيرة والنيل منها من أجل أشياء شخصية صغيرة ، ولكنه كان ينجح فى النهاية فى تجاوز هذه العقبات والاستمرار فى العمل ، وإن لم ينجح أبدا فى الخلاص من هذا الألم الداخلى الدفين .
وعندما أعود بالذاكرة إلى الأدوار الهامة التى لعبها هشام مبارك من خلال قيادته الديموقراطية لمركز المساعدة القانونية أجدنى أتوقف أمام ثلاث معارك رئيسية .
**معركة قانون اغتيال حرية الصحافة (93 لسنة 1995) فبعد صدور القانون الجريمة فى يوم الأحد 28 مارس 1995 بأربعة أيام . كان المركز قد انتهى من إعداد أول دراسة نقدية للقانون ، وقام بطبعها وتوزيعها فى فى المؤتمر الذى عقد بنقابة الصحفيين مساء الخميس أول يونيه 1995 .
ومع تصاعد المواجهة والإحساس بالحاجة لإعداد مشروع قانون بديل لكل التشريعات المقيدة لحرية الصحافة ، نظم مركز المساعدة القانونية ورشة عمل ، شارك فيها عدد من فقهاء القانون والصحفيين وأساتذة الإعلام ، انتهت بإعداد ” مشروع قانون بشأن ” حرية الصحافة والصحفيين ” صدر فى كتاب تحت اسم ” معركة حرية الصحافة ” .
وكانت أعمال الورشة والمشروع خير عون للصحفيين فى مؤتمرهم الرابع ، وفى إعداد مشروع القانون الذى أعدته نقابة الصحفيين وتقدمت به فى مواجهة القانون 93 لسنة 1995 .
** معركة الدفاع عن حرية الفكر والإعتقاد والتصدى للموجة الظلامية ، وساهم المركز فيها مع جموع المثقفين بإصدار مجموعة من الدراسات تواجه الهجمة الشرسة ضد د. نصر حامد أبو زيد والمفكرين والمجتهدين وقضايا الحسبة ضد المفكرين والمبدعين ، أثمرت عن تكوين ” اللجنة المصرية للدفاع عن حرية الفكر والأعتقاد وإصدار مجلة ” حرية” .
** معركة التصدى للقوانين والتشريعات المناهضة للدستور وحقوق الإنسان … مثل مشروع قانون العمل الجديد ، قانون الأحزاب ، المحاكمات العسكرية .. والدراسة المتميزة لأحكام المحكمة الدستورية العليا .
وقبل هذا كله آلاف القضايا التى رفعها المركز للعمال والنساء ولكل من انتهكت حريته ولجأ للمركز ليوفر له الدفاع القانونى المجانى .
وكم كان ملفتا أن يمتد نشاط المركز بسرعة من القاهرة إلى الإسكندرية ثم أسوان ، وأن يحرص هشام منذ اليوم الأول على الشفافية ونشر ميزانية المركز ومصادر التمويل فى سابقة هى الأولى من نوعها .
ورغم هذا الجهد الخارق الذى قام به هشام والمجموعة الصغيرة المخلصة المضحية التى تعمل نعه خلال السنوات الثلاث ، فقد واصل البحث والدراسة فأصدر كتابه الهام ” الارهابيون قادمون ” عام 1995 ، وسافر الى لندن خلال العام الماضى لمدة شهرين استعداد لاستكمال الدراسات العليا وإعداد رسالة حول ” جماعات الإسلام السياسى من منظور حقوق الإنسان ” .
ولكن قلبه الجسور لم يستطع أن يتحمل كل هذه المسئوليات التى ألزم هشام نفسه بها . أتعبته هموم الوطن وآلام الناس ، وقسوة البعض الذى لم يكف عن تشويه كل عمل جميل . فرحل عنا هذا الإنسان الجميل فجأة مساء الأثنين 12 يناير 1998 ، تاركا فى قلب كل منا ألما وحزنا ، وفى عيوننا دموعا لا تجف .
اليسار ــ فبراير 1998
—————————————————————————————————
(9)
الأشجار تموت واقفة
هشام مبارك…المناضل الإنسان
أحمد شرف الدين
صديقنا الغالى هشام…اختطفك الموت منا قبل الآوان..وأنت لم تزل فى ريعان شبابك.. ياابن الخامسة والثلاثين ربيعا فى قسوة الأقدار … وهول الفجيعة .. المصاب فادح .. وخسارتنا فيك كبيرة ياأبا (زياد ) لكن عزاءنا أن الموت إذا كان قد اختطفك عنوة منا ، فإن القضية التى ناضلت من أجلها حية لا تموت .
عزاؤنا أن أحباءك على دربك سائرون ، يواصلون نضالك من أجل حرية الوطن واستئصال ظلم الإنسان لأخيه الإنسان .
فى مسقط رأسك . فى حى ( اولاد علام ) .. الناس يذكرونك بالخير .. يذكرونك وأنت تبذل قصارى جهدك فى التدريس لأولاد الفقراء مجانا .. بل وتدفع من جيبك .. لأن جيبوهم إذا كانت خاوية ..فإن قلوبهم وعقولهم يجب أن تمتلىء بنور المعرفة .
يذكرون اهتمامك بالناشئة من الصبية الذين كادت أن تلتقطهم تيارات ظلامية سوداء لولا يقظتك ورفاقك حتي صاروا ــ فيما بعد ــ جنود للتقدم .
يذكرون دفاعك عن حجق الفقراء بالحى ــ حوالى 30 ألف مواطن ــ فى امتلاك أرض ” الحكر ” التى يقيمون عليها منذ سنوات طوال ويهددهم ” التتار ” بطردهم منها واقتناصها لأنفسهم .
يذكرون مشاركتك النشطة الشجاعة فى معارك الأنتخابات البرلمانية وقيادة المواكب والمظاهرات التى تطالب بالحرية والخبز للجميع .
وفى جامعة القاهرة كنت علي رأس الحركة الوطنية الطلابية التى تناضل ضد التسوية مع العدو الصهيونى . وضد الرضوخ المذل لأمريكا .
وكان على رأس جدول أعمالك تأسيس نادى الفكر الاشتراكى التقدمى من أجل تنتظيم وتوحيد حركة اليسار فى الجامعة . وتنسيق المواقف مع القوى الوطنية والديموقراطية الأخرى ، لأن ما يجمعنا ، كما كنت تردد أكثر مما يفرقنا .
وكان اعتقالك ضمن نشطاء حركة التضامن مع عمال الحديد فى أغسطس 1989 ، وما تعرضت له من تعذيب وحشى على يد زبانية زكى بدر ، بداية مشوار جديد فى حياتك . إذ من يومها وانت تنخرط ــ بكل قوتك وعنفوانك ــ فى حركة حقوق الإنسان دفاعا عن كرامة وآدمية الإنسان الإنسان المصرى إلى أن توليت مسئولية المدير التنفيذى للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان ورشحت لجائزة ” ريبوك ” الدولية لحقوق الإنسان عام 1993 .
وبقيمة هذه الجائزة المالية ، ومع نفر قليل من زملائك قمت بتأسيس أول مركز متخصص فى تقديم الدعم القانونى لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان ، وهو مركز المساعدة القانونية لحقوق الإنسان الذى خاض ــ تحت قيادتك ــ معارك مهمة على رأسها معركة إسقاط قانون اغتيال الصحافة رقم 93 لسنة 1995 .
كل ذلك نذكره لك .. ولا ننساك
حتى خصومك ــ يا صديقنا ــ يذكرون مواقف لك ، يملؤها النبل والشرف والجسارة .
يذكرونك حين كنت تجمع مادة كتابك المتميز ( الأرهابيون المتميز ) من خلال لقاءات حية مع قادة الجماعات الدينية المتطرفة . بعد أن حاولت المباحث العامة تهديدك بالأعتقال وإغواءك بالمال الوثائق التى تخدم بحثك لقاء نقل أسماء وأخبار هؤلاء القادة إليها . فأبيت ــ فى شمم وكبرياء ــ أن تبيع نفسك .. ولو بمال الدنيا كلها ، ولم يحرك التهديد والوعيد شعرة واحدة فى رأسك .
هؤلاء خصومك فعلا.. ومن أخلاق وشهامة الفرسان أن تنازل خصمك وجها لوجه.. ورأيا برأى وليس بالغدر أو الطعن فى الظهر .
ويذكر لك حتى خصومك أنك رغم تصديك لأفكار قادة هذا التيار بقوة وعنف إلا أنك كنت تحتج ــ بذات القوة والعنف ــ على العبث بأدميتهم فيما يتعرضون له على يد زبانية التعذيب .. واعتقالهم المتكرر لسنوات طويلة . ومواجهة عنفهم الطائش بالتصفية الجسدية المتعمدة ( القتل خارج القانون ) .. لأن القضاء هو الساحة الوحيدة للقصاص بشرط أن تجرى المحاكمة علنا أمام القضاء العادل وليس الحاكم العسكرية ومحاكم الطؤارى .. فأنت تدافع عن الإنسان من حيث هو إنسان .
كان رأيك أن عنف الدولة مرفوض مثلما هو مرفوض تماما عنف الأفراد والجماعات .. وإذا كنا ضد جماعات الأرهاب فلسنا مع الحكومة .
إن قضية حقوق الإنسان لا تتجزأ.. ولا يمكن قبول قهرإنسان واحد فقط أيا كانت أفكاره وعقائده.
صديقنا الغالى هشام .. تخليت عنا ورحلت مبكرا وكم كنا نحتاج إليك .. ففى الليلة الظلماء يفتقد البدر .
و..صبرا آل هشام … وأصدقاء وأحباء هشام..
صبرا زوجته الوفية.. صبرا صغيرنا الحبيب( زياد )..
وسلام عليك أيها الغالى .. سنذكرك دائما مناضلا وصديقا … وإنسانا .
الاهالى 21/1/1998
—————————————————————————————————
( 10 )
إلى هشام مبارك .. كم أنت حزينة يا بيوت الفقراء
كمال خليل
منذ نهاية عام 1990 وأنا وأنت يا هشام لم نلتق .. مضت سبع سنوات ولم نتقابل إلا منذ شهرين حينما جئت لتزورنى فى سجن مزرعة طرة .
وفى زيارة السجن رغم أنك لم تتحدث ولا فى الأطمئنان على حالى وحال الرفاق داخل السجن ، إلا أن عينيك كانت تنطق بكل الماضى الثورى الجميل الذى عشناه سويا منذ أن كنت طفلا وحتى نهاية عام 1990 ، فقراء أولاد فقرا لم يكن ( ولن يكون ) لهم طريق إلا أن يحملوا هموم الفقراء ويتضامنوا معهم .. ذلك هو تاريخنا المشترك الجميل … سبع سنوات كاملة لم نلتق ..
ولذلك فأنا فى هذه اللحظة وبعد رحيلك لا أملك أن أتكلم عن سنوات الفراق.. أملك فقط الحديث عن سنوات اللقاء والكفاح المشترك فى حوارى عزبة أولاد علام وداير الناحة ، وفى لجان التضامن مع عمال السكة الحديد … ولجان التضامن مع عمال الحديد والصلب والنضال المشترك فى زنازين سجن أبى زعبل .. وأحياء محافظة الجيزة .. فكم كنت جميلا يا هشام .
حينما كنت طفلا لا يتعدى ( الثالثة عشرة من عمره ) وتغنى مع طلائع أولاد علام .
” إحنا وكمبوديا وفيتنام ابطال ”
وكم كنت جميلا وأنت تشارك مع أبناء حيك فى إعداد خشبة المسرح ( مسرح الشارع ) على عربة من الكارو فى تقديم العروض المسرحية .
بحر البقر ، أمريكا قتلت عيالنا ، عقارب الزمن ، اغنية على الممر واسكتشات ” شارلى شابلن ” و ” الضاحك الباكى ” . كم كنت رائعا حينما كنت بالجامعة وتقوم بتجميع الطلاب الاشتراكيين كى تعيد تأسيس نادى الفكر الأشتراكى التقدمى وتصدر النشرة الطلابية تحت عنوان .
” نريد جامعة حرة فى وطن حر ” .
وتصدر كتابك عن الحركة الطلابية وتهتم فى مقدمته بتحليل الطبيعة الطبقية للطلاب ( فئة إجتماعية أم طبقة ) .. وتحاول استخلاص المهام الملقاة على عاتق الحركة الطلابية فى الثمانينيات .
وكم كنت جميلا ومناضلا صلبا وأنت تختلف مع رفاقك حول طبيعة الثورة المقبلة لشعبنا .. (وكنت اصغرنا سنا يا هشام ) .
كنت مليحا يا فتى وأنت تتحدث عن :
” الثورة الأجتماعية المقبلة ” …. وكنت أكثر ملاحة حينما كنت تتحدث عن طبيعة الأتحاد السوفيتى كرأسمالية دولة .. وعن البيروقراطية من أمثال يلتسين وجورباتشوف .
وكنت جسورا فى معارك الانتخابات المحلية والبرلمانية بدائرة الدقى ، وقفت تدافع عن حق الإضراب للطبقة العاملة ، وكان صوتك هادرا فى حوارى الفقراء وأنت تقود المظاهرة هاتفا : ” الإضراب مشروع مشروع .. ضد الفقر والجوع “.. ” والإضراب هوه سلاحنا .. ضد السلطة اللى بتدبحنا ” .
وتندد بحالة البطالة فى صفوف الشباب هاتفا :
” وادى حالنا يا شباب .. البطالة والخراب .. والوظيفة راح هاتيجى .. لما يبقى الشعر شاب .. ولا مساس ولا مسوس .. يا شباب مفيش جواز .. لا مسوس لكن ولكن .. يا شباب مفيش مساكن .. ”
كنت يا هشام تكتب العرائض وتجمع التوقيعات ضد طرد وتشريد أبناء عزبة أولاد علام من فوق أرض العزبة .
هشام يا أخى
حينما تلقيت نبأ وفاتك تذكرتك والقلب يدمى. تذكرتك يا هشام وأنت منهك الجسد داخل زنازين التعذيب بليمان أبى زعبل.. كان الجلادون يعذبونك لانك كنت متضامنا أصيلا مع عمال الحديد والصلب … وكان يوم تعذيبك ذلك هو يوم عيد ميلادك .
ضحكت يومها وسخرت من جلادك ( بتشريفة التعذيب يوم عيد الميلاد ) فدخلوا ثانية واسخنوك بالسياط.. وكنت صلبا فى مواجهة جلاديك.. فقيرا ابن فقير متضامنا مع الفقراء والمظلومين .
وحينما ظللنا سويا لمدة أربعة أيام متواصلة نقوم بجمع التبرعات ( الأرز والسكر والصابون ) والقروش القليلة من منازل عمال حلوان وشبرا الخيمة ونسلمها للجنة رعاية المعتقلين من عمال الحديد والصلب .
وفى اليوم الرابع .. فى تمام الساعة الثانية عشرة مساء وحينما انهكنا من التعب والإرهاق .. ودع كل منا الآخر . واتفقنا على النوم غدا باكمله حتى نستريح ونواصل العمل .. وافتقرنا وذهب كل منا إلى منزله ليجد زوار الفجر فى انتظاره .. والتقينا بعد ساعة من الفراق لتضمنا زنازين مباحث أمن الدولة فى شارع جابر بن حيان .
فضكنا ضحكة أولاد الفقراء وغرقنا فى نوم عميق .
وحينما تلقيت نبأ وفاتك تذكرت عملك المتواصل ومحاضرات التثقيف (عام 1987 ) لشباب أولاد علام فى مقر الدقى وفى الاسكندرية.. ومحاضراتك البسيطة والجميلة فى ” الأقتصاد السياسى ” وضد شركات توظيف الأموال . تذكرت لقاءاتنا مع المناضل الراحل سيد العشرى فى قرى الصف والعياط .. وإمبابه والهرم تذكرت ضحكاتنا على القهوة حينما كان المحامى التقدمى العريق سيد العشرى يقول ” إحنا ما شوفناش أيام سودة زى الأيام دى ” .
وكنت تقول لى :
“ياريت نعيش كده ونبقى عواجيز زى سيد عشرى … وتبقى الأيام كلها أيام نضال “…
وكنت تقول :
” مش كفاية المجلات والمنشورات… لازم نطور من أساليبنا .. عايزين نستخدم الكاسيت والفيديو.. نسبة كبيرة من كادحى وفقراء الوكن ما بتعرفش تقرأ ولا تكتب .
تذكرتك يا هشام ونحن سائرين فى ميدان التحرير .. نقوم بجولة على الأصدقاء لنجمع تبرعات لطبع إحدى كراسات الجامعة التى صغتها أنت وزملاؤك الاشتراكيون بالجامعة ..
وكانت النقود التى جمعناها لا تكفى لطباعة الكراسة.. ونحن سائرون نفكر فى كيفية استكمال ثمن الطباعة.. عثرنا على ساعة فخمة ملقاة فى عرض الطريق.. واخذنا نسأل عن صاحبها فلم نجد.. ونظر كل منا إلى الآخر قائلا :
” تبقى الساعة هى الحل .. ساعة من السماء.. نستكمل بثمنها تكلفة طباعة كراسة الجامعة ” .
وتعبنا وقمنا ببيع الساعة.. وطعنا الكراسة وكنت تقول لى ونحن سائرين .
” الساعة.. الساعة.. أنت اللى سرقت الساعة.. وأقول لك :
” أنا ما عملتش حاجة لحد.. أنا ع الأد وأعيش على الأد..”
فتكمل أغنية الراحل صلاح جاهين فى فيلم ” عودة الابن الضال ”
” أنا كنت بأبص على الازهار .. وشبابى كان زهرة ما بينهم.. مغروسة فى لهيب النار “.
هشام.. لماذا رحلت ؟ وأى غدر اصابك ؟
فأنا لا أعلم .
رحلت ولن نشرب الشاى معا مرة ثانية من يد أمك الحنونة .. أمك يا هشام.. أجمل الأمهات .. أمهات المناضلين الفقراء .. امهاتنا الصابرات .. على غدر الزمان وغدر الزنازين.
وكم أنت حزينة يا بيوت الفقراء .
الاهالى 21/1/1998
—————————————————————————————————
( 11 )
رفيقى فى الزنزانة رقم ” 5 “
مدحت الزاهد
كنا نسير طابورا فى طرقة ضيقة بين ضفتين من جنود الأمن المركزى انهالوا علينا دون سابق معرفة ، ضربا بالهراوات فوق كل مواضع أجسادنا.. خلفى جاء هشام فى الطابور ، فجأة سمعت صوته ” حاسب يا مدحت ” نظرت خلفى فوجدت يده ممدوة تتلقى عصا كانت موجهة لراسى .. وظلت هذه علامة على ذراع هشام مبارك أسأله عنها كلما التقينا وأتأمل أثارها .
ولم تكن حملة الهراوات سوى بداية حفل الأستقبال الذى أعده زبانية التعذيب لقادة حركةالتضامن مع عمال الحديد والصلب بعد اقتحام الأمن المركزى للمصنع وإطلاق الرصاص الحى فى المليان ومصرع لعامل عبد الحى بعدها توالت المراسيم فبعد عودتنا للزنازين انهال الزبانية علينا ضربا وتنكيلا ، ثم أعادوا الكرة بعد خروجهم عندما داعب كمال خليل هشام بقوله ” هابى بيرس داى تو يو ” وقد وافق حفا الاستقبال يوم ميلاده ، فعاد إلينا الضبط بعد أن ضحكنا ولم نصرح من الآلم !.
وكان معنا فى الزنزانة ” 5″ من مؤسسى حركة حقوق الإنسان أيضا د. محمد سيد سعيد الذى تأكد بالدليل من صحة دراسته التى قادته إلى السجن ” الضابط الفتوة ” وكانت إجابته على تجريدة الأمن ” أضرب يا جبان ” وخلال هذه المعركة الكبرى ، حركة التضامن مع عمال الحديد والصلب برهن هشام مبارك على إيمانه العميق بقضايا الديمقراطية وحقوق الطبقة العاملة فى التعبير الديمقراطى وفى العدل ، فلم يكتف بنشاطه القانونى فى المنظمة المصرية لحقوق الإنسان لفضح الأنتهاكات ولم يقتصر على حضور التحقيقات مع المهتمين من قادة الحديد والصلب ، أو زيارات السجون بل طاف منزل أسر القيادات ليقدم لها أسمى أيات التضامن .
ولم يكن هذا المشهد سوى امتداد لسيرة مناضل ارتبط مبكرا بهموم أبناء حيه فى أولاد علام فشارك فى صباه فى كل المشاريغ الخدمية والتنموية بالحى واتسعت دائرة همومه لتشمل كل قضايا الوطن من خلال نشاطه داخل وخارج أسوار لجامعة ، ثم عضوا بارزا فى تأسيس حركة ومنظمات حقوق الإنسان ، والتى عرفت بعد حركة التضامن مع عمال الحديد والصلب محطات أخرى مهمة ابرزها دور مركز المساعدة القانونية.. الذى تولى تأسيسه ، فى التضامن مع انتفاضة الصحفيين ضد القانون 93 المعروف بقانون حماية الفساد فى كل المواقف اختار هشام الموقع الصحيح وعرف طعم الأنتصارات بالإفراج عن عمال الحديد والصلب فى البداية ، وبإسقاط القانون 93 فى مرحلة أخرى . ولا أقول النهاية ، حيث تتواصل فى الحياة نضالات الأجيال ، ويبقي كل عمل نافع شمعة مضيئة تومض بأسماء المناضلين فى مسيرة الحياة .
الاهالى 21/1/1998
—————————————————————————————————
( 12 )
حياة شاقة
أنتونى لويس
هشام مبارك محام شاب من مصر كان بإمكانه اختيار حياة رغدة فى عالم المهنيين القاهريين ولكنه اختار أن يعمل على مواجهة الممارسات العنيفة للحكومة ضد أعدائها من المشتبه فيهم ، وهو اختيار غير مستحب بل اختيارخطر فى بلد كمصر . ففى 1989 شارك هشام مبارك فى الدفاع عن عمال الحديد والصلب المعتقلين بسبب إضرابهم عن العمل وما لبث أن تم إعتقاله شخصيا حيث تعرض للتعذيب الذى أدى إلى نزيف فى أذنه اليمنى وفقدان السمع بها .
كانت تهمة هشام هى الإنتماء لتنظيم غير مشروع . والمنظمة التى يتولى هشام منصب مديرها التنفيذى ( المنظمة المصرية لحقوق الإنسان ) ليس لها وجود قانونى حتى اليوم . كما ان تعاونه مع إحدى منظمات حقوق الإنسان الأمريكية وهى منظمة مراقبة الشرق الأوسط قد عرضه فى 1992 للتهديد من المسئولين فى مصر .
وعلى الجانب الآخر فالأسلاميين المتشددين بدورهم ليسوا أكثر محاباة لهشام مبارك من الحكومة . فمنذ كان طالبا فى كلية الحقوق بجامعة القاهرة فى الثمانينات تعرض هشام للضرب على أيدى المتشددين بسبب دعوته لحرية الرأى وحقوق المراة .
وقد قام هشام مبارك بزيارة بوسطن هذا الأسبوع كأحد الحاصلين على جائزة ريبوك لحقوق الإنسان . وحينما سألته عن سبب معارضته للأساليب الحكومية فى مواجهة حركة متطرفة لا يمكن لها أن تحترم حقوق الإنسان إذا ما وصلت للسلطة . أجاب :
” لقد استخدمت الحكومة نفس الأساليب منذ أن فرضت حالة الطوارىء فى 1981 ولم تأت هذه الأساليب بنتيجة فلا يمكن محاربة العنف بالعنف . ” على العكس يرى هشام أن حالات الأعتقال الجماعى والتعذيب لا تؤدى إلا إلى مزيد من المعارضة للحكومة . ” فى كل مرة تتدخل الشرطة لحل مشكلة ما عن طريق حملات الأعتقال العشوائية للشباب يثير ظلم هؤلاء الأبرياء سخط الكثيريين . إن الأعتقال خارج القانون فى حد ذاته سبب كاف لتحول بعض المواطنين للعنف . ”
” وفى بعض الأحيان تقوم قوات الأمن بالأنتقام من بعض عناصر المجموعة الأصولية بقتلهم مثلما حدث حينما داهمت قوات الأمن مخبأ سبعة من الهاربين وقتلتهم نياما بدون أن يشرعوا فى المقاومة . فما كان من أهالى القتلى سوى رفض استلام جثث أبنائهم وطالبوا بالثأر . وبهذا تدور دائرة العنف التى لا تنتهى . ”
ويشهد التقرير الذى صدر مؤخرا عن منظمة مراقبة الشرق الأوسط على إتساع نطاق انتهاكات حقوق الإنسان التى ترتكبها قوات الأمن المصرية مثل الإعتقال العشوائى والإحتجاز خارج القانون والتعذيب المتمثل فى الضرب علي القدمين و الكهربة .
وفى أغسطس قامت محكمة أمن الدولة العليا بالحكم ببراءة 24 من العناصر الإسلامية المتهمة بالقتل استنادا إلى أن الأعترافات تمت تحت ” أبشع أشكال التعذيب ” على حد تعبير رئيس المحكمة المستشار وحيد محمود إبراهيم . فقررت الحكومة مؤخرا محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية حيث لا يحق لهم الأستئناف . وقد أصدرت هذه المحاكم عدة أحكام بالأعدام بالفعل .
يقول هشام مبارك : ” إن التعذيب سياسة حكومية ليست جديدة على مصر . والهدف منها هو إجبار الضحايا على الأقرار بما تراه الحكومة . ولكنها سياسة لم تنجح ولم تمنع هؤلاء المعارضين من الأستمرار فى ممارستهم .”
أمثال هشام مبارك هم من يذكروننا بأن هناك من على إستعداد لمواجهة الخطر من أجل قضايا حقوق الإنسان فى مصر وفى أنحاء أخرى من العالم . وهو ما تبرزه جوائز مثل جائزة الريبوك وجائزة روبرت كيندى وغيرها ، من هناك رجالا ونساء يملكون مثل هذه الشجاعة .
هل يمكن لهؤلاء إحداث تغيير فعلي ؟ الإجابة هى نعم برغم كل المعوقات . بالنسبة لهشام مبارك فهو شخص متواضع يصعب أن يتحدث عن نفسه ولكننى سألت إيما بلايفير مديرة منظمة إنترنت الدولية فقالت : ” إن تواضع هشام هو ما يميزه بحق . ففى الوقت الذى كان العمل فى مجال حقوق الإنسان محفوف بالخطر كان هشام يعمل ليس فقط على إعلان انتهاكات حقوق الإنسان ولكن على خلق وسائل لتوثيقها وتحقيقها ومحاولة إيجاد شهود ، وبمعنى آخر كان يعمل على مستوى مهنى . صحيح أن العمل فى حقوق الإنسان فى مصر مازال خطرا إلا أن فكرة حقوق الإنسان أصبحت الأن مقبولة وتؤخذ على محمل الجد . ”
مجلة نيويورك تايمز
10 ديسمبر 1993
—————————————————————————————————
( 13 )
التزام وشجاعة نادرة
فيرجينيا شبرى
مدير مساعد بمراقبة حقوق الإنسان
قسم الشرق الأوسط
رأيت هشام للمرة الأولى على فاكس من القاهرة . كان ذلك فى سبتمبر 1989 . تعرفت من الفاكس على هشام كمحام تعرض للتعذيب فى سجن أبو زعبل وكان قد اعتقل فى اعقاب المواجهة العنيفة التى قامت بها الدولة لقمع عمال الحديد والصلب المضربين عن العمل فى حلوان . وطبقا لتحقيقات نيابة أمن الدولة فإن هشام كان يعانى من ” نزيف فى الأذن اليمنى ادى إلى فقدان السمع بها ، وآلام حادة فى الأذن اليسرى نتيجة صفعات على الوجه والأذنين. كما كان بظهره سحجات تترواح بين اللون الأسود والأزرق والأحمر يبلغ طول كل منها من 30 إلى 40 سم ناتجة عن ضرب بالعصى . وكان هناك تجمع دموى بمؤخرة الرأس ناتج عن ضرب بالعصى . كما أنه لم يكن قادرا على تحريك ساقه اليمنى نتيجة الضرب على العمود الفقرى . ”
ولم أكن أعلم وقتها أن هشام سيكون له دور بالغ الأهمية فى تمكينى من القيام بعملى لتقصى حالة حقوق الإنسان فى مصر بعد ذلك بسنوات . فقد رافقنى هشام عدة مرات فى رحلات إلى صعيد مصر وعمل بلا كلل لترتيب مقابلات مع المحامين وأهالى ضحايا حقوق الإنسان وضحايا التعذيب وكان بعضهم طلابا فى المرحلة الثانوية لم يتجاوزوا سن المراهقة .
وسواء كنا فى أسوان أو قنا أو أسيوط أو المنيا كان علينا أن نعمل تحت ضغط شديد . كان هشام يمتلىء حيوية وإصرار محاولا الوصول إلى كل من يمكن إقتناعه بالموافقة على التحدث معى والإدلاء بروايته والإجابة على أسئلتى . فكان يذهب للمحاكم ويطرق أبواب كل المسئولين ويذهب للمساجد والكنائس . وفى ظل مناخ يسوده الخوف والشعوربالتهديد كان الوصول لهؤلاء البشر مستحيلا بدون علاقات هشام وسمعته كمدافع عن حقوق الإنسان فقد كان من الواضح أن هشام يتمتع باحترام وتقدير بالغ من الجميع .
ولكن هشام كان عليه أن يدفع ثمن المساعدة التى قدمها لى . ففى حين كان هشام محل ترحيب الأهالى فى الجنوب فإن وجوده مع أجنبية تعمل فى منظمة دولية لم يلق أى ترحيب من مباحث أمن الدولة . وكان الضغط شديدا فى الرحلة التى قمنا بها فى فبراير 1993 . ففى 3 فبراير وصل هشام إلى مطار أسوان ليجد ضباط أمن الدولة بزيهم المدنى فى انتظاره . وحينما وصلت على الطائرة اللاحقة وجدت هشام ينتظرنى وبجواره أحد ضباط أمن الدولة . أبلغنى وقتها أنه تم سؤاله عما ننوى عمله وطلب منه تزويد أمن الدولة بكل المعلومات الخاصة بعملنا . وإثر رفض هشام للتعاون وجدنا أنفسنا تحت مراقبة دقيقة . فى أسيوط قام مخبرون بملابس مدنية بملاحقتنا مشيا على الأقدام وعلى دراجات نارية . وكان على هشام أن يراوغ ملاحقينا عبر الشوارع الجانبية والحارات والطرق الملتوية حتى نتخلص من الملاحقة حماية لمصادرنا.
أما المشهد الذى لا أنساه أبدا فقد كان فى قنا مساء السابع من فبراير حين شرعنا فى مغادرة الفندق الصغير الذى كنا نقيم به . فقد قام موظف الأستقبال يغلق باب المدخل المعتم ليخبر هشام بأن لديه تعليمات بإبقائنا بلفندق لحين وصول مباحث أمن الدولة . وإذ بهشام يثور بشدة ويعلن للموظف بثقة شديدة أنه محام وأنه لم نكن رسميا رهن الأعتقال فإننا سنرحل على الفور ولم يخف صوته الحاسم غضبه الشديد وبسرعة تركنا الفندق والموظف المذعور قبل وصول مباحث أمن الدولة . وأمضينا الليل فى طريقنا بالسيارة إلى محطتنا التالية .
فيما بعد علم هشام أن اثنين من المحامين الذين قابلناهم قد تم اعتقالهما والتحقيق معهما لعدة ساعات من قبل مباحث أمن الدولة قبل الإفراج عنهما ــ وقد شكلت هذه الواقعة أحد الممارسات التعسفية التى كنا بصدد توثيقها . وقرر هشام بشجاعة ضرورة تقديم شكوى باسم منظمة مراقبة حقوق الإنسان ضد كل ما تعرضنا له . وقد وافق على استخدام اسمه فى خطاب الاحتجاج والذى سلمناه باليد لوزير الداخلية فى ذلك الوقت السيد اللواء عبد الحليم موسى فى 18 فبراير .
كان هشام مبارك إنسانا ملتزما وشجاعا وذا رؤية ثاقبة وإننى لأفخر أن الظروف أتاحت لى الفرصة أن أتابع عمله عن قرب . وستكون ذكرى هشام أبدا حية بالنسبة لى كإنسان وزميل ومرجع لحقوق الإنسان فى مصر ، فتحية للذكرى التى تركها عمله .
نيويورك، 12 مارس 1998
—————————————————————————————————
( 14 )
خسارة مأساوية
اما بلايفير
المدير التنفيذى لمؤسسة انتررايتس
إن موت هشام مبارك يمثل خسارة مأساوية لحركة حقوق الإنسان وحزنا عميقا للكثيرين من أصدقائه فى مصر وخارجها .
كان أول لقاء لى بهشام مبارك عن طريق بعض أعضاء المنظمة المصرية لحقوق الإنسان والذين قدموه لى باعتباره واحد من جيل جديد من نشطاء حقوق الإنسان يرجع له الفضل فى المستوى المتميز لعمل المنظمة لتفانيه الشديد والمستوى المهنى العالى لرصد وتوثيق وكتابة التقارير الدقيقة عن انتهاكات حقوق الإنسان . ورغم أننى لم أكطن أعرف هشام عن قرب فى ذلك الوقت إلا أننى رحبت بترشيحه لجائزة ريبوك التى تمنح تقديرا لمساهمة الشباب من نشطاء حركة حقوق الإنسان ، إيمانا منى بأن صفاته الواضحة من تفان وشجاعة ومستوى مهنى عال هى بالتحديد القادرة على تحقيق تقدم لحركة حقوق الإنسان .
وفى الشهور الست الأخيرة من حياة هشام كان لزملائى وأنا فى Interights حظ معرفة هشام عن قرب حيث اتخذ من مكتبنا مقرا له أثناء عمله على بحثه فى لندن . ورغم وحدته وخجله من الحديث بالإنجليزية إننا جميعا شعرنا نحوه بدفء فى وقت قصير وكنا نترقب عودته إلى لندن فى يناير .
وفى ديسمبر التقينا فى مؤتمر أفريقى فى دكار حول القانون والحماية الدستورية فى أفريقيا ، وهو المشروع الذى ساهم فيه هشام مساهمة قيمة . ورغم أن خجل هشام من التحدث بالأنجليزية على الملأ حال دون مشاركته بالحديث فى الجلسات إلا أن تعليقاته فيما بعد خارج قاعة المؤتمر كانت ثاقبة وعميقة. وكان قد وعدنا بكتابة تلك الأفكار بتوسع عند عودته لمصر ، وإنها لخسارة شديدة للمشروع أنه لم يتمكن من استكماله .
إننا سنفتقد فى هشام تلك التركيبة النادرة من الإعتزاز بالنفس والتواضع والتفانى والشجاعة والكرم فى تقدير مجهود الأخرين . ولكن المنظمة التى أسسها ، مركز المساعدة القانونية لحقوق الإنسان تحمل ذكراه وتعكس كل صفاته من وضوح الهدف إلى التفانى فى تقديم المساعدة لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان عن طريق القانون وكذلك المستوى العالى للعمل .
لندن، مارس 1998
—————————————————————————————————
( 15 )
وداعا…
كايرو تايمز
خسرت مصر خسارة فادحة فى معركتها من أجل مجتمع أكثر حرية وعدل وتناغم بموت هشام مبارك المحامى ومناضل حقوق الإنسان . مات هشام فجأة فى الثانى عشر من يناير إثر أزمة قلبية ولم يبلغ بعد الخامسة والثلاثين .
ولد هشام فى 1963 فى حى أولاد علام الفقير وظل حياته يناضل من أجل حقوق المحرومين . نشط هشام فى صفوف الحركة الطلابية كطالب فى كلية الحقوق بجامعة القاهرة فى أوائل الثمانينات ثم أصبح بعد ذلك أحد الأعضاء المؤسسين للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان . فى 1989 ألقت مباحث أمن الدولة القبض على هشام ضمن آخرين بسبب دفاعهم عن عمال الحديد والصلب المضربين بحلوان وليصبح واحد من الآلاف الذين تعرضوا للتعذيب فى السجن على يد نظام زكى بدر وزير الداخلية فى ذلك الحين .
فى 1992 حصل هشام مبارك على جائزة ريبوك لحقوق الإنسان تقديرا لإسهامه المخلص والرائد فى حركة حقوق الإنسان . وبقيمة الجائزة (2500 دولار ) قام هشام مبارك بتأسيس أول مركز للمساعدة القانونية فى مصر للدفاع عن المعتقلين السياسين وضحايا العنف . وأصبح مركز المساعدة القانونية لحقوق الإنسان برئاسة هشام من مؤسسات حقوق الإنسان الأكثر إحتراما وفاعلية فى مصر .
وفى السنوات الأخيرة لفت هشام مبارك الأنظار كأحد الباحثين والمعلقين السياسين النادرين فى قدرته على الفهم الواضح لتعقيدات الإسلام السياسى وكأحد المراقبين للحركة عن قرب رغم المسافة الفكرية التى تفصله عنها بحكم إنتمائه . وقد بلور أفكاره فى كتابه ” الإرهابيون قادمون ” الذى صدر عام 1995 عن دار المحروسة . وقبل وفاته كان هشام بصدد إعداد رسالة دكتوراة عن الإسلام السياسى .
وقد لقى خبر وفاة هشام مبارك اهتماما من الصحافة باعتباره أحد المساهمين الفاعلين فى حركة حقوق الإنسان فى مصر ولكن التقدير الحقيقي لعمله وحياته سيكون يوم تنتهى كافة أشكال الإنتهاكات لحقوق الإنسان القائمة فى مصر الآن . لقد كان عمل هشام مبارك الرائد
فى مجال حقوق الإنسان محل تقدير محلى وعالمى وسيظل الشعور بالصدمة لموته المفاجىء ينتاب الجميع لزمن غير قصير .
أما الذين عرفوه شخصيا فسيفتقدوا ذلك الخيال الخصب والرؤية والسخرية الذكية التى يمتلكها فقط أصحاب الرؤية الثاقبة . بالنسبة لهؤلاء ولآلاف المصريين الذين خدمهم هشام يمثل موته مأساة حقيقية .
22 يناير 1998
—————————————————————————————————
( 16 )
هشام كما عرفته
فاطمة فرج
توفى مناضل حقوق الإنسان والمحامى هشام مبارك مساء يوم الإثنين إثر أزمة قلبية عن خمس وثلاثين عاما . لمن يعرف هشام بدا الخبر للوهلة الأولى مزحة سخيفة ولكن مع الوقت فرضت الحقيقة نفسها وصار علينا أن ندرك أن هشام رحل إلى الأبد .
ولد هشام مبارك فى 1963 وتربى فى حى أولاد علام ، ذلك الحى الشعبى الذى يقع وكأنما بقصد إبراز المفارقة على الحدود الراقية لحى الدقى ، ونشأ هشام كشاهد مباشر على الجانب المظلم من طيف التفاوت الإجتماعى . كان يستمتع استرجاع ذكريات طفولته خاصة عشقه للطيران . كان يستأجر دراجة ليقطع رحلة منهكة من مطار إمبابة ليشاهد إقلاع وهبوط الطائرات متجاوزا غضب أهله وفقر المكان ، فقد كان مسكون بقدرة الخيال والإصرار .
فر كلية الحقوق بجامعة القاهرة برز دورهشام ضمن صفوف الحركة اليسارية وبشكل خاص أثناء مظاهرات 1984 الطلابية ضد اللوائح الجامعية . واستمر هشام لآخر يوم فى حياته مؤمنا بحقوق الفقراء وبإمكانية مستقبل أفضل للبشرية .
وعقب تخرجه وضع هشام كل جهده فى تأسيس وتطوير المنظمة المصرية لحقوق الإنسان والتى أصبح مديرها التنفيذى رغم صغر سنه . كان طاقة من الإلتزام والتفانى لذلك العمل الذى يستهلك أيامه بالكامل فى مقابل مردود لا يذكر . وفى هذه الأثناء القى القبض على هشام مع عدد من القيادات البارزة للمنظمة ومنهم د. محمد سيد سعيد نائب رئيس مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام حاليا . كان ذلك فى أعقاب الحملة التى قامت بها المنظمة دفاعا عن عمال الحديد والصلب المعتقلين عقب الإضراب الذى نظموه فى 1989 وتقديرا لإسهامه المخلص لقضية حقوق الإنسان فى مصر منحته مؤسسة ريبوك جائزتها السنوية لحقوق الإنسان فى 1992 التى تسلمها فى الولايات المتحدة . وقد قام هشام بإستخدام مبلغ الجائزة ( 25000 دولار ) بالتعاون مع مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف لتأسيس مركز المساعدة لحقوق الإنسان .
وفى الخمس سنوات الأخيرة لعب هشام دورا بارزا فى كافة معارك حقوق الإنسان فى مصر من خلال موقعه كمدير للمركز ، كان ضمنها معركة قانون الصحافة ( القانون 93 ) وقضية نصر أبو زيد الأستاذ الجامعى الذى إتهمه الإسلاميون المتشددون بالردة وطالبوا بتطليقه من زوجته المسلمة .
وفى وقت قصير أصبح مركز المساعدة القانونية لحقوق الإنسان بفضل الحضور الفاعل لهشام مبارك وتدخل المركز السريع والمباشر فى كافة قضايا حقوق الإنسان والمجتمع المدنى أحد أبرز المنظمات الأهلية العاملة فى مجال حقوق الإنسان بل وعلى خريطة المجتمع المدنى فى مصر بشكل عام .
وفى ذات الوقت عمل هشام على تكوين نفسه كأحد الباحثين المتخصصين فى قضية جماعات الإسلام السياسى . وقد كان أهم أعماله فى هذا المجال كتابه ” الأرهابيون قادمون ” الذى نشرته دار المحروسةعام 1996 . وله أيضا العديد من المقالات فى هذا الموضوع . كما أنه كان أحد المصادر الهامة عن الإسلام السياسى التى يلجأ إليها العاملون فى الصحافة المحلية والعالمية .
ولم يكن هذا الثراء على المستوى المهنى وحده كل ما حملته تلك السنوات الأخيرة من حياة هشام فقد شهدت أيضا قصة حب وزواج هشام مبارك ولميس النقاش ومولد إبنهما زياد . وحين أسترجع صورة هشام الآن أذكره وأفتقده كإبن البلد ، إبن المرإة التى كانت تخفى منشوراته السياسية فى أوانى طهيها والتى تصدت عزلاء لضباط الأمن حين جاءوا إلى المنزل بحثا عن إبنها . سوف نذكر الإنسان الذى كان أبدا موجودا عندما تحتاجه والذى لم يحمل مرارة لمن هاجموه ولكنه اكتفى بالدهشة ، الإنسان الذى كان على استعداد دائما لافتراض حسن النية .