من إسهامات هشام مبارك

Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter

حكايات عن التعذيب

من أرشيف المحاكم

اليسار العدد السابع عشر يوليو 1991

بدأت يوم الأتنين10 يونيه الماضة محاكمة المتهمين بإغتيال الدكتور ” رفعت محجوب ” .

وكالعادة فى القضايا السياسية خلال السنوات العشر الأخيرة ، طالبت هيئة الدفاع بطلان اعترافات المتهمين لكونها وليده التعذيب والإكراه البدنى والمعنوى .

فما هى حكاية التعذيب فى مصر …؟

وهل هو حقيقة أم سلاح يخفى المتهمون جرائمهم خلفه ؟ هذا ما نحاول الإجابة عنه فى كل الصفحات التالية :

كان التعذيب شائعا ومشروعا فى عصور الظلام السياسى … ويحفل سجل التعذيب بأشكال وأنواع بشعة ضد المتهمين المشتبه فيهم بارتكاب الجرائم مالحملهم على الأعتراف . وفى العصور الوسطى أخضع المتهمون لاختيارات عسيرة انتظارا لبيان ” الحكم لله ” فى شأنهم… كأن تقيد يد المتهم اليمنى إلى قدمه اليسرى ثم يلقى به فى ماء نهر أو حوض ماء فإذا غرق المتهم ، كان دليلا على إدانته ، أما إذا طفى على السطح رغم ذلك فهو بركاء وقد أنقذه الرب لبراءته.

وفى فرنسا إبان عهد ” لويس الرابع عشر ” ــعام 1670 ، كان القانون ينص صراحة على وجوب سؤال المحقق للمتهم ثلاث مرات للحصول على اعترافه .. مرة قبل التعذيب وثانية أثناء التعذيب وثالثة بعد وقف التعذيب .

ولكن ومع تقدم الحضارة الإنسانية أصبح التعذيب مدانا ومجرما دوليا وإنسانيا ، وفى غلب الدساتير والقوانين فالإعلان العالمى لحقوق الإنسان (1948) بنص مادته الخامسة…”

لا يجوز إخضاع أى فرد للتعذيب أو العقوبة أو معاملة قاسية أو غير إنسانية أو مهنية “.

وتنص الأتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية (1966) فى مادتها السابعة .. ” ولا يجوز إخضاع أى فرد للتعذيب أو العقوبة أو معاملة قاسية أو فير إنسانية أو مهينة..”

وفى مجموعة قواعد الأمم المتحدة الخاصة بالحد الآدنى لمعاملة السجناء (1957) تنص فى المادة 31… ” تحظر العقوبة البدنية والحبس فى زنزانة مظلمة ، وجميع ضروب العقوبة القاسية أو اللأنسانية أو المهينة حظرا تاما كجزاءات تأديبية ”

وفى المدونة الخاصة بقواعد السلوك للموظفين المكلفين بإنقاذ القوانين 1979.

المادة الخامسة لا يجوز لأى موظف من الموظفين المكلفين بإنقاذ القوانين أن يقوم بأى عمل من أعمال التعذيب ، أو غيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللأنسانية أو المهينة أو أن يحرص عليه أو أن يتغاطى عنه ، كذلك لا يجوزلأى من الموظفين المكلفين بإنقاذ القوانين أن يتذرع  بأوامر عليا أو بظروف إستثنائية … لتبرير التعذيب أو غيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللأنسانية أو المهينة.

ويعرف الأعلان ضد التعذيب الصادر عن الأمم المتحدة ( الجمعية العامة 9 ديسمبر 1975) التعذيب بأنه …” أي عمل ينتج عنه ألم أو عناء شديد ، جسديا كان أو عقليا ــ يلحق بشخص بفعل أحد الموظفين العموميين أو بتحريض منه ، وذلك لاغراض مثل الحصول من هذا الشخص أو شخص آخر على معلومات أو اعتراف ، أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه فى أنه ارتكبه ، أو تخويف أشخاص آخرين ..”

الجزاء الهميونى :

أما فى مصر ، ورغم أن الدستور ينص فى المادة 43..” كل مواطن يقبض عليه أو يحبس أو تقيد حريته بأى قيد ، يجب معاملته بما يحفظ كرامة الإنسان ولا يجوز إيذاؤه بدنيا أو معنويا ، كما لا يجوز حجزه أو حبسه فى غير الأماكن الخاضعة للقوانين الصادرة بتنظيم السجون . وكل قول يثبت أنه صدر من مواطن تحت وطأة شىء مما تقدم أو التهديد بشىء منه يهدر ولا يعول عليه …” فالتعذيب كان ولا يزال يمارس على نطاق واسع . ليس فحسب لحمل المتهم على الأعتراف بإرتكاب الجرائم ، ولكن كأسلوب ومنهج للتعامل مع المواطنين فى السجون والمعتقلات وأقسام الشرطة ، بل وفى أى تعامل بين بعض ضباط وجنود الشرطة والمواطنين.

ويحفل التاريخ المصرى بصور وأشكال وصنوف من التعذيب بدءا من قانون الجزاء الهميونى الذى طبق حتى نهاية القرن التاسع عشر ليعاقب بالصلب والجلد ” كل من صدع دماغ الباشا”..مرورا بالعهود الحديثة أيام ” إسماعيل باشا..صدقى” وإبراهيم عبد الهادى ” وثورة 23 يوليو حتى اليوم .

وقد أدانت محكمة النقض ” المصرية فى حكم شهير لها أصدرته عام 1932 ما تعرض له المواطنون فى ” البدارى ” من تعذيب على يد رجال الشرطة فى ظل حكومة إسماعيل صدقى عام 1930 . وسجل التاريخ جرائم التعذيب الوحشى لجماعة ” الإخوان المسلمين ” عام 1948 فى ظل حكومة ” إبراهيم عبد الهادى ” وكذلك جرائم تعذيب الشيوعيين والإخوان المسلمين فى أبو زعبل والقلعة وطرة خلال 23 يوليو .

ولكن ما نشهده هذه الأيام منذ اغتيال السادات فى أكتوبر 1981 وتولى حسنى مبارك للسلطة ، أمرا مغايرا تماما ، فمصر تعيش موجة تعذيب عمياء مجنونة ضد السياسيين ، وضد المواطنين العاديين ..

وكان أول ضحايا هذه العاصفة الهوجاء. عناصر المتهمين بالإنتماء إلى التنظيم الذى نفذ عملية اغتيال السادات .

ففى خلال عامى 1981 و 1982 . وعلى مدار شهور طويلة ، تعرض المتهمون فى تنظيم ” الجهاد لتعذيب واسع النطاق ، طال من شارك فعلا فى التنظيم وفى ارتكاب الجرائم كما طال أبرياءقبض عليهم صدفة نتيجة شبهات أو صدفة ، ولم يشاركوا قط لا فى التنظيم ولا فى الأحداث التى اجتاحت مصر عقب اغتيال السادات .

روتين التعذيب :

لقد أوضحت قضية تنظيم الجهاد وحيثيات الحكم الصادر فيها القاعدة التقليدية التى تعتمدها أجهزة الأمن .. وتتمثل فى تجميع الأدلة وعلى الأصح اصطناعها وتلفيقها كأسلوب سهل فى تحقيق القضايا السياسية والعنصر الأساسى فى هذه الأدلة المصطنعة يقوم على انتزاع اعترافات صحيحة أو كاذبة من المتهمين تحت تأثير التعذيب البشع الذى يتعرضون له .

والنتيجة انهيار الأدلة الملفقة ومن بينها الأعترافات التى يستبعدها القضاء لأنها وليدة إكراه وتعذيب ومن ثم التشكيك فى باقى الأدلة ” الحقيقية ” الأمر الذى آدى بالفعل إلى تقوية موقف متهمين قد يكونون ارتكبوا حقا هذه الجرائم أو تلك .

فى هذا السياق يمكن تفسير صدور أحكام البراءة ل 191 متهما ( وهو عدد ضخم من أصل 302 متهما فى قضيةتنظيم الجهاد ( عام 1981 ) فقد تضاربت اعترافات المتهمين وثبت أن أغلبها نتيجة للتعذيب .

وقد أشارت حيثيات الحكم فى هذه القضية إلى أنه ” فى العصر الحديث تخلص الأستجواب من فكرة التعذيب بعد أن سادت حقوق الإنسان وصدرت إعلانات هذه الحقوق التى حذرت من تعذيب المتهم وأكدت هذا المعنى الأتفاقيات الدولية للحقوق المدنية والسياسية… لأن الهدف من الإجراءات الجنائية ليس هو كشف الحقائق بعيدا عن احترام حرية المتهم .. مما يتعين معه احترام حريته وتأكيد ضماناتها فلا قيمة للحقيقة التى يتم الوصول إليها على مذبحة الحرية لأن الشرعية التى يقوم عليها نظام الدولة تتطلب حماية الحرية من السلطة والقانون الذى تخضع له الدولة يكفل احترام الحريات بقدر ما يعمل على معاقبة المجرمين . إذن فتغليب جانب السلطة والعقاب على جانب الحرية والضمانات ، ليس إلا افتئات على الشريعة وخروجا على أهداف القانون ، من أجل ذلك يتعين أن يكون الاستجواب نزيها لمعرفة الحقيقة ” .

وتمضى المحكمة فى حيثياتها لتؤكد أنه ” ثبت لدى المحكمة على وجه القطع واليقين ، من أقوال المتهمين المؤيدة بالتقارير الطبية ، ومن تأخر عرضهم على النيابة العامة ..ومن ظروف القبض على المتهمين ، وعدم وجود معلومات مسبقة لدى أجهزة الأمن … أن أجهزة الأمن اعتدت على غالبية المتهمين وقامت بتعذيبهم وأحدثت ببعضهم إصابات خطيرة استدعت نقلهم إلى المستشفيات العامة ومنها مستشفى الشرطة .

وكان الغرض من هذا الاعتداء الحصول على إقرارات من المتهمين بالجرائم التى وقعت وظروف وقوعها والمشتركين فيها..

لذلك قررت المحكمة استبعاد ” الدليل المستمد من أقوال من ثبت الاعتداء عليه من المتهمين.. لأنها وليدة إكراه مادى ومعنوى وليست وليدة إرادة حرة ”

وبعد هذا الحكم القاسى على أجهزة الأمن الذى كان عنوانا على فشلها ودلل على عقم أسلوبها فى تحقيق القضايا السياسية .. هل توقفت عن اقتراف جرائم التعذيب ؟

الإجابة يمكن الوصول إليها من خلال قراءة فى أرشيف المحاكم لعقد من الزمان فى الفترة من 81ــ1991 .

شيوعيون … وإسلاميون :

نستهل هذه القراءة بالقضية رقم 78 لعام 1983 ” الحركة الشعبية ” المعروفة إعلاميا بالتنظيم الشيوعى المسلح . ففى هذا العام أعلنت أجهزة الأمن فى مانشتات نبأ القبض على تنظيم يعد كوادر للكفاح المسلح . وبعد جولة من التحقيق مع هذه الكوادر فى مقر أمن الدولة بلاظوغلى اعترفوا تفصيليا وتم تقديمهم للمحاكمة .. فكيف جرت هذه التحقيقات ، وما هى الأساليب التى اتبعت فيها ؟

نستمع مرة أخرى إلى حكم القضاء حيث تشير حيثيات الحكم إلى أن المحكمة أهدرت ” اعترافات بعض المتهمين “.. لأنه لم يكن المناخ الذى جرت فيه التحقيقات مناخ حرية واختيار إنما كان مناخ تعذيب إكراه ..” أن هذا التعذيب أثبتته التقارير الطبية الشرعية..

وأضاف الحكم إلى أن جميع المتهمين : ” أجمعوا على أنهم تعرضوا للتعذيب فى مباحث أمن الدولة لحملهم على الأعتراف وقد ناظر المحقق ما بهم من إصابات حيث وجد بمحمود كدمة بالقدم اليمنى وسحجات بالزراعين الأيمن والأيسر فى أماكن متفرقة ووجد بأحمد التونى كدمات بالجانب الأيسر من جسمه وفى منتصف ظهره وبأعلى زراعه الأيمن ..”

وأشار الحكم إلى أن المتهمين ” قد أدلوا باعترافات وأقوال فى تحقيقات نيابة أمن الدولة العليا ثم عادوا جميعا فعدلو عنها مقررين أنهم تعرضوا لصنوف التعذيب المادى والنفسى على أيدى ضباط مباحث أمن الدولة إبان اعتقالهم بسجن القلعة وأن أقوالهم واعترافاتهم وليدة إرادة حرة..”

وأضاف الحكم : ” وفى ضوء ما تقدم جميعه فإن المحكمة لا تطمن إلى الاعترافات المنسوبة للمتهمين جميعا فى التحقيقات وتهدرها ولا تعول عليها وتستبعد ما ساقته نيابة أمن الدولة ..” ومن ثم برأت المتهمين من تهمة التنظيم .

وفى عام 1986 احترقت عدة محلات لبيع شرائط الفيديو بالأسكندرية بفعل فاعل . ولان الجماعات المتطرفة قد دأبت على مهاجمة هذا النوع من النشاط التجارى فى منشوراتها باعتبارها ” رجسا من عمل الشيطان ” فدارت شبهات أجهزة الأمن حول عناصر من هذه الجماعات كفاعلين لهذا الجرائم وبعد مضى فترة قصيرة على الحرائق التى نشبت فى هذه المحلات أعلنت الصحف نبأ القبض على المتهمين وأعلنت أنهم ينتمون إلى الجماعة الإسلامية.

وبعد فترة من القبض على هؤلاء المتهمين قدمتهم أجهزة الأمن إلى المحكمة وكانت هذه الفترة كافية لتمارس الأجهزة دورها المعتاد مع المتهمين . ولم يكن هذذ الدور سوى إجبار المتهمين على الأعتراف بإرتكابهم لهذه الجريمة باتباع أساليب الدرجة الثالثة وأهمها التعذيب .

وقد أشار بعض المتهمين إلى ” أنهم تعرضوا خلال استجوابهم من قبل النيابة للتعذيب بما فى ذلك الضرب ” . وإدخال عصى أو إصبع فى ” الشرج ” وبعد أن تيقنت المحكمة من التعذيب الذى تعرض له المتهمون قضت بإهدار اعترافاتهم التى وصفها الحكم بأنها ” صدرت عن إرادة مشوبة بالقهر جافتها الحرية المطلقة فى التعذيب …”

3ــ أحكام فى عام :

وفى قضية أخرى مشابهة تتعلق أيضا بحرق محلات الفيديو لكنها فى إمبابة هذه المرة عام 1986 ، ألقت مباحث أمن الدولة القبض على أربعة أشخاص من الجماعة الأسلامية وكان من بين التهم الموجهة إليهم تهمة تشكيل منظمة غير مشروعة إلى الإحاطة بالمبادىء الأساسية للدولة !! وإشعال النار فى محلات الفيديو . وقدموا إلى المحاكمة تصحبهم اعترافاتهم التفصيلية نتيجة التعذيب .

وقد قضت المحكمة أيضا ببراءة جميع المتهمين فى القضية استنادا إلى أن ” الاعتراف المنسوب للمتهمين قد يكون فى اعتقاد المحكمة وليد إكراه ويجب إطراحه وعدم التعويل عليه كدليل من أدلة الدعوى ..”

ولم يكن عام 1990 أسعد حظا من الأعوام الماضية التى شهدت العديد من الأحكام القضائية التى فضحت سلوك أجهزة الأمن من تعذيب المتهمين لحملهم على الأعتراف فخلاله صدرت 3 أحكام كان أشهرها على الأطلاق الحكم الذى أصدره المستشار ” سعيد العشماوى ” فى قضية التنظيم الناصرى ففى هذه القضية وعلى الرغم من جولات التعذيب العديدة التى تعرض لها المتهمون فلم تسفر سوى عن إجبار المتهم الثالث جمال الدين منيب ” على الإدلاء باعترافات ضد المتهمين الآخرين دحض كافة الأساليب التى دأبت الأجهزة على استعمالها فى تحقيق القضايا السياسية .. حيث أشار إلى أنه ” عن اعترافات المتهم الثالث فى تحقيقات النيابة فإن هذه الأعترافات لا تشق إلى يقين المحكمة سبيلا ولا تجد إلى ضميرها طريقا فتعزف عنها المحكمة غير مطمئنة لها .. فقد جاء فى التقرير الطبي الشرعى بأن بالمتهم آثارا إصابية..”

وأشار لحكم إلى كثير من المتهمين قد ذكروا ” وقوع تعذيب عليهم من ضباط مباحث أمن الدولة كان بعضه تعذيبا ماديا.. ان هذا التعذيب المادى وصل الى حد قطع خشبية فى دبر بعض المتهمين..”

واستصرخ الحكم الضمير الإنسانى حين أشار إلى أن : ” يقين المحكمة ليفزع وضميرها يجزع وهى ترى أن أى متهم قد تعرض للتعذيب المادى والنفسى والعقلى ويزداد الفرع ويتضاعف الجزع إن حدث التعذيب بصورة وحشية فظيعة كوضع قطع خشبية فى دبر المتهمين.. ولا تجد المحكمة فى عصر حقوق الإنسان وزمن حرية الوطن والمواطنين وصفا ملائما تصفه به ولا تريد أن تتدنى لتصفه بوصفه البشع غير أنها ترى فى التعذيب عموما عدوانا على الشرعية من حماة الشرعية واعتداءا على حقوق الإنسان ممن واجبه الحفاظ على حقوق الإنسان ..”

أما الحكمان الثانى والثالث اللذان صدرا عام 1990 فيتعلقان بأحداث عين شمس وما تلاها من اعتداءات على عدد من ضباط الشرطة عقب اقتحام أجهزة الأمن لمعاقل الجماعة الإسلامية هناك فى عام 1989 . وقد قدمت أجهزة الأمن 14 متهما فى القضيتين 2731 سنة 89 ، 2730 سنة 89 للقضاء ..

وقد أشار الحكمان إلى أنه : ” وقد ثبت وجود عديد من الإصابات ببعض المتهمين .. وقد ثبت من مناظرة النيابة فى كثير من الأحيان ، وجود إصابات بالمتهمين كما ثبتمن التقرير الطبى الشرعى الواقع على صالح سعيد ـــ من المتهمين ــ أن به إصابات تحدث وفقا للتصوير الذى قال به.. كما ثبت من التقرير الطبى الشرعى على المتهم عشرى محمد السيد أنه به إصابات تحدث من كرباج “..

وأضافت المحكمة : ” وحيث إن الثابت من أوراق الدعوى أن جميع من سئلوا فيها قد قرروا بوقوع اعتداءات وتعذيب عليهم تتراوح بين الصفع والركل والضرب والصعق بالكهرباء لحملهم على الإدلاء بأقوال معينة “.

وأشارت المحكمة إلى أنه : ” وإن كان الاعتراف يطلق عليه أنه سيد الأدلة إلا أنه دليل تحيط به الشبهات بطبيعته لمجافاته للوضع الطبيعى للأمور إذ أنه باعتراف المتهم يكون قد قدم دليل إدانته لنفسه فكيف يمكن تفسير إصرار أجهزة الأمن على اقتراف جريمة التعذيب رغم يقينها بأنها السبب فى تبرئة المتهمين ؟!

وكيف نفسر إصرار وزراء الداخلية المتعاقبين ــ ومعهم رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ــ على إنكار وقوع جريمة التعذيب ؟

وأين دور النيابة العامة فى حماية المتهمين من التعذيب ؟

وفى النهاية هل يمكن منع التعذيب ؟ أسئلة تحتاج منا إلى إجابات فى مرات قادمة .

—————————————————————————————————

مسئولية النيابة العامة فى انتشار ” التعذيب “

اليسار العدد الثامن عشر أغسطس1991

فى عام 1989 ، وبعد سلسلة من تقارير منظمات حقوق الإنسان حول تفشى ظاهرة التعذيب فى المعتقلات والسجون وأقسام الشرطة المصرية ، دعت ” لجنة حقوق الإنسان ” بالأمم المتحدة ” الحكومة المصرية لمناقشة أعمال التعذيب التى تجرى فى مصر .

ووقع اختيار السلطات المصرية على مساعدة النائب العام ( فى ذلك الحين ) المستشار رجاء العربى ( النائب العام الحالى منذ شهر يوليو 1991 ) لحضور هذه المناقشة . وكان اختيار له دلالة . فالنيابة العامة والتى يرأسها النائب العام ومساعدوه تمثل ــ أو هكذا يفترض ــ الضمانة ضد انتهاك حقوق الإنسان والحماية للمتهمين ضد أى تعذيب بدنى أو معنوى ، ومن ثم يستحيل أن تقر بوقوع  التعذيب فى الأمم المتحدة ، والا سجلت على نفسها تقاسعها عن أداء أهم واجباتها .

كذلك فالمستشار ” رجاء العربى ” كان قريبا جدا طوال خمسة عشر عاما من قضايا آمن الدولة ، وهى أكثر القضايا التى يثار حولها الاتهام بالتعذيب . فطوال هذه الفترة عمل وكيلا لنيابة أمن الدولة ، فرئيسا لها فمحاميا عاما ، فمحاميا عاما أول . وحتى عندما عين مساعدا للنائب العام للوجه القبلى انتدب لنيابة أمن الدولة لحين انتهاء المحاكمات فى عدد من القضايا التى أشرف على تحقيقها ، واحتفظ بمكتب له فى مبنى نيابة الدولة العليا . وفى خلال مرافعاته العديدة طوال هذه السنوات ، كان قاطعا عنيفا وفى نفى وقوع أى تعذيب على أى متهم فى قضايا فى قضايا أمن الدولة ، واشتهر بضراوته فى الهجوم على المتهمين من اليمين واليسار والوسط ، بل وعلى هيئات الدفاع ولجان الحريات بنقابة المحامين . وكانت نيابة أمن الدولة هذه السنوات تعتمد على  مذكرات و تحريات مباحث أمن الدولة ــ الخصم المتهم بالتعذيب ــ فى صياغة قرارات الأتهام فى يسر واستسهال شديد ، ورغم أن أحكام القضاء درجت على التشكيك فى جديتها واستبعادها كدليل أو قرينة . ولم تشرع النيابة فى التحقيق فى بلاغات التعذيب التى أثبتها المتهمون ودفاعهم فى بلاغات ومحاضر النيابة .

لذلك لم يكن غريبا أن يقول ممثل الحكومة المصرية أمام لجنة حقوق الإنسان فى الجلسة المقررة لمناقشة تقرير مصر .

” إن التعذيب لا يشكل ظاهرة عامة فى مصر . وإن مزاعم التعذيب تمثل حالات فردية يجرى معاقبة من يثبت إدانته فى أى منها وفقا للقانون …”

والإجابة لفرط غرابتها لا تحتاج إلى تعليق .

فهل هناك من يصدق خلال السنوات العشرة الماضية ، أن التعذيب فى مصر لا يمثل ظاهرة عامة ؟!

وهل صحيح أن النيابة لا تعلم بأن التعذيب يمارس ــ يوميا ــ على نطاق واسع ، فى المعتقلات والسجون وأقسام الشرطة ؟!

وهل حقيقة يعاقب من تثبت إدانته بإرتكاب جريمة التعذيب ؟!

أدلة من النيابة :

فى العدد الماضى من اليسار ( العدد السابع عشر ــ يوليو 1991 ) وعلى الصفحة التاسعة ، عرضت لعديد من وقائع التعذيب الثابتة من أرشيف المحاكم . ومع ذلك ، وحتى لا يقول أحد ” لم أكن أعلم ” أسوق إليهم ــ ومن أوراق النيابة ذاتها ــ نماذج لتحقيقات تمت فىالنيابة العامة فى وقائع التعذيب ، ولم يتصرف فيها بعد ، رغم مرور أعوام وأعوام .

تحقيق نيابة أمن الدولة فى المحضر رقم 9446 عام 1981 فى 21/12/81 حيث أثبتت النيابة آثار التعذيب على أجساد مجموعة من المعتقلين اليساريين الأعضاء فى حزب التجمع فى سجن المرج نتيجة الضرب بالسياط .

ــ ناظرت النيابة العامة آثار التعذيب على جسد المتهم ” حافظ أبو سعدة ” المتهم فى محضر التحقيق رقم 496 عام 1987 حيث تعرض على مدار أسبوعين لتعذيب بشع فى مقر مباحث أمن الدولة ” فرع الجيزة ” بشارع جابر ابن حيان فى الدقى .

ــ وآثار التعذيب التى أثبتتها النيابة فى محاضرها على جسد المتهم ” نصر سيد محمود على كروم ” فى محضر التحقيق رقم 412/1986 . حيث تعرض للتعذيب فى طره وقررت النيابة عرضه على الطب الشرعى ثم أعيد تعذيبه مرة أخرى بعد قرار النيابة كنوع من العقاب .

ــ تحقيقات نيابة أمن الدولة مع قيادات اضراب مصنع الحديد والصلب فى أغسطس 1989 حيث ناظرت آثار التعذيب على كل من ” مصطفى نايض ” عضو مجلس الشعب حاليا ومحمود مصطفى وغيرهم .

ــ تحقيقات النيابة مع المتهمين فى محضر التحقيق رقم 481 عام 1989 والمعروفة باسم قضية حزب العمال الشيوعى وأثبت النيابة آثار التعذيب على ما لايقل عن عشرة متهمين تعرضوا للتعذيب فى سجن أبو زعبل فى أغسطس من ذات العام .

ــ ناظرت النيابة آثار التعذيب على جسد الصحفى خالد الشريف الذى تعرض للتعذيب على مدار أسبوع فى أغسطس 1990 .

ــ تحقيقات النيابة مع المتهمين فى قضية اغتيال رفعت المحجوب التى أثبتت فيها وبالتفصيل آثار التعذيب البشع على المتهمين كما تعرض عدد من الشهود أيضا لتعذيب مشابه مثل زوجة المتهم الأول ممدوح على يوسف وزوجة المتهم الثامن عبد الناصر نوح .

وأحكام قضائية أخرى :

بالإضافة إلى أرشيف النيابة ، المتخم بوقائع التعذيب ، هناك أيضا أحكام قضائية عديدة أثبتت تعرض المتهمين للتعذيب وكان مصيرها أيضا أرشيف النيابة !

ومن بين هذه الأحكام :

الحكم فى قضية الحركة الشعبية المعروفة إعلاميا باسم التنظيم الشيوعى المسلح حيث طالبت المحكمة النيابة العامة بالتحقيق فى وقائع التعذيب التى تعرض لها المتهمون وتقديم الضباط المتورطين إلى المحاكمة .

الحكم فى قضايا الفيديو بامبابة و الأسكندرية عام 1986.

الحكم فى قضية أحداث عين شمس عام 1990 .

الحكم فى قضية التنظيم الناصرى المسلح عام 1990 .

” وشهود دوليون ”

وبالرغم من كل هذه الحقائق ، فالنيابة العامة تنفى وتؤكد أن التعذيب لا يمثل ظاهرة عامة فى مصر . وللحقيقة فليس هذا موقفا خاصا للمستشار رجاء العربى . فالنائب العام السابق المستشار ” جمال شومان ” يقول فى مجلة المصور فى 26 يناير 1990 ” إن حالات التعذيب كجناية ، هى حالات فردية محدودة ، وليست بالكثرة التى يتصورها البعض . أما الحالات الآخرى فإنها تندرج تحت باب استعمال القسوة وتعامل فى القانون كجنح ”

والأمر الذى يدعو للآسى أنه بينما النيابة العامة التى تعلم علم اليقين باستشراء ظاهرة التعذيب فى مصر ، أو تحولها إلى حوادث فردية . فإن منظمات حقوق الإنسان الدولية ، المشهود لها بالدقة والحياد تؤكد على حقيقى انتشار جريمة التعذيب .

فتقارير منظمة العفو الدولية تشير إلى أن ” تعذيب المعتقلين السياسيين وإساءة معاملتهم يمارسان على نطاق واسع ،والأدلة على استخدام التعذيب فى مصر ، آخذة فى الازدياد ..” .

وفى السياق ذاته أضحت المنظمة المصرية لحقوق الإنسان أن ” التعذيب قد أصبح على درجة من الشيوع تبرر القول بأنه يمثل سياسة منهجية من جانب أجهزة الأمن فى مصر ..”

ومرة أخرى تعود بنا التقارير الدولية إلى مسئولية النيابة العامة ، ففى وثائق الدورة السابعة والأربعين ( عام 1990 ) للجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة يشير مقرر التعذيب فى اللجنة عن الأوضاع فى مصر ..”

” إن شكاوى كثيرة عن التعذيب قد أرسلت إلى مكتب النائب العام .. ولكن النتيجة كانت فى العادة واحدة ، وهى عدم التحقيق أو الأمتناع عن التعليق ” .

ويقول تقرير العفو الدولية عن ” التعذيب والأعتقال التعسفى فى مصر ” إن شكاوى عديدة عن التعذيب تعززها تقارير رسمية من الطب الشرعى…

لم يتم فى ى من هذه المزاعم تحقيق دقيق وفعال على الأطلاق وأن التعاقس عن إجراء تحقيقات فى إدعاءات بهذه الكثرة أمر قد يفسر بأنه تغاض رسمى عن تعذيب من يشتبه فى أنهم خصوم سياسيون للحكومة .

المتهم خارج القفص :

ويؤكد الشكوك التى أثارها مقرر لجنة حقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية عن تقاعس النيابة فى تحقيق شكاوى التعذيب للسياسيين وتقديم الضباط المتورطين فيها حقيقة أن النيابة لم تقدم سوى قضية وحيدة يتيمة خلال العشر سنوات الماضية إلى المحاكمة اتهمت فيها 44 ضابطا بتعذيب المتهمين فى قضية تنظيم الجهاد بعد أن طالبها القضاء بضرورة تحقيق هذه الشكوى .

وحتى هذه القضي الوحيدة وكما يقول ” نبيل الهلالى ” المحامى قد اكتفت فيها النيابة بتحقيق شكلى وصفته محكمة جنايات القاهرة فى حكمها الصادر فى 30/6/88 ” بالسطحية وعدم الكفاية ” . وعلى الرغم من ذلك لم تقم النيابة العامة بالطعن فى حكم البراءة بالنقض رغم ما فى الحكم من عوار قانونى .

ليس هذا فحسب فهناك أيضا 22 بلاغا تحت الاستيفاء منذ عام 1985 لمجموعة آخرى من المجنى عليهم فى ذات القضية ــ قضية الجهاد ــ ضد مجموعة أخرى من الضباط المتهمين لم تتحرك فيها النيابة بعد .

جريمة النظام :

ويظل التساؤل المثار منذ البداية .. عن تقاعس النيابة فى تقديم الضباط المتورطين فى عمليات التعذيب .. يظل حائرا .. بلا إجابة .

وتقول مصادر مقربة من النيابة أن المشكلة ليست تقاعس النيابة عن أداء دورها أو تخاذ لها فى مواجهة الضباط المتورطين باعمال التعذيب إذ أن النيابة ليست لها مصلحة فى أن يظل الجناة ــ فى جرائم التعذيب من الضباط ــ مطلقى السراح . لكن المشكلة اساسا قانونية . فيجب على ضحايا التعذيب أن يحدوا أشخاص الضباط الذين ارتكبوا أعمال التعذيب وهو ما لا يحدث عادة . لأن عمليات التعذيب للضحايا عادة ما تتم وهم معصوبى الأعين بواسطة غمامة تضع على عيونهم ومن ثم لا يدرون من القائم على تعذيبهم وهو أمر يصعب من مهمة النيابة من تحقيق شكاويهم .

و ” نبيل الهلالى ” المحامى له رأى مختلف . ويعلق على ذلك قائلا : ” من غير المقبول التعامل مع جرائم التعذيب كما لو كانت جريمة فردية ارتكبها هذا أو ذاك من رجال الشرطة . بحيث يتطلب الحساب والعقاب عنها معرفة شخصية الجانىبالذات .. الذى لا يعدو أن يكون مجرد أداة منفذة . فالتعذيب ليس جريمة فرد . ولا حتى جريمة جهاز . إنه فلسفة حكم وسياسة نظام . لذلك يظل المسئول الأول والأساسى عن جرائم التعذيب هو النظام السياسى الذى يصدر القرار السياسى بممارسة التعذيب والذى يزودالدلادين بالأدوات والأجهزة اللأزمة ويهيىء لهم الأمكنة والاقبيه حيث يمارس التعذيب ” .

تواطؤ وكيل النيابة :

هنا يلتقط ” عادل عيد ” المحامى الخيط وبوضح قائلا ” إن الشرطة هى الاداة التى تستخدمها الأنظمة الشمولية للقهر والقمع وإخماد الأصوات الشريفة وكبت الأراء الحرة والبطش بالمعارضين ، وتلفيق الأتهامات ضدهم وتعذيبهم داخل السجون لانتزاع الاعترافات منهم .

وحتى تتمكن الشرطة من أداء هذا الدور القبيح فى خدمة النظام فلابد أن تكون طليقة اليد فى عملها وإجراءاتها فلا يعوقها قانون ولا دستور و لا تخضع لرقابة من النيابة أو لمساءلة أمام القضاء .

ومن هنا والحديث لا يزال لعادل عيد المحامى فإن جريمة التعذيب لا يرتكبها ضابط الشرطة أو المباحث وحده وإنما لابد له من شريك بالتواطؤ أو التستر هو وكيل النيابة المحقق !!

فالضابط لا يجرؤ عادة على تعذيب متهم إلا كان مطمئنا مقدما إلى موقف وكيل النيابة الذى سيمثل أمامه ذلك المتهم وجسده ناطق بآثار التعذيب “.

نقطة هامة أخرى يلقى عليها عادل عيد الضوء حين أشار إلى أن ” صدور القانون رقم 121 لسنة 1956 بتعديل المادة 63 من قانون الإجراءات الجنائية الذى بمقتضاه لم يعد يحق للمواطنين أن يحركوا الدعوى العمومية ضد ضباط الشرطة المتهمين بتعذيبهم ، بل بمقتضاه أيضا لم يعد يحق لوكيل النيابة نفسه تحريك الدعوى الجنائية ضد هؤلاء الضباط إنما لابد من استئذان رئيس النيابة على الأقل فى ذلك هذا القانون أعطى رجال الشرطة الإحساس بأنهم قد أصبحوا ذوى أصبحوا ذوى حصانة تحميهم وتحول دون مساءلتهم جادة وحقيقية مما شجع كثيرين منهم على إساءة معاملة المواطنين . خصوصا وأن النيابة العامة التى أصبح لها وحدها تحريك الدعوى الجنائية ضدهم كانت تتقاعس عادة إلا فى الحالات الصارخة عن تقديم رجال الشرطة إلى المحاكمة الجنائية أمام القضاء وتكتفى عادة بإرسال الأوراق إلى الجهة الإدارية لتوقيع الجزاء الإدارى المناسب التى تكون بدورها متعاطفة مع مرؤوسيها ولا توقع العقاب المناسب ”

القضاء يدين النيابة :

وقد يقول قائل : أن عادل عيد عضو مجلس أمناء المنظمة العربية لحقوق الإنسان أحد زعماء المعارضة وقد يتحامل على النيابة ويتهمها بالتواطؤ والتقاعس فى عمليات التعذيب وإلى هؤلاء نسوق شهادة ” شاهد من أهلها ” وهو المستشار ” سعيد عشماوى ” رئيس محكمة إستئناف القاهرة فى حكمه التاريخى فى قضية التنظيم الناصرى المسلح ” قضية رقم 2830 لسنة 1986 ” الصادر عام 1990 عن دور النيابة وموقفها من وقائع التعذيب التى تعرض لها المتهمون فى هذه القضية .

إذ يشير الحكم المذكور إلى أن ” المحكمة لاحظت فى هذه الدعوى أن المطاعن التى كانت توجه عادة إلى محاضر الضبط قد استطالت حتى وصلت إلى محاضر تحقيق النيابة العامة ، مثل الأتهام بعدم الحيدة وعدم إثبات كل الأقوال والوقائع والتهديد بالإيذاء ومجاملة رجال الضبط  وغير ذلك وهو أمر لابد أن يؤثر على العمل القضائى بأكمله إن استمر أو استشرى . و لا يقضى عليه ويحول دونه إلا أن تقوم بالمحققين ــ وكلاء النيابة ــ أنفسهم ضمانات أكثر تعصم محاضرهم ..”

وأضاف الحكم : ” إن المحكمة قد ساءها أن يصل التجريح إلى محاضر تحقيق النيابة العامة ويكون محمولا على أسباب لها فى الأوراق دليل ” .

احنا بنفوت :

وإذا ما بحثنا عن هذه الأدلة التى أشار إليها الحكم سنجدها حين أشار الحكم ذاته فى موضع آخر منه إلى المتهم الثالث الذى اعترف فى تحقيقات النيابة وقامت الدعوى على أساس هذه الأعترافات فى فترة لاحقة لأنها جاءت نتيجة تعذيبه .

وأوضح الحكم أنه عندما استدعى وكيل النيابة ــ المحقق ــ المتهم ليسأله عن التعذيب والضغط والإكراه الذى وقع عليه فحدثت من ثم بينه وبين المتهم مواجهة غير مسبوقة فى تاريخ القضاء ومواجهة غير معهودة فى سجل النيابة . إذا امتنع المتهم عن الكلام وطلب ندب قاض للتحقيق وواجه وكيل النيابة ــ المحقق ــ بأنه لم يثبت الإصابات التى كانت به عندما مثل للتحقيق فى أول جلسة وقال له ” مش مشكلة ” وأن وكيل النيابة المحقق هدده إذ أمسك بالقلم وقال له إن ” هذا القلم أبو 15 قرشا أقوى وأشد مما تتعرض له هناك ” أى وهو بين يدى ضباط مباحث أمن الدولة وأن وكيل النيابة ــ المحقق ــ كان يجامل هؤلاء الضباط إذ قال لأحدهم عن إجراء خاطىء فى عرض لبعض المتهمين ” احنا بنفوت ” وأصر المتهم من هذا التاريخ على كذب اعترافاته وأنها امليت عليه من ضباط مباحث أمن الدولة..”

النيابة .. ضابط شرطة :

أدلة أخرى أشار إليها الحكم عن المطاعن والشكوك التى طالت المحاضر تحقيقات النيابة حين أوضح : أن ضباط أمن الدولة قالوا للمتهم الثالث أثناء تعذيبه ” إن وكيل النيابة ــ المحقق ــ كان فى الأصل ضابط شرطة أى زميلا لهم ومن ثم خاصم وكيل النيابة المحقق وقال له إنه شريك فى تعذيبه وطلب إجراء التحقيق من جهة أخرى غير نيابة أمن الدولة..”

وأضاف الحكم : ” ومع هذه المواجهة العنيفة والمجابهة الحادة فإن وكيل النيابة ــ المحقق ــ لم يستشعر حرجا يتنحى به عن الأستمرار فى التحقيق ولم يجد رؤساءه فى هذا الوضع الشاذ ما يدعوهم إلى ندب آخر غيره يستكمل الاستجواب فينزع منه مواجهة غير مسبوقة ومجابهة غير محمودة..”

وآخر فقرة نقتبسها من السطور المضيئة فى هذا الحكم التاريخى هى قوله ” .. ومما يؤيد قول المتهم فى تقدير المحكمة أنه بادر فور عرضه على قضائه إلى الإنكار والشكاية من التعذيب .. وأن وكيل النيابة ــ المحقق ــ تصرف كما لو كان يمنع عن المتهم الاستعانة بمحام..”

إن هذه الحقائق تقطع بوقوع التعذيب فى مصر كظاهرة وتشير إلى مسئولية النيابة العامة فى استمرارها . والسؤال الآن .. هل يمكن منع التعذيب ؟ .

—————————————————————————————————

اغتيال مفكر

مجلة اليسار ــ العدد التاسع والعشرون ــ يوليو 1992

منذ صدور كتابه الأول ” قبل السقوط ” عن جماعات الإسلام السياسى عام 1985 وحتى وفاته.. مضت 7 سنوات .. أصدر خلالها 7 كتب .. ولقى مصرعه ب 7 رصاصات .. أطلق الجناة المنتمون لتنظيم الجهاد الرصاص عليه ،تنفيذا لفتاوى التنظيم واستجابة لتحريض مؤسسة الأزهر والكتاب والفقهاء المعتدلين !! ففى حادث الاغتيال ، تكاملت الأدوار بين المعتدلين والمتطرفين .

تلقى فرج فودة عشرات من خطابات التهديد بالقتل .. وتعرض لمحاولة اغتيال فاشلة منذ عامين تهشمت فيها سيارته تماما.. كان ثالث قائمة اغتيال أعدها تنظيم التوقف والتبين (الناجون من النار ) صاحب محاولات الأغتيال الفاشلة ضد حسن أبو باشا والنبوى اسماعيل ومكرم محمد أحمد .. وكان أول قائمة أعدها تنظيم الجهاد واغتيل بالفعل فى يونيه الماضى .

ومثلما كانت كتابات فرج فودة .. أول محاولة من نوعها اتسمت بالوضوح والشجاعة تحمل رؤية علمانية لمواجهة مطالب جماعات الإسلام السياسى بتطبيق الشريعة الإسلامية واقامة الدولة الدينية ، كان مصرعه أيضا أول إغتيال لكاتب ومفكر على يد خصومه السياسين لقد جسد فرج فودة بمصرعه علامة افتراق بين فترتين ، الأولى سادت فيها الاغتيالات المتبادلة بين الجماعات السياسية والمحتلين ورموز الدولة فى النصف الأول  من القرن . والثانية ستشهد اغتيال مفكرين وكتاب على يد جماعات الإسلام السياسى ، سيؤرخ التاريخ بدايتها باغتيال فرج فودة .. التساؤل المثار الآن .. لماذا كان فرج فودة ضيفا دائما على قوائم الأغتيال ؟ ولماذا اغتيل ؟؟

الإجابة فى كتابات فرج فودة ، فى قوة ردوده على دعاوى جماعات الإسلام السياسى .. ففى مواجهة دعوتهم لاتباع طريق السلف الصالح ، ودعوة الخلافة الإسلامية وإقامة الدولة الدينية التى ستحقق الاستقرار فى المجتمع .. كشف فودة من ( قبل السقوط ) عن معارك صدر الأسلام ، وهم الاستقرار . فأشار لمعركة ” الجمل حيث القتال بين على بن أبى طالب وصحبه فى جانب وعائشة زوجة الرسول وطلحة والزبير فى جانب ثان .. وتحدث عن ثورة الثائرين على عثمان بن عفان ومن بينهم خمسة من العشرة المبشرين بالجنة ، بسبب تصرف عثمان فى أموال بيت المال وإغداقه على أقاربه والمقربين منه وإضطهاده للصحابة ومن بينهم أبو ذر الغفارى . وأشار إلى قتل 3 من الخلفاء الراشدين ، حيث قتل عمر بن الخطاب على يد غلام مجوسى ، وعثمان بن عفان على يد الثائرين ومن بينهم محمد بن أبى بكر الصديق أول الخلفاء ،

وعلى بن أبى طالب على يد مسلمين متطرفين.. مؤكدا على أن الأستقرار و المجتمع المثالى ــ الداعية إليه جماعات الإسلام السياسى ــ لم يتحقق على مدى التاريخ الإسلامى ..

وأعلن فودة بوضوح رفضه لتطبيق الشريعة الإسلامية ” فاناضد تطبيقها فورا أو حتى خطوة خطوة … لأننى أرى أن تطبيق الشريعة لا يحمل فى مضمونه إلا مدخلا للدولة الدينية ” (كتاب حوارات حول الشريعة الإسلامية ) . رافضا هذه الدولة ، مستندا إلى ما حدث خلال الخلافة الراشدة فى عصر عثمان بن عفان .. ” أما دولة الخلافة التالية لها طوال 13 قرنا عدا 30 سنة فقدت صفة الرشد وأصبحت خلافة فقط . دون أن تكون رشيدة ــ لأن الشورى فيها غائبة وصاحب السلطة فيها يستطيع إن يفترى على الشعب ويلغى إرادته .. وخلال 90 سنة هى فترة الخلافة الأموية ، لم يحكم فيها بالدين الصحيح سوى سنتين ونصف لعمر بن عبد العزيز ، 9 شهور للمهتدى العباسى …”

وطالب فرج فودة جماعات الإسلام السياسى ” بإعطاء نموذج على ما يطالبونه به .. هل فى الجزيرة العربية … هل فى السودان .. هل فى إيران ؟”

( من المناظرة بين العلمانيين والإسلاميين فى معرض الكتاب ).

وأكد فودة أن الدولة الدينية لم تمثل أقصى درجات التسامح الدينى كما يزعم الإسلام السياسى .. للمسلمين أو غير المسلمين .. ففى الدولة الدينية أهين الأئمة الأربعة .. فأبى حنيفة فى أعوامه السبعين تعرض للتعذيب والضرب بالسياط فى عهد الخليفة المنصور .. الإمام مالك ضرب بالسياط أيضا فى نفس العهد وجروه من يده فانخلع كتفه ..، الإمام الشافعى تعرض للضرب فى المسيجد عقب انهاء دروسه حتى سقط مغشيا عليه ثم نقل إلى منزله حيث كان نهايته ..، الإمام ابن حنبل بعد خلافه مع الخليفة المأمون حول مسألة ” خلق القرآن ” أمر أتباعه بتقييد ابن حنبل مع تلميذه الشاب على بعير واحد وإرسالهما إليه ، فمات الشاب فى الطريق .. وتوفى المأمون قبل أن يصله ابن حنبل .. ولم يرحمه ذلك من العذاب ، فوضعه الخليفة المعتصم  فى السجن الكبير فى بغداد وظل يضرب بالسياط نحو عامين ونصف .. (قبل السقوط ).

وعن التسامح الدينى تجاه غير المسلمين فى الدولة الدينية ، قال فودة : إن المسيحيين تعرضوا للأضطهاد ، حيث فرض عليهم زى موحد ، ونحتت على أبوابهم صور القردة ؟؟ ومنعوا من ركوب الخيل .. مؤكدا على أن الدولة الدينية تعنى للمسحيين كابوسا مخيفا ، حيث الولاء الأساسى فيها للدين وليس للأرض أو القومية وهو ولاء مستحيل لهم . وفيها أيضا لاولاية للذمى وليس له تولى  المناصب التى يكون له فيها ولاية على غيره من المسلمين … وفيها تفرض الجزية على غير المسلمين ..” ( الطائفية إلى إين ) .

وفى مواجهة الدولة الدينية ؟ دعا إلى الدولة المدنية على أن تقوم على أسس علمانية ، يكون المرجع فيها الدستور والقانون وليس القرآن والسنة . وهذه الأسس تتمثل فى :

  • حق المواطنة هو الأساس فى الأنتماء ، بمعنى أننا جميعا ننتمى إلى مصر بصفتنا مصريين ، مسلمين كنا أم أقباط .
  • أن المصلحة الخاصة والعامة هى أساس التشريع .
  • أن نظام الحكم المدنى ، يستمد شرعيته من الدستور ويسعى لتحقيق العدل من خلال تطبيق القانون ويلتزم بمواثيق حقوق الإنسان . ( حوار حول العلمانية ).

رفض فرج فودة الإرهاب أيا كان نوعه أو مصدره ، ودعا إلى مقاومة القائمين عليه بعنف .. ولا فرق لديه بين قتل السادات ، أو قتل اسرائيلين على يد تنظيم ثورة مصر أو سليمان خاطر أو أيمن حسن . فلديه كلها أعمال إرهابية مدانة . ولعله أغضب بذلك ” اليمين” و ” اليسار “.

كان فرج فودة خصما فكريا عنيدا لجماعات الإسلام السياسى.. لذلك اغتالوه.. تلك هى الإجابة عن السؤال المثار فى أول هذه السطور .. لماذا اغتيل فرج فودة ؟ ولماذا كان ضيفا مستمرا على قوائم الإغتيال ؟ .

ومن سخرية القدر أن يتنبأ فرج فودة بإغتياله منذ عام 1985 .. ففى إهداء كتابه ” قبل السقوط” ( يقول : ” إلى ولدى ياسر الذى لم أدخر له إلا المخاطرة ”

وإذا كان معلوما لدينا الآن .. لماذا اغتالوه . فإن سيل علامات الإستفهام المحيطة بحادث الإغتيال لا تتوقف .. والسؤال الآن : من اغتاله ؟؟

الإغتيال فى الإسلام

فى علم الجريمة مبدأ يقول : ” فى الجريمة منفذ… ومحرض ” ينشطر السؤال أعلاه إذن إلى اثنين .. الأول من هو المنفذ ــ الفاعل ؟؟

والثانى : من المحرض ــ الداعى للأغتيال ؟؟

الفاعل ــ المنفذ للجريمة بات معروفا بعد أن ألقت الشرطة القبض على واحد من اثنين من الجناه متلبسا فى مكان الجريمة ، واعترف بانتمائه إلى تنظيم الجهاد.. وبرر ارتكابه لجريمة الاغتيال بفتاوى لأمراء التنظيم باغتيال القيادات العلمانية والفكرية .. وبالرجوع إلى الوثائق تنظيم الجهاد السرية ، نجد عنوان وثيقة ” مفهوم الاغتيال فى الإسلام ” تشير فى صفحة 21 إلى دعوة الأعضاء ” لتنفيذ عملية ضد من يتشدق بهجومه على الإسلام والمسلمين ليل نهار ويعلن أنه على استعداد لمناظرة  فلان ، وأن الإسلاميين ليس لديهم برنامج وأنهم لا يفهمون فى الإسلام شيئا ، لو تم تنفيذ عملية ضده لما تجرأ غيره على أن يقول بمثل قوله أو يقاربه ، فهؤلاء لم يجدوا رادعا يردعهم فتلذذوا بالخوض فى حرمات الإسلام ..” ( وثيقة مفهوم الإغتيال فى الإسلام )

ابن تيمية

وقد أصبح معروفا الشخص الذى تتحدث عنه الوثيقة فالذى طالب بعقد المناظرة ــ وعقدها بالفعل ــ فرج فودة وهو أيضا الذى يطالب الإسلاميين بصياغة برنامجهم ، حتى ضاق مأمون الهضيبى بمطلبه فى مناظرة معرض الكتاب فكلفه ساخرا ” بوضع برنامج الإسلاميين ” .

والهدف من الاغتيال حددته الوثيقة فى ” الردع لمن يحاربون الإسلام ويلقون الشبهات أمام تقدمه وانطلاقه لتحرير الأرض من الطواغيت والأصنام المعبودة من دون الله.. ”

وإذا تساءلت كيف يكفرون فرج وهو ينطق الشهادتين ، يحضرون لك فتوى ابن تيمية التى تؤكد ” أن القرآن والسنة والإجماع قد أثبت أنه يقاتل من خرج عن شريعة الإسلام وإن نطق بالشهادتين ..

عبد الناصر .. كافر

والجماعة الإسلامية الجهادية أو” تنظيم الجهاد ” كما هى معروفة إعلاميا ، لا تعتمد فقط على فتاوى ابن تيمية ، فهناك فتاوى أميرها العام الشيخ عمر عبد الرحمن . وللشيخ فتاوى عديدة ، فهو صاحب الفتوى الشهيرة باعتبار الرئيس السادات حاكما بغير ما أنزل الله وبالتالى فهو كافر وجب خلعه “، كما أفتى بأن الأديب نجيب محفوظ مرتد بسبب روايته ” أولاد حارتنا ” المحظورة منذ عام 1959 . وعندما كان الشيخ عمر إماما لمسجد بالفيوم ، أفتى فى سبتمبر عام 1970 بأن جمال عبد الناصر كافر لا تجوز الصلاة عليه . كما أفتى بتكفير عدد من القيادات الفكرية والعلمانية .

محاكم التفتيش

وإذا كان المسئول عن إغتيال فرج فودة تنظيم واحد هو ” الجماعة الإسلامية الجهادية ” فالمحرضون على قتله كثيرون .. هؤلاء الذين اتهموا فرج فودة ” بالردة والكفر والعداء للإسلام”..

تلك الاتهامات التى سهلت وحفزت الجناة على ارتكاب جريمتهم باعتباره عملا سيضمن لهم الجنة !!

فى مؤسسة الأزهر .. المؤسسة الرسمية الدينية .. تشكلت لجنة العلماء لمحاكمة أفكار فرج فودة.. مثلما شكلت الكنيسة فى العصور الوسطى محاكم التفتيش .. وأدانت اللجنة فرج فودة ووصفته بأنه ” لا دينى.. شديد العداوة لكل ما هو إسلامى .. ومارق..!! جاء ذلك فى بيان لعلماء الدين بمناسبة إعلان نشرة المدعى العام الاشتراكى عن إشهار حزب المستقبل ، متضمنا كشف بأسماء مؤسسيه واسم فرج فودة كوكيل للمؤسسين . فجاء البيان ليعترض على هذا الحزب مطالبا بعدم إشهاره .. والسبب كما جاء فى بيان العلماء ” إن اتجاه الحزب ــ ووكيله علمانى صرف .. والعلمانية تساوى كلمة اللادينية ” ومما يؤسف له ــ على حد تعبير العلماء ــ أن ” وكيل المؤسسين لهذا الجزب والكثيرين معه فى هذا الحزب المقترح يتبنون هذا الأتجاه ــ العلمانى ــ الذى يقوم على الدعوة إلى التخلص من هذا الدين وعزله مطلقا عن حركة المجتمع ..” ويتهم العلماء فرج فودة ” بأنه شديد العداوة لكل ما هو إسلامى .. ويفرط فى عداوته لتواجد الشعائر الإسلامية وظهورها فى ساحة الإعلام والسياسة ” وأخطر الاتهامات التى وجهت لفرج فودة هى ” التطاول على بعض أصحاب النبى وعلى الرموز الإسلامية وعلماء الأمة …”

واعتبر العلماء ” اتجاه الفكر العام لهذا الحزب ولجل الممثلين له لهو أشد خطرا على أمن الأمة وسلامتها ، لأنه يعادى فى حسها الدينى ..”!!

مارق و مرتد

هذا عن تحريض علماء الأزهر .. فماذا عن شيخه ؟؟

أمام نيابة أمن الدولة منذ عامين بلاغ من شيخ الأزهر ضد فرج فودة ، اتهمه فيه ” باهانة شيخ الأزهر ” وعدم ” سبق اسمه بلقب فضيلة ..” و ” إهانة الصحابة وسيل آخر من الاتهامات تنتهى بالتكفير ” ” الأهالى 18 يوليو 1991 ) وعليه أمرت النيابة مؤسسة الأهرام بمنع توزيع كتابيه ” النذير” و ” نكون أو لا تكون ” و لا يزال القرار ساريا حتى الآن .

الشيخ الغزالى عندما استضافه التليفزيون فى برنامج ” ندوة للرأى ” وسئل عن رأيه فى العلمانية . فأجاب : ” من ينادى بالعلمانية يعتبر مرتدا عن الأسلام ” … نتسأل : ما هو نصيب فرج فود الذى جلس على مقعد العلمانية بجوار الشيخ الغزالى الذى جلس على مقعد الإسلاميين فى مناظرة معرض الكتاب بين العلمانين و الإسلاميين … نقول ما هو نصيبه من هذه الفتوى ؟!.. مع ملاحظة أن حكم الإسلام فيه هو القتل .

مجلة الاعتصام ــ الصادرة عن الأخوان المسلمين ــ فى عدديها الرابع والخامس نشرت مقالتين لمهاجمة فرج فودة ، ووصفته ” بعدو الشريعة ” ؟ واتهمته بعبارة ما تزال الأيام تكشف لنا عن نوايا هؤلاء الذين لا يعرفون للدين حرمة ، أو لفكرطهارة ، أو لكلمة شرف ..”

الكاتب الإسلامى المعتدل فهمى هويدى وصف فرج فودة بأنه ” علمانى متطرف ” وينتمى إلى ” تنظيم الجهاد العلمانى “!!

هكذا استوت الاتهامات على نار هادئة … نار المتطرفين والمعتدلين … ولم يعد هناك فتوى غائبة أو شهادة منقوصة يحتاجها الجناة لتنفيذ جريمتهم بنفس راضية ..

فالأزهر يعتبره ” لا دينى .. مارق ”

والاعتصام تراه ” عدو الشريعة ” وهويدى وصفه ” بالعلمانى المتطرف ” والغزالى يرى “العلمانى مرتد ”

والإسلام حكمه فى ” المرتد القتل ”

والجناة نفذوا حكم الإسلام فقتلوه !! لتكتمل الأدوار بين الفاعل المتطرف .. والمحرض المعتدل

—————————————————————————————————

حرية الفكر والإبداع

بين رقابة الحكام .. وسيف الجماعات

اليسار العدد السابع سبتمبر 1990

فى عام 1911 صدرت لو ائح التياترات ؟ لتمثل قيدا على حرية الإبداع ، فبمقتضاها كان المسرح تابعا لوزارة الداخلية . فنصت هذه اللوائح على تواجد ثمانية جنود وشاويش داخل المسرح لتنفيذ أوامر مدير الشرطة .. وبعد هذا التواجد الأمنى أول محاولة للرقابة على الفن والإبداع ، مستندة إلى قانون فى القرن الحالى .

وبعد مضى ثمانين عاما ؟ لا يزال نفق الظلام يخيم على النشاط الثقافى والفنى ، ولا تزال حرية الفكر والإبداع تحلق فى قفص الرقابة اللعين .

و لاننا فى عصر ” ديمقراطية الأنياب ” فقد شاعت أنواع متعددة من الرقابة . فهناك الرقابة على الصحف ، وأخرى على المسرح والسينما والتليفزيون ، وثالثة على المطبوعات والكتب . وتتعدد أجهزة الرقابة فيوجد ” مكتب الصحافة ” فى وزارة الداخلية ، ” وإدارة الرقابة على المصنفات الفنية ” فى وزارة الثقافة ، ورقابة التليفزيون ، و إدارة البحوث والترجمة والنشر فى مجمع البحوث الإسلامية ، وتتعدد شخوص الرقباء ، فهناك الإشارات ذات اللون الأحمر و الأخضر للسيد صفوت الشريف ؟ وعساكر اللواء عبد الحليم موسى ؟ وصكوك المنع والمنح للمستشار حمدى سرور ؟ وعمامة الشيخ ” جذر” فى مجمع البحوث .

ولأن الرقابة داء ؟ مثل فيروس الكوليرا ؟ فلم تعد ممارستها قاصرة على أجهزة الحكام فى بلادنا ؟ بل انتقلت إلى طوائف من المحكومين أصيبوا بداء الرقابة على النشاط الفنى والثقافى وعلى الكلمة المقروءة والمسموعة . ففى الصعيد والجامعات تمارس بعض الجماعات التى تحمل اسم ” الجماعات الإسلامية ” دور الرقيب ، بنشاط معهود . شاهرة فى وجه المبدعين ، الشومة والجنزير ، فضلا عن سلاح التكفير .

وبين رقابة الحكام ، ورقابة الجماعات يدور هذا التحقيق .

ممنوع من الغناء :

يفض الحكام فى بلادنا رقابتهم على الفكر والإبداع ، استنادا إلى قوانين لقيطة ، لا نسب لها من الدستور أو مواثيق حقوق الإنسان فقانون العقوبات ، يعاقي بالحبس كل من “غنى” وأدى ذلك إلى إثارة الفتنة ، هذا هو نص المادة 102 من قانون العقوبات ، ولا يسأل القارىء عن الفتن ، فهى خاضعة لقانون الحكومة فأغنية تنتقد قانون الحكومة أو مسئول فى الدولة قد تؤدى إلى إلى فتنة فى نظر حكامنا الأقاضل وبالقطع لا يزال المثقفون يتذكرون بالألم تجربةفنان الشعب الشيخ إمام وشاعرنا العظيم أحمد فؤاد نجم ومحاكمتهم أمام المحكمة العسكرية ، والحكم على نجم ، الذى قضى عاما داخل جدران السجن بسبب قصيدة ” بيان عام من إذاعة شقلبان ” التى انتقد فيها المغفور له السادات .

وقانون العقوبات ، ملىء بمواد عديدة ، كفيلة بإيداع أى فنان او أديب أو مفكر بداخل السجن ، فهو يحرم الأراء التى يمكن أن توصف بأنها تشكل تحريضا على كراهية نظام الحكم أو إهانة السلطات أو البرلمان ، أو تشكل دعاية مثيرة للرأى العام … وإيا كانت الوسيلة المستخدمة فى ذلك الكتابة ، الصور ، الرسومات.. وحتى لو كانت هذه الوسيلة إيماء بالرأس أو اليد !!.. ويعاقب مرتكبو هذه الجرائم ! بالحبس أو الغرامةولم تكتف ديمقراطية السادات بالحبس فأضافت مبدأ جديدا هو المساءلة السياسية لرجال الفكر والكتابأمام المدعى الأشتراكى ، حق مصادرة الأموال والممتلكات والتحفظ على الأشخاص واستبعادهم من قوائم الترشيح .ويأتى قانون سلطة الصحافة ، ليمنع المواطنين من إصدارالصحف أو المجلات ، بفضل شروطه التعجيزية ؟ وعندما أراد الأدباء والشعراء الافلات من براثن هذا القانون ، بإصدارهم ” مجلات ونشرات غير دورية ، بلغت نحو 35 مطبوعة أصدر المجلس الأعلى للصحافة قرارا فى عام 1987 بمنع صدور النشرات والمطبوعات غير الدورية إلا بتصريح من المجلس ، وهو لا يمنع بالطبع مثل هذه التصريحات !!

ثقافة ….ونكافة :

وهكذا توالت محاولات حكامنا فى تضييق الخناق على حرية الفكر والإبداع . مستخدمة فى ذلك أسوأ التشريعات والقرارات . ولكن المشكلة لا تقتصر على قانون سىء السمعة ، بل تتعداه ، لتصل إلى فهم المئولين لمعانى مثل حرية الإبداع .

فالسيد وزير الثقافة فاروق حسنى وهو أكبر مسئول عن الثقافة فى البلد ، لديه مفهوم خاص عن الإبداع وحرية الفنان ففى حوار معه فى جريدة الأهالى ، عن سبب اعتراض رئيس هيئة المسرح لعرض مسرحية ……

أجاب السيد الوزير نحن لا ننتج فنا فقط .. بل ننتج توجهات وسياسات محددة .. المؤلف يكتب على مزاجه .. ونحن ننتج على مزاجنا !!.

أضاف : كيف أنتج مسرحية ، تشتمنى وأدفع ثمنها .. أنا لا أدفع فلوس لتمويل مسرحية ضد توجهات الدولة ؟

ألا .. ولكن :

ومفهوم الرقابة على الإبداع لدى السيد الوزير ، لم يكن أسعد حالا من السيد المستشار ” حمدى سرور ” مدير الرقابة على المصنفات الفنية .. ففى حديث صحفى منشور قال المستشار ” أن الرقابة ليست ضد حرية التعبير والفكر لكن على ألا تصطدم هذه الحرية بالصالح العليا للدولة والمجتمع وعلى ألا يتجاوز النقد حدود المصلحة القومية العليا …”

وأضاف : ” أن الرقابة ليست ضد الأفكار السياسية لكن شرط ألا تمس الإنجازات السياسية العليا للدولة .. وهوليس ضد حق الفنان فى أن يعتنق ما يشاء من أفكار “.. ولكن عندما ينتج عملا فنيا ، يجب أن يراعى الاتجاهات السياسية للدولة ؟؟

والحق أن المشكلة ليست فى السيد المستشار إنما فى ” إلا ” و ” لكن ” فهو مع حق الفنان فى أن يبدع شرط ” إلا ” يتجاوز ، فاذا حدث أوجب ــ رغما عن إرادة السيد الرقيب ــ أعمال حكم ” لكن ” لذلك يصدر قرار منع العمل الفنى !!.

ونحمد الله أن الرقيب السابق السيدة ” نعيمة حمدى ” لم تستعمل قط ” إلا ” و ” لكن ” وإن كانت فترة ولايتها لا تختلف فى شىء عمن تلاها.. فقرارات المنع والحذف ” على دونه ” كما لا تختلف مفاهيم الرقابة لديها عن السيد المستشار .

فمهمة الرقابة ، كما تراها هى فى ” حماية أمن وسلامة البلاد والنظام العام …!!

عليكم السلام :

ولان من انتقدنا ، فليس منا ، وفقا لرأى الرقيب الحالى ، عملا بالقول المأثور لرئيسه السيد الوزير ” نحن ننتج على مزاجنا ” أصدر سيادته قرارا بمنع عرض المسرحية ” عليكم السلام”

رغم أن الرقابة سبق وأن وافقت على النص وأتمت الفرقة 54 بروفة ، لحجة تعارضها مع مصالح الدولة إياها .

وحذفت الرقابة عددا من مشاهد فيلم ” زوجة رجل مهم ” و ” البرىء ” وتغيير نهاية الأخير ، حفاظا على توجهات الدولة .

كما تم إيقاف مسرحية ” ملك الشحاتين ” ورفضت الرقابة سيناريو فيلم ” يحدث الآن ” للمؤلف يوسف القعيد والمخرج منير راضى لأن الفيلم مسىء للنظام ، حيث تناول قضية المعونة الأمريكية ، وما تطرحه من تداعيات التبعية وخلافه .

كما رفضت سيناريو فيلم ” رجل من الحى السادس ” لعبد الحى أديب لانه يتناول قضية تطرف الجماعات الإسلامية ؟ ومساعدة السلطة لها فى بداية السبعينات .

ورفضت كذلك سيناريو فيلم ” يوم مقتل زهدى ” عن استشهاد ” شهدى عطيه ” فى السجن فى فترة الستينات نتيجة التعذيب .

كما رفضت فيلم ” هروب ” للمخرج عاطف الطيب .. ويتناول قضية الحريات العامة داخل المجتمع .

يا تليفزيون … يا :

أما فى ماسبيرو ، فالضحك ” للركب ” لأن الرقابة الثنائية فالعمل الفنى عندما يكون نصا يعرض على رقابة قطاع الأنتاج فإذا أجازها ، يتم التصوير . ثم يعرض العمل الفنى بعد ذلك على رقابة التليفزيون ، وهى شىء آخر وقد تجيز العمل أو العكس .

وفى حالة عدم التصريح بالموافقة على العمل الفنى بعد تصويره ، يصبح ممنوعا من العرض.. فبعد التكاليف الضخمة والجهد يكون مصير هذا العمل فى الأرشيف فمسلسل ” فدائيون فى الإسلام ” لم تجزه رقابة التليفزيون حتى الآن كذلك مسلسل ” تمساح البحيرة ” وغيرها من المسليلات والأفلام والمسرحيات وأحيانا يعرض العمل الفنى بعد حذف عدد من المشاهد مثل ما حدث مع مسلسل ” ليالى الحلمية ” .

وفى حالة شراء ماسبيرو لبعض الأعمال الفنية من أفلام ومسرحيات تكون الرقابة هنا رباعية فهذا العمل الفنى ” شبع ” رقابة فهو يعرض على الرقابة عند نشره فى كتاب ، والثانية لأخذ موافقة المصنفات الفنية ، والثالثة بعد إعداده كنص مسرحى وتصويره كفيلم وقبل العرض على الجمهور ، والرابعة يعرض على رقابة التليفزيون قبل أن يعرض على الشاشة الصغيرة.

والطريف وجود عدد من الأفلام والمسرحيات سمحت الرقابة على المصنفات الفنية بعرضها على الجمهور واشتراها ماسبيرو ولم يعرضها لرفض رقابة التليفزيون عرضه فى الشاشة الصغيرة !!.

أولاد حارتنا :

ومن منع المسرحيات والأفلام إلى مصادرة الكتب والروايات يا قلبى لا تحزن فالمصير ، واحد : هو أرشيف الرقابة والقائم على شئون المصادرة وفقا لقانون المطبوعات هو مجلس الوزراء إذا كانت هذه الكتب ” مثيرة للشهوات ” أو التى تؤدى إلى ” تكدير السلم العام ” أو ” الإخلال بالنظام العام “أما الصحف والمجلات التى تصدر فى الخارج ، فمصادرتهامن شئون وزارة الداخلية ، وقد يعجب القارىء من أن كلمات وسطور فى بعض الكتب والمجلات ستؤدى إلى” تكدير السلم العام ” !!

ومن أجل الحرص على صيانة ” النظام العام ” والحفاظ على قيم المجتمع وحمايته من الكتب ال ” مثيرة للشهوات ” قامت أجهزة شئون المصادرة فى الحكومة بمصادرة “56 ” كتابا فى الآونة الأخيرة ، وأشهرها ” سوسولوجيا الفكر الإسلامى ” دز محمود إسماعيل و ” رسائل جهيمان العتيبى ” د. رفعت سيد أحمد … فضلا عن استمرار حظر ” الشعر الجاهلى ” و”الإسلام وأصول الحاكم ” وفى مجال الأدب لازالت رواية ” أولاد حارتنا ” قيد الحظر رغم عدم وجود قرار بالحظر منذ عام 1959 وبالرغم من نشرها فى بيروت عام 1967 .

فتاوى الشيخ عمر :

وكان الأزهر ، متزعما للحملة المطالبة بوقف نشر الرواية عام 1959 . وفى عام 1989 عندما حاولت جريدة ” المساء ” إعادة نشرها على حلقات تصاعدت الحملة مرة أخرى وأذعنت الجريدة وأوقفت النشر . والطريف أن د. عمر عبد الرحمن ، أفتى بإهدار دم ” نجيب محفوظ ” باعتباره كافرا ، لأنه لم يعلن توبته بعد أن كتب هذه الرواية .

أن معركة ” أولاد حارتنا ” كشف للعلن عن جهازين رقابين الأول : الأزهر كان دوره فى فرض الرقابة محدودا فيما مضى ، والثانى : جهاز د. عمر عبد الرحمن وجماعته ، ويمارس هذا الجهاز رقابته بدأب فى أقاصى الصعيد وف الجامعات المصرية .

فالأزهر كان يمارس رقابته استنادا للقانون رقم 102 سنة 1985 الذى أتاح لمجمع البحوث الإسلامية التابع له ، سلطة الرقابة على كتب القرآن والسنة . وفى الآونة الأخيرة ، شهدت الساحة الفكرية والفنية توسعا متزيدا لرقابة الأزهر على أعمال لا علاقة لها بالقرآن والسنة . ويرجع هذا الفضل إلى همة الشيخ ” جزر ” .

نأمر بالمصادرة :

ففى شارع الطيران بمدينة نصر ، تقبع إدارة البحوث والترجمة والنشر التابعة لمجمع البحوث الإسلامية ، وفى إحدى الحجرات الفخمة يجلس شيخ جليل يدعى الشيخ جزر ، ممسكا بيده قلما موشرا على إحدى الروايات أو الكتب بعبارة مكونة من كلمتين ” .. نأمر بالمصادرة..” ويرسل الكطتاب بالتأشيرة السابقة إلى مدير إدارة المباحث للمصنفات الفنية لتنفيذ القرار .

والشيخ جزر وغيره من شيوخ مجمع البحوث ، تخطو اختصاصهم فى الرقابة على كتب القرآن والسنة ، ومارسوا هوايتهم فى مصادرة كتب فكرية فسبق وأن أصدروا قررا بمصادرة كتاب ” الإسلام والقرن الهجرى الخامس عشر ” ، ثم حكم القضاء ضد قرار المصادرة… بعد أن تبين أن حيثيات صدور القرار لا صلة له بالأمور الدينية ، بل لأسباب فكرية..

ومن الكتب المصادرة بناءا على قرارات من الأزهر :

  • مواجهة الفكر المتطرف فى الإسلام .
  • قضية الحكم بما أنزل الله .
  • فتنة العصر الحديث .
  • أبو هريرة .
  • المسلمون العلويون فى مواجهة التجنى .

وفى السينما ، رفض الأزهر فيلم ” عتبة الستات ” بعد أن أرسلته إليه الرقابة على المصنفات الفنية ، برغم وجود بعض التفاصيل فى الفيلم تتعلق بأمور دينية ، وفكرة الفيلم تدور عن لا ينجب ويخفى الأمر عن زوجته ، فتضطر للجوء إلى الدجال .

ولا يزال الأزهر رافضا عرض المسلسل ” ابن خلدون ” فى التليفزيون الذى يتناول قصة حياة ابن خلدون .

وفى مارس 1990 ، قامت مباحث المصنفات الفنية بمصادرة رواية ” مسافة فى عقل رجل ” بناء على مذكرة من مجمع البحوث بدعوى أن الراوية ” تحوى إلحاد وكفرا وانكارا للأديان”

وطلب الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية بمحاكمة مؤلف الرواية وفقا للمادة 98 من قانون العقوبات ، والتى تصل عقوبتها إلى 5 سنوات ، والرواية صدرت فى أبريل سنة 1988 وقامت مؤسسة الأهرام بتوزيعها .

هل أنت عقلانى ؟

ويصاحب قرارات المصادرة الصادرة عن الأزهر بلاغات إلى النيابة للتحقيق مع مؤلفى هذه الكتب والروايات وقد تم التحقيق مع مؤلف رواية ” مسافة فى عقل رجل ” امام نيابة أمن الدولة ، واستمر حبسه فى سجن طره لأكثر من 4 شهور ، وأفرج عنه بكفالة مالية ، ولازالت قضيته منظورة أمام القضاء .

وقد لفت نظر المراقبين ، الاسئلة التى وجهتها النيابة للمؤلف ونطرح هنا بعض الأسئلة التى طرحها المحقق بدون تعليق ، على أن يستخلص القارىءما يراه ، وعلاقة هذه الأسئلة بحرية الفكر والاعتقاد .

س : هل أنت عقلانى

ج : ………………

س : ما هو مفهومك عن الدين ؟

ج : …………………..

س : ما رأيك فيما جاء بكتابك باللف والدوران إلى ان تصل إلى المادية المدمرة ، وتصبح قطبا من أقطاب المادية . وقد ضمنت هذا فى إحكام وفى صور خيالية وجنسية واضحة ، وخضت فى جميع الرسل والأديان ، بتعمد عرض آرائك الشيوعية المادية ؟

ج : …………………………..

س : هل أنت تقوم بالدعوة للمذهب العلمانى ؟

ج : …………………………

نكون أو لا نكون :

وإذا كان مصير مؤلف ” مسافة فى عقل رجل ” السجن ، فمصير د. فرج فودة مؤلف كتاب “نكون أو لا نكون ” أسعد حالا ، حيث أخلت نيابة أمن الدولة سبيله بضمان محل إقامته ، بعد أن حققت معه فى بلاغ الأزهر ، الذى قام بدوره بإصدار قرار بمصادرة كتاب دز فودة الجديد.

وتعود قصة الكتاب إلى عام 1988 ، عندما نشبت معركة فكرية ، على صفحات الأهرام بين ” فهمى هويدى ” والمستشار ” سعيد العشماوى ” حول كتاب الأخير ” الإسلام السياسى ” وأثناء المعركة بعث شيخ الأزهر برسالة عنيفة إلى ” فهمى هويدى ” يؤيده فيها وبعنف الفريق الآخر ، الذى يعد . فرج فودة أحد فرسانه ، ووصف شيخ الأزهر هذا الفريق ب ” …تجار أوبئة الفكر ومروجى أحاديث الإفك .. :” وردا على مقال شيخ الأزهر اعتلى دز فرج فودة قلمه وكتب مقالا لا يقل عنفا عن عنف شيخ الأزهر وبعث به إلى جريدة الأهالى . ونشر فى 1988 وعندما شرع د. فرج فى إصدار كتابه الجديد ضمنه هذا المقال .. وفجأة وبعد مرور عامين على نشر المقال فى الأهالى تقدم الأزهر ببلاغ ضد الدكتور . فرج فودة أمام النيابة بعد أن أصدر قرار بمصادرة الكتاب .

وتمثلت الاتهامات فى ” إهانة شيخ الأزهر ” وعدم سبق اسمه بلقب ” فضيلة ” وسيل آخر من الأتهامات تنتهى بالتكفير .

الثقافة عدو الله :

وإذا كان الأزهر يمارس الرقابة على حرية الفكر والإبداع . وفقا لقانون حتى لو كان سيىء السمعة ، فإن الجماعات الإسلامية تمارس هذا الدور بدون سند من القانون ، اللهم إلا قوة الجنزير وفتاوى قيادتهم .

فهناك الكثير من الحفلات والمسرحيات التى منعتها الجماعة فى الكليات والمعاهد بدعوى أنها حرام ، وفى الصعيد عندما أرادت فرقة ” ساحل سليم ” المسرحية ن تقديم مسرحيتها فى قرية ” كدوية الزار ” فى أسيوط ، تجمع المجاهدون من أعضاء الجماعات ومعهم ميكرفون المسجد، وأعلن أميرهم على رؤؤس الأشهاد ، بتحريم التمثيل ، وكفر من ألف المسرحية ومن أخرجها ومن مثلها إلى يوم الدين .

ولكن هذا المفتى الغيور ، لم يترك فرصة للمذنبين للتوبة بل أصدر فتواه ، مشفوعة بالتنفيذ الجبرى ، فارتفعت الجنازير وعلت الشوم . وصاح الجميع ” لا اله إلا الله ” الثقافة عدو الله ” .

وسقط من سقط ، وجرح من جرح لكن تناسى الجميع أن يضمنوا كشف الضحايا . مصرع حرية الفكر وحق الإبداع … ودمتم .

—————————————————————————————————

تفكك الجماعة الإسلامية وعنف الخنادق الأخيرة

صحيفة الدستور ــ 17/12/1997

يرى كثير من المراقبين أن هناك تطور نوعى فى أعمال العنف التى تمارسها العناصر المسلحة التابعة للجماعة الإسلامية داخل مصر . وهم يستندون فى ذلك إلى عملية الأقصر التى راحت ضحيتها 58 سائحا فى الشهر الماضى والتى أعلنت الجماعة الإسلامية مسئوليتها عن تلك العملية التى شهدت درجة عالية من المهارة والدقة فى اختيار الهدف وفى توقيت وكيفية تنفيذه ، فضلا عن بشاعة الحادث من حيث القتل العشوائى الذى إلى ارتفاع عدد الضحايا والتمثيل بالحثث . وكذلك انتهاجهم أسلوبا جديدا فى تنفيذ العملية حيث ارتدوا زى ضباط وجنود الشرطة الذى وفرلهم عنصر المفاجأة وسهل عليهم الهمة . وتجمع إفادات شهود العيان فى الحادث على أن الجناة اتسموا فى العملية بالاحتراف والحنكة ورباط الجأش . كل هذه الوقائع تدعم بلا شك الرأى القائل بأن هناك تطور نوعى فى أعمال العنف ، لكن المسألة ليست وجود هذا التطور من عدمه ، بل معرفة السياق الذى انتج هذا التطور هو المسألة الأهم. فهل هذا السياق ينبىء عن نمو قوة الجماعة الإسلامية أم لا ؟ .

إن كافة الشواهد الظرفية تؤكد بأن الجماعة الإسلامية تعانى حاليا من أزمة على كافة الأصعدة، سياسيا وتنظيميا وفكريا . وبهذا المعنى فإن هذا التطور فى أعمال العنف جاءفى سياق أزمة مستحكمة . وهذه الأزمة تهدد وجود الجماعة ذاته وستحولها إلى خلايا ومجموعات متشرذمة لا رابط بينها . وعنوان وموضوع هذه الأزمة المتصاعدة هو تشتت وغياب القيادة الواحدة والمنسجمة للجماعة .

وفى الشهور القليلة الماضية اتقسمت قيادة الجماعة إلى مثلث مكون من ثلاث أضلاع ، كل ضلع له رؤية وتقدير سياسى مختلف . الأول : القيادات داخل السجون ، وهى صاحبة تأثير فكرى ومعنوى ، والثانى القيادات السياسية التى تتمركز فى أوروبا ، والثالث : القيادة العسكرية التى تشرف وتخطط لأعمال العنف انطلاقا من معسكراتها فى أفغانستان .

قيادات السجون أطلقت مؤخرا مبادرتها لوقف العنف ، وهى مبادرة غير مشروطة بمطالب ومغزى المبادرة ، وإن يطرح صراحة على لسان أصحابها ، هو أن ميزان القوى بعد خمس سنوات من العنف أصبح لصالح الدولة عسكريا وسياسيا . فمئات من كوادر الجماعة قتلوا أو أعدموا ، وآلف رهن الأحتجاز كما فقدت الجماعة كافة مواقعها السياسية ومناطق نفوذها فى الأحياء الشعبية والقرى والمساجد بفعل تحولها إلى العمل السرى ليتلائم مع العمل العسكرى أو لعزلتها حيث تحولت فى ذهن المواطن العادى إلى جماعة إرهابية نتيجة أعمال العنف التى طالت مواطنين عاديين وتأثير هذه الأعمال على مصادر رزقهم كالسياحة وغيرها . وهذا التحليل لا يستبعد أسباب أخرى وراء صدور هذه المبادرة ، وقد يكون من بينها أو أهمها اقتناع هذه القيادات بضرورة مراجعة الثوابت الفكرية للجماعة التى تبرر العنف وفى تقديرنا،

ـــ بغض النظر عن أسباب المبادرة ــ فإنها تستحق الدعم من القوى السياسية المختلفة .

الضلع الثانى : يمثله القيادات السياسية فى أوروبا ، والوصف الأدق الذى يستحقه ، هو الضلع الحائر والمرتبك بين الضلع الأول والثالث . ويتمثل فى القيادات السياسية ــ ومن أبرزها رفاعى أحمد طه وأسامة رشدى ومحمد مختار ــ ، وتتولى مسئولية إصدار البيانات والنشرات بالخارج ، فضلا عن تجديد وتطوير الخط السياسى ، وهى من المفترض حسب القواعد التنظيمية المعبرة عن الجماعة ومواقفها . كذلك فهى المسئولة سياسيا عن القيادات العسكرية وعملها ، تلك القيادات التى تشرف على معسكرات الجماعة فى أفغانستان . فى حين تقوم القيادة العسكرية بوضع الخطط العسكرية التى يتم إقرارها من قبل القيادات السياسية ، كما تقوم هذه القيادة باختيار العناصرالمسلحة التى يجرى تدريبها فى معسكرات الجماعة بأفغانستان أو تلك المستقرة فى مصر ، وإسناد عمليات العنف لهذه العناصر التى تقوم بتنفيذها على أرض مصر . ومن خلال قراءة قضايا العنف التى أحيلت للمحاكمات مؤخرا وكذلك الشواهد الظرفية الخاصة بعمليات العنف التى وقعت فى خلال السنوات الماضية ، تؤكد جميعها على وجود تنسيق قوى وفعال وانسجام بين الأطراف الثلاثة ( القيادات السياسية ــ القيادات العسكرية ــ العناصر المسلحة ) ويتضح فعالية دور القيادات السياسية التى كانت قصرا على الإعلام ببيانات تفصيلية ودقيقة من أعمال العنف وتطوراتها . وتكمن الأزمة التى تعانى منها الجماعة الإسلامية فى غياب أو تغيب دور القيادة السياسية وانهيار الصلة بين هذه القيادة وبين القيادة العسكرية والعناصر المسلحة . إذا توقفنا أمام محطتين هما : مبادرة العنف، وحادث الأقصر يمكن التدليل على ذلك من خلال تخبط وارتباك القيادة السياسية .

سنجد أن هذه القيادات تتخذ من القضية الواحدة موقفين متناقضين . فهى فى البداية نفت أن تكون المبادرة صدرت عن قيادات السجون وأعربت عن رفضها فى كل الأحوال ثم عادت فشككت فى صدورها وهو ما نلاحظه من قراءة مجلة ” المرابطون والأعتصام ” لسان حال الجماعة والتى تصدرها هذه القيادات من الخارج .

وفى مرحلة ثالثة قبل حادث الأقصر مباشرة ، بدأت تتعاطف إيجابيا مع المبادرة مع تحديد مطالب لوقف العنف والتى وصفتها بأنها ” مطالب عادلة ” وأن الجماعة مستعدة لتتقدم عشرة خطوات ” إذا أقدمت الحكومة على خطوة واحدة ” . وفى نفس السياق نلاحظ أن خطاب القيادات السياسية فى مجلات الجماعة ، يميل إلى الاعتراف بضعف التنظيم فى مقابل الإقرار بانتصار وقوة الدولة ، حيث أشار أحد قادة الجماعة إلى ” أن الاتفاق على نوع من الهدنة لم يغير من الموازين شيئا ، ولن يجعل النظام فى موقع الضعيف مثلا طالما بقى فى الحكم . وفى موضع آخر يتحدث رفاعى أحمد طه ، وعينه على المستقبل وليس الحاضر ” أن الجماعة مؤهله لاستيعاب الواقع وتحويل انتكاساته بإذن الله لانتصارات ” . وأخيرا تؤكد القيادات السياسية فى حوار منشور بمجلة الاعتصام فى شهر أكتوبر الماضى على أن الجماعة تفكر حاليا فى ” الرجوع إلى مرحلة ــ الدعوى العلنية السلمية ــ التى اضطرت إلى الخروج عنها . والواضح من الاقتباسات السابقة أن خطاب القيادات السياسية فى أوربا فى حالة تراجع مستمر فبدلا من تبشيره فى السنوات السابقة أبان تصاعد أعمال العنف ، بقرب سقوط الدولة وإقامة دولته الإسلامية ، عاد ليقر بقوة الدولة والتأكيد على” انتكاسة ” الجماعة ورغبتها فى العودة إلى مرحلة العمل السلمى .

لكن هذا الخطاب عاد وارتبك فجأة إثر حادث الأقصر ، وعاد ليبشر بسقوط الدولة ، حيث تصدرت مطالبه فى بيانه الأول عن الحادث ” إقامة شرع الله ” مقابل وقف العنف ، أى إقامة الدولة الإسلامية .

لقد عاد هذا الخطاب لينتشى ، اعتقادا منه بأن الحيوية والنشاط والقوة عاد والعمل الجماعة العسكرى ، وهو ما يستدعى استخدامه سياسيا فى فرض شروطه . وهذا الأعتقاد والظن إن كان له معنى ، فهو أن هذه القيادات لا علم لديها بقوة تنظيمها الذى تدبره ، بل تعتمد فى اعتقادها عن قراءاتها لما يحدث فى مصر من حوادث إرهابية مثل المراقبين والمواطنين المتابعين عن بعد وما يؤكد ذلك عودة هذه القيادة للتخبط والأرتباك مجددا بعد أن تكشف لها إجرام وبشاعة ما حدث فى مصر ، والآثار السلبية لهذا الحادث .

فبدلا من وصف القيادة السياسية فى الخارج فى بيانها الأول عن حادث الأقصر بأنها عملية جرئية وهو ما جعل القيادة تشعر بأن الجماعة قوية للحد الذى جعلت مطلبها الأول : إقامة الدولة الإسلامية ، عادت للتعامل مع هذه العملية بحذر ثم مراجعة فرفض لهذه العملية .وحسبما نشر فى تقارير صحفية عديدة نقلا عن نشرة المرابطون لسان حالة الجماعة فى الخارج فإن القيادة السياسية عبرت عن غضبها الشديد من تنفيذ عملية الأقصر كما أنها أساءت للجماعة كما أشار مسئولون سياسيون فى الجماعة بالخارج إلى أن هؤلاء ، الأخوة ــ يقصد المنفذين فى عملية الأقصر ــ قاموا بعملهم هذا من تلقاء أنفسهم ” . وأضافوا ” مهما كانت الدوافع والمبررات فإنه لا يوجد مبرر يدعو لهذا القتل العشوائى الذى يعد سابقة لا مثيللها ويتناقض تماما مع الأدبيات الشرعية والسياسية للجماعة الإسلامية ” . وفى معرض تفسيرهم لرفض هذه العملية ، أشاروا إلى ” كلمة حق يجب أن تقال مهما كانت صعبة أو قاسي والأهم من ذلك الآن هو تدارك الموقف ومنع تفاقمه ” وناشدوا أعضاء الجماعة داخل مصر ” عليكم بضبط النفس ” وأخيرا حملوا المنفذين المسئولين ” أنه مما لا شك فيه أن هؤلاء الشباب يتحملون جزءا من مسئولية ما حدث ” .

هذا الأرتباك المتصاعد فى مواقف القيادة السياسية فى الخارج إزاء ما يحدث فى مصر من عمليات عنف أو مبادرات لقيادات السجون ، لا يمكن تفسيره إلا من خلال التسليم بأن حالة من التفكك التنظيمى بدأت تعانى منها الجماعة الإسلامية . هذا التفكك كان من أبرز ملامحه انهيار أسلوب عمل الجماعة المستند إلى حيوية الاتصال والانسجام والتنسيق بين أطرافه الثلاثة (القيادة السياسية ــ القيادة العسكرية ــ العناصر المنفذة فى مصر ) . وما نصل إليه من مجمل ما سبق أن القيادة السياسية التى تتمركز فى أوربا أصبحت منعزلة تماما وغير مؤثرة فيما يحدث داخل مصر .

فى هذا السياق يمكن القول بأن العناصر المنفذة لعمليات العنف داخل مصر لم تعد تدين بالولاء سوى للقيادة العسكرية للجماعة التى تتمركز فى أفغانستان ، وهذه الأخيرة بدورها استبعدت القيادة السياسية فى أوروبا من آليات اتخاذ القرار أو متابعته إعلاميا . ويؤكد هذا التحليل وجود بيان بخط اليد فى ملابس الجناة بعد مصرعهم عقب تنفيذهم عملية الأقصر ، على عكس ما جرى عليع العرف فى العمليات السابقة ، حيث لم يصدر الجناة أية بيانات عن عملياتهم السابقة وهو ما يعنى أن هناك قرارا باحتكارهم آلية إصدار البيانات الخاصة بعمليات العنف والتى كانت حكرا فيما سبق على القيادة السياسية فى الخارج . وقد تضمن هذا البيان مطالب المنفذين والهدف من تنفيذ العملية . وفى ذات البيان عبر الجناة عن ولائهم لمصطفى حمزة قائد الجناح العسكرى للجماعة فى أفغانستان باعتباره أميرهم .

وعلى الأرجح فإن العناصر المسلحة فى مصر تحتفظ بعلاقة تنظيمية بقائد الجناح العسكرى مصطفى حمزة وربما نتيجة للضغوط الأمنية فى الداخل قد فقدت اتصالها بهذه القيادة . لكن المؤكد أن القيادة السياسية أصبحت معزولة عن هذه العناصر وعن عملياتهم والأهداف التى تسعى إلى تحقيقها . فالطرف الوحيد من الأطراف الثلاثة المكونة لأسلوب عمل الجماعة الذى يعانى من ارتباك وتخبط وتراجع على النحو الذى فصلناه سابقا ، هو القيادة السياسية . وستبرهن الأيام القادمة على مزيد من العزلة المضروبة على هذه القيادة ، وعندئذ وهذا هو المهم ، فإن العنف الذى ستشهده مصر ، الذى ستنفذه بقايا العناصر المسلحة فى الداخل ، سيكون مروعا وانتحاريا . فالعمليات المرتقبة  سواء كان هناك ارتباط بين العناصر فى الداخل والقيادة العسكرية أو قطع الاتصال بينهم فكلاهما بحكم انحسار خبراتهم فى المجال العسكرى وصعوبة تفاعلهم مع الواقع المصرى لتخندقهم فى الجبال سواء فى أفغانستان أو جنوب مصر ، سوى منطق وعزيمة الأنتحار . فما تبقى من عناصر الآن ، على قلتها كما تدلل الشواهد الظرفية ، ستستمر فى عملياتها الأجرامية ، وإزاء هذه العمليات ومفاجأة القيادات السياسية بها من حيث فظاظتها وتوقيتها ستضطر هذه القيادات لإدانة هذه العناصر وتجريم عملها .

وخلاصة القول ، أن الجماعة الإسلامية إبان تصاعد أعمال العنف فى الفترة 93 ــ 1996 كانت متماسكة تنظيميا ولها قيادة منسجمة لكن مع مبادرة وقف العنف ، وربما قبلها بشهور ، بدأت بوادر الانقسام التى تعمقت مع حادث الأقصر ، وستتزايد فى المستقبل المنظور . وأصبح مصير الجماعة محكوم بالصراع والانشقاق بين مستويات ثلاثة ، قيادات السجون ، قيادات سياسية فى أوربا ، قيادات عسكرية فى أفغانستان . وفى ظل هذه الانشقاقات والصراعات المتفجرة ، ستبقى العناصر المسلحة فى جنوب مصر ،من الشباب صغير السن فاقدى الخبرة ، محاصرين فى الجبال ، يتابعون ما يحدث من انشقاق وصراع ، وإدانة وشجب لأعمالهم . وفى ذات الوقت مطلوبون للعدالة ، وتنتظرهم أسلحة مشهرة ، يرفعها الأمن المتربص والمحيط بمنازلهم وقراهم . عندما يقوموا بأعمال عنف ضد ذات الأهداف التى دفعتهم إليها القيادة السياسية من قبل ، بل ودعمتهم معنويا للقيام بها ، وبشرتهم بدخولهم الجنة بسببها ، سيتحول جهادهم (!!) فجأة فى خطاب القيادة السياسية إلى عمل مدان ومجرم .وكلما قامت بأعمال عنف ، كلما زادت الإدانه والشجب ، وزادت عزلة القيادة السياسية ، وزاد التفكك والأنهيار التنظيمى وتصاعدت الانشقاقات . وبين فجيعة إداناتهم من رفاق الأمس ووحشة الجبال القابعين فيها ، والموت المتربص بهم حال عودتهم لديارهم ، لا ملاذ لهم سوى انتحارهم السياسي والمادى . فى هذا السياق يمكن تفسير فظاظة وإجرام جريمة الأقصر ، التمثيل بالجثث والقتل العشوائى ، والانتحار بعد المجزرة .

أن حادث الأقصر إن كان له معنى أو تعبير آخر فهو تدشينة لعنف جديد عنف اليأس ، عنف الخنادق الأخيرة .

—————————————————————————————————

مسئولية النظام المصرى

فى دعم التنظيمات الارهابية

صحيفة الدستور ــ 18/2/1998*

كشف حادث الأقصر لبذى راح ضحيته 58 سائحا فى شهر نوفمبر الماضى ، عن احتكار قيادات الخارج لآليات اتخاذ القرار داخل الجماعات الإسلامية المتطرفة . ومع تصاعد دورها ، تزايدت حدة انتفادات الحملة الإعلامية المصرية وتصريحات المسئولين المصريين ضد دول أوروبية وعلى رأسها بريطانيا لتحول أراضيها إلى قاعدة للإرهابيين المصريين . هذه الحملة تضمنت انتقادات حقيقية خاصة تسامح بريطانيا بشأن تصاعد الدور الإعلامى لعدد من قيادات الخارج فى لندن من خلال سيل البيانات والمجلات التى تدعو للعنف وتصدر من هناك . لكن الحملة المصرية تضمنت ، انتقادات زائفة أبرزها محاولة الحكومة المصرية التأكيد على أن الإرهاب فى مصر يأتى من الخارج ومن ثم لا تتحمل هى مسئوليته ، فى حين أن الإرهاب وإذا كان يتم التخطيط له من الخارج فإن عناصر تقيم داخل مصر هى التى تقوم بتنفيذه كذلك فإن التخطيط العسكرى لأعمال العنف يأتى من قيادات الخارج فى أفغانستان وليس من أوروبا ، وأخيراــ وهذا هو الأهم ــ فإن ظاهرة قيادات التنظيمات الإسلامية فى الخارج هى مسئولية الحكومةالمصرية ، فهى التى سمحت لهم بالخروج من مصر بل ودعمتهم وسهلت لهم الطريق حتى تحولوا إلى وحش كاسرالآن .

تعود القضية إلى عام 1979 مع الغزو السوفيتى لأفغانستان ، حيث نظمت المخابرات الأمريكية برنامجا لدعم الجاهدين الأفغان بالأسلحة والأموال بتعاون وثيق مع باكستان وتنسيق مع دول الخليج ومصر لتسهيل سفر العرب الراغبين فى المشاركة فى القتال هناك .

ففى مصر نشطت الدعوة لدعم الجهاد الأفغانى ، فى هذا السياق أعلن كمال حسن علىوزير الدفاع آنذاك عن تدريب الثوار الأفغان فى معسكرات الجيش المصرى ، وصدرت دعوات متكررة من أمانة الحزب الوطنى الحاكم بمناشدة المصريين بالتبرع للمجاهدين ، ثم جاءت دعوة مجلس الشعب المصرى بمناشدة المصريين التطوع للمشاركة فى القتال فى أفغانستان بدءا من عام 1980 . ونشطت المؤسسات الدينية الرسمية كالأزهر وفصائل الإسلام السياسى بدعم وتأييد من الدولة فى الدعوة وتسهيل سفر الشباب إلى أفغانستان . فى هذا السياق صدرت كتب عدة ، كانت الإعلانات عنها تنشر فى الصحف الرسمية ، بعنوان ” الحق بالقافلة ” أى بقافلة المجاهدين المصريين المسافرين لأفغانستان وفى هذا الوقت كان أعضاء تنظيم الجهاد يحاكمون بتهمة اغتيال الرئيس السادات ، وأثناء المحاكمة سمح لأحد المتهمين رسميا بأن يعلن بيانا للتنظيم ناشد فيه الحكومة المصرية للسماح لأعضاء تنظيم الجهاد بالذهاب لأفغانستان للتطوع فى القتال هناك .

ومع صدور الأحكام فى قضية تنظيم الجهاد عام 1984 ، وبالأفراج عن عدد من أعضائه فى هذه القضية أو المعتقلين . ثم جرى تنفيذ دعوة التنظيم بالسفر إلى أفغانستان بدءا من عام 1985 حيث سافر عدد من قيادات حركة الجهاد إلى أفغانستان ، وكان على رأسهم أيمن الظواهرى الذى أكد أنه سافر إلى هناك بدعم من أنصار الحركة الإسلامية فى المواقع الشعبية والرسمية “. كما سافر من الجماعة الإسلامية ثلاثة من قياداتها وكان من أبرزهم محمد شفيق خالد الاسلامبولى قاتل السادات ، وهؤلاء كانوا الرعيل الأول الذى وصل إلى بيشاور فى باكستان لاكتشاف الساحة هناك وتسهيل مهمة زملائهم الذين سيصلون على أفواج فيما بعد .

وكما تشير المعلومات المعلومات فإن الدولة لم تعترض على سفر هذا الرعيل ، وفى مرحلة ثانية أثناء تفجر صراعها مع الجماعة الإسلامية فى نهاية الثمانيات اشترطت عل عدد من قيادات الجماعة السفر لخارج مصر أو تحديد إقامتهم فى الصعيد . فعقب نمو نشاط الجماعة فى القاهرة الذى كان قاصرا من قبل على الصعيد وبفعل نشاط قيادات الصعيد فى تطوير عمل الجماعة فى أحياء القاهرة كعين شمس وامبابة ، ابلغ الأمن هذه القيادات بضرورة العود إلى محافظتهم فى الصعيد أو السفر خارج مصر للحاق ببقية زملائهم فى أفغانستان .

وفى حالة استبعاد الجماعة لكلا الاختيارين واستمرار نشاطهم فى القاهرة ، فإن الأمن سيطلق سياسية ” الضرب فى المليان ” . وهو ما حدث فعليا بدءا من عام 1989 ، بعد أن قررت الجماعة استمرار العمل فى القاهرة . ومنذ هذا العام قتل نحو 28 من أعضاء الجماعة كان أبرزهم علاء محيى الدين المتحدث باسم الجماعة الذى قتل بالرصاص فى أحد شوارع الهرم عام 1990 . ومع استمرار الضغوط ، قررت الجماعة تغيير سياساتها على مستويين الأول : هو تصعيد أعمال العنف ضد الدولة كنوع من الردع لمنع سياسة الضرب فى المليان ، والثانى: تأمين عدد من قياداتها بسفرها إلى أفغانستان ، وكان أبرزهم صفوت عبد الغنى وطلعت فؤاد قاسم وطلعت ياسين همام وغيرهم . فى هذا السياق نشطت الجماعة فى تسفير أعضائها لأفغانستان ، كما يقول طلعت فؤاد قاسم فى حوار منشور مع كاتب هذه السطور فى عام 1993 ، فإن ” الهدف من السفر لأفغانستان هو تحقيق عدة فؤائد أولا : تأمين قيادات التنظيم  خشية اعتقالهم أو تصفيتهم ، ثانيا : أن هؤلاء جميعا سيعودون إلى مصر بعد اكتساب خبرات عسكرية أثناء مشاركتهم فى المعارك هناك مما يساعد على تدريب إخواتهم فى التنظيم ونقل خبراتهم إليهم ” .

فى هذه الأثناء كان الرعيل الأول الذى وصل لأفغانستان قد انتهى من إقامة بيوت الضيافة وتجهيز معسكرات التدريب التابعة للتنظيمات الإسلامية المصرية ، وعندما وصل أعضاء الجماعة الإسلامية وحركة الجهاد شرع الجميع فى عمل دؤوب وتمت التدريبات سريعا ، وبدءا من نهاية عام 1990، كانت مجموعات منهم تعود إلى مصر ، بعضها فى انتظار تكليفات ، وأخرى تمارس عمليات عنف كان أولها : عملية اغتيال رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب نهاية عام 1990 وهذه الظروف مشابهة مع اختلاف التفاصيل لما حدث فى عدة دول إسلامية سمحت لأعضاء التنظيمات الإسلامية بالسفر لأفغانستان ودعمتها أو شجعتها ، ومن هنا نشأت ظاهرة الأفغان العرب التى لا تزال تقلق أمن هذه الدول فى مناطق مختلفة ومن بينها مصر والجزائر .

وبعد انتهاء الحرب الأفغانية السوفيتية ، ومع بروز خطر الأفغان العرب ، اشتدت الضغوط على باكستان وعلى عدد من الفصائل الأفغانية فى طرد الأفغان العرب وغلق معسكراتهم .

فى هذا السياق وضعت التنظيمات المصرية فى أفغانستان خطه ذكية للتعامل مع الموقف الجديد ، محورها الأساسى هو توزيع عناصرها على ثلاث محطات . الأولى توغل القيادات العسكرية داخل أفغانستان بعيدا عن الحدود الأفغانية الباكستانية حيث الضغوط والملاحقات ، واستقرت فى منطقة ” قندز ” على الحدود الأفغانية الطاجيكية وأقامت معسكرات التدريب هناك بدعم من بعض الفصائل الأفغانية التى حافظت على علاقة ودية معها وبتعاون وثيق مع أسامة بن لادن مهندس عملية الأفغان العرب منذ أن بدأت فى الثمانينات . ومن أبرز من تبقى هناك رفاعى أحمد طه أمير الجماعة الإسلامية ومصطفى حمزة قائد الجناح العسكرى للجماعة ، وأيمن الظواهرى ومحمد مكاوى من قيادات حركة الجهاد الإسلامى .

المحطة الثانية : هى اليمن والسودان ، فى الأولى تركزوا فى معسكر ” مراقشة ” بدعم من طارق الفضلى ، نجل ناصر الفضلى أخلا سلاطين قبائل المراقشة والعائد مع الأفغان العرب بعد مشاركته فى الجهاد الأفغانى . المحطة الثالثة : كانت أوروبا حيث توزعوا على عدة بلدان أبرزها النمسا وهولندا والدنمارك وبريطانيا وسويسرا ، وهذه المحطة اقتصرت على القيادات الإعلامية والدعوية لهذه التنظيمات للاستفادة من التطور التكنولوجى فى الاتصالات والإعلام فى عملهم انطلاقا من أوروبا .

والمفارقة فى هذا السياق أن الحملة الإعلامية المصرية ركزت انتقاداتها لبريطانيا فى حين أن الجهاز الإعلامى والدعائى لهذه التنظيمات فى أوروبا يتوزع أساسا بين الدنمارك وبدرجة أقل من بريطانيا . ففى الدنمارك تصدر المجلات الرئيسية لهذه التنظيمات ، ” المرابطون ” لسان حال الجماعة الإسلامية ، و ” المجاهدون ” المعبرة عن حركة الجهاد الإسلامى ، وفى بريطانيا تصدر مجلة ” الأعتصام ” التابعة للجماعة الإسلامية ، كما تصدر ” طلائع الفتح ” لسان حال تنظيم الطلائع .

وقد يكون السبب فى تركز الحملة على بريطانيا هو صدور تصريحات عديدة لعدد من قيادات إسلامية مقيمة فى لندن ، فى حين اكتفى الجهاز الإعلامى فى الدنمارك بإصدار المجلات فقط ودون الإشارة إلى المسئولين عن تحريرها ربما يعود ذلك إلى اختلاف القانون الدنماركى عن نظيره البريطانى ، حيث لا يسمح الأول للاجئين بالمشاركة فى أعمال سياسية وإصدار آراء مؤيدة للعنف ، فى حين لا يوجد ما يحول دون ذلك فى القانون البريطانى ، ومن ثم فإن التصريحات الصحفية كانت قاصرة على المقيمين فى بريطانيا لأسباب قانونية حتى لا يحرم الموجودون فى الدنمارك من حق اللجوء السياسى .

والثغرات الموجودة فى القانون البريطانى التى أدت إلى عدم مساءلة الإسلاميين عن تصريحاتهم الداعية للعنف ، تضمنتها مذكرة اللورد ( لويد ) الذى كفلته حكومة المحافظين السابقة بدراسة القوانين البريطانية بهدف سد هذه الثغرات .

وانتهت مذكرة ( لويد ) إلى التأكيد على أن القوانين البريطانية لا تجرم أعمال التخطيط لعمليات العنف التى سوف تتم خارج بريطانيا ، أو التحريض عليها ، أو الدعوة لها ، أو جمع تبرعاتى وأموال للأنفاق عليها ومن ثم فإنه لا يمكن مساءلة النشطاء الإسلاميين فى بريطانيا الذين يخططون أو يدعون لأعمال عنف فى مصر ، أو يقومون بجمع تبرعات لذلك .

وعلى الرغم من أن هذه الثغرات مسألة واضحة منذ الحكومة البريطانية السابقة واستنادا إلى مذكرة ( لويد ) فإن الحكومة السابقة والحالية لم تشرع عمليا وحتى الآن فى تغيير هذه القوانين. هذا التأخير يعود فى تقديرى إلى سببين الأول : موضوعى والثانى : سياسى .

الأول : يتعلق بقطاع واسع من الرأى العام البريطانى ومؤسسات المجتمع المدنى حيث تتخوف من أن يؤدى تغيير القوانين إلى التضييق على حريات أساسية للاجئين السياسيين والمقيمين الأجانب كالعمل السياسى والرأى والتعبير وحق ــ وهذا هو الأهم ــ مناهضة النظم الاستبدادية. وهؤلاء يتخوفون من صدور التعديلات التى لا تميز بين النشاط ذو الطابع السياسى ، والنشاط الإرهابى . فهؤلاء لا يمانعون من أن يستخدم اللاجئون الأراضى البريطانية فى تنظيم أنشطتهم لمناهضة نظم حكم استبدادية ، وهم يسوقون مثالا شهيرا للبرهنة على وجهة نظرهم ، وهو الخاص باستضافة بريطانيا لمناضلى حزب المؤتمر الأفريقى ومجموعات أخرى إبان نضاله ضد نظام ” الابرتهايد ” .

وفى رأى هؤلاء فإن القانون البريطانى ساعد الأفارقة على القيام بأنشطة سياسية انطلاقا من بريطانيا شملت التحريض أو الدعوة للقيام بأعمال عنف ضد دولة جنوب أفريقيا آنذاك ، أو جمع تبرعات لتمويل هذه الأنشطة اطلاقا من الاراضى البريطانية وفى رأيهم فإنه لولا مشروعية هذه الأعمال التى يحرمها القانون البريطانى ، التى توصف حاليا بأنها ثغرات ، لما كان ممكنا المساعدة فى نضال الشعب الجنوب أفريقى من أجل إلغاء الابرتهايد . ومن ثم فإن تعديلات جذرية على القانون البريطانى فى هذا الشأن ستمنع اللاجئين والمقيمين الأجانب فى بريطانيا من النضال المشروع ضد أنظمة مستبدة . وجهة النظرهذه تعكس فى الواقع رؤية تدعو للتمييز بين حق اللاجئين والمقيمن الأجانب فى بريطانيا فى الدعوة لاعمال عنف مشروعة طالما كانت فى سياق تحركات جماهرية تسعى إلى حق تقرير المصير أو إسقاط نظم غير ديموقراطية ومستبدة ، وبين أعمال عنف توصف بالأرهاب وتستهدف مواطنين لا ذنب لهم فى الصراع الداخلى الدائر بين الدولة المستبدة والقوى المعارضة لها . ومشكلة وجهة النظر هذه تتمثل فى صعوبة التمييز بين عنف مشروع وعنف إرهابى وهى مشكلة مثارة بشدة فى الكتب والندوات الدولية المعنية بمسألة الإرهاب ، التى يعبر عنها القول الشائع بأن ” الإرهابى فى نظر البعض هو محارب من أجل الحرية فى نظر الآخرين ” .

فالعمل الواحد يمكن أن يوصف بأنه عمل مشروع ، من فريق وينظر إليه فريق آخر باعتباره عمل إرهابى فالمنظمات التى تمارس العنف ، ممكن أن يكونوا إرهابيين ومخربين أو جنود تحرير ومحاربين ثوريين ومناضلين من أجل الحرية وأحيانا يكونون خصوما أو معارضين لنظم حكم استبدادية . كل هذه الأوصاف المتناقضة تنطبق على نفس الأشخاص ، لكن كل فريق يختار الوصف المناسب له والمعبر عن رأيه فى هذه الأعمال بالضبط كما ينظر العرب والاسرائيليون والأمريكان لعمليات منظمة حماس فى فلسطين ، فهى حركة تحرير مشروعه فى نظرنا بينما هى حركة إرهابية فى نظر إسرائيل وأمريكا .

لكن أصحاب هذه التخوفات الموضوعية ليسوا بمفردهم على الساحة البريطانية ، فهناك تخوفات أمنية لدى دوائر داخل أجهزة الاستفجارات البريطانية تعوق إجراء تعديلات علىالقانون البريطانى لأسباب لا صلة لها بحقوق الإنسان . والتخوف الأساسى فى هذا السياق هو أن التضييق على نشاط الإسلاميين فى بريطانيا قد يدفع بعض التنظيمات الإسلامية للقيام بأعمال عنف ضد المصالح البريطانية . من ناحية أخرى ترى هذه الدوائر فى وجود الإسلاميين على أراضيها ضمانة لمصالحها من زاويتين ، الأولى : أن يتحولوا إلى رهائن تحت يدها للمساومة حال تعرض مصالح بريطانيا للخطر الثانية : الاستفادة من وجودهم للتعرف عن قرب بالتعاون أو من خلال مراقبتهم على أفكارهم ومشروعاتهم المستقبلية . وأخيرا فإن منحهم حق اللجوء أو الإقامة فى بريطانيا سيكون محل تقديرهم إذا ما وصلوا للسلطة فى البلدان التى يناهضوها مما يحافظ على مصالح بريطانيا فى المستقبل . وجهة نظر الدوائر الأمنية ترتبط أشد الارتباط بتقدير هذه الدوائر لقوة التنظيمات الإسلامية الناشطة فى بلدان إسلامية مختلفة ، بمعنى أنه كلما برهنت هذه التنظيمات على قوتها وقدرتها على تهديد الحكم القائم فى بلدانها ومن ثم تزايد احتمالات استيلائها على السلطة ، يعمق ذلك كله رفض هذه الدوائر لأية تعديلات فى القانون تؤدى إلى تضييق النشاط على الإسلاميين فى بريطانيا والعكس صحيح . وحتى هذه اللحظة فإن هذه الدوائر لم تقتنع على نحو حاسم بضعف هذه التنظيمات ، وإن كان هناك شعور متنامى فى هذا الأتجاه ، ولحين ما يحدث ذلك فإن مراجعة القانون البريطانى فى هذا الشأن ستسغرق وقتا طويلا .

أما الحملة المصرية التى تتضمن انتقادات واسعة لبريطانيا فهى تسعى لتحقيق هدفين ، الهدف الأول : ويمثل الحد الأقصى وهو ضغط الحكومة المصرية على بلدان أوروبية وعلى رأسها بريطانيا لتسليمها عدد من قيادات التنظيمات الإسلاميين المقيمين فيها ، فهناك طلبات بتسليم 14 من قيادات هذه التنظيمات فى بريطانيا ، وسويسرا ، وهولندا ، النمسا ، الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها .

وهذا الطلب لن تتجاوب معه الدول الأوربية لاعتبارات عديدة أهمها ، الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان ، التى تحظر تسليم اللاجئين السياسين أو المقيمين على أراضيها إلى بلدانهم ، إذا كان يخشى على حياتهم من تسليمهم . كما أكدت عدم جواز التسليم إذا كانت عقوبة الإعدام من العقوبات الواردة فى قوانين البلدان التى قدموا منها . والمؤكد أن غالبية المطلوب تسليمهم صدرت ضدهم أحكام بالإعدام من المحاكم العسكرية التى تعد محاكم استثنائية ولا يعتد بها فى أوربا كما أنا قرارات التسليم تخضع لتقدير القضاء هناك ، ولم يحدث أن وافق القضاء الأوربى على حالات مشابهة فى هذا الشأن .

ومن ثم يمكن القول بأن الهدف الأول لن يتحقق وأقصى ما يمكن الحصول عليه فى هذا الشأن هو الهدف الثانى الذى يمثل الحد الأدنى للحملة المصرية ، حيث تسعى على الأقل إلى دفع الحكومات الأوربية وخصوصا البريطانية لتعديل قوانينها بما يسمح بفرض قيود حركة النشطاء الإسلاميين وعلى أراضيها ومنع مشاركتهم فى أنشطة من شأنها مناهضة نظام الحكم ومن ناحية ثانية الضغط من أجل مزيد من التعاون الأمنى وتبادل المعلومات عن نشاط وتحركات اللاجئين والمقيمين هناك .

والمفارقة فى الحملة الإعلامية المصرية ، أنها ركزت ضغوطها وجهودها وانتقادتها على بريطانيا والدول اأوروبية فى حين ما يأتى من هناك مجرد أحاديث وتصريحات ومجلات مجرد كلام ، فى حين لم تركز الدبلوماسية المصرية التى تقود هذه الحملة جهودها وضغوطها على أفغانستان التى يأتى منها الرصاص . فلا تزال أفغانستان هى الطريق الملكى لأعمال العنف فى مصر حيث تتركز هناك القيادات العسكرية والعناصر المسلحة التابعة للتنظيمات الإسلامية .

لقد أخطات الحكومة مرتين ، الأولى : عندما سمحت للمتطرفين بالسفر لأفغانستان تحت زعم المشاركة فى الجهاد الأفغانى ثم كررت خطأها حاليا بتركيز جهودها على طريق واحد ، هو طريق أوربا ، فى حين تغيب أفغانستان عن اهتمامها فقد كانت أفغانستان خطأها الأول وسيظل لفترة فيما يبدو خطأ الحكومة الثانى .

—————————————————————————————————

العنف بين الاسانيد الفقهية والانتهاكات الأمنية

مداخلته الاخيرة

شاء القدر أن تكون المداخلة الأخيرة لهشام مبارك قبل أيام قليلة من وفاته حول ظاهرة العنف فى مصر ، تلك الظاهرة التى استحوذت الجانب الأعظم من كتابات هشام مبارك وابحاثه ومقالاته المنشورة وقد تقدم هشام مبارك بهذه المداخلة فى 28 ديسمبر 1997 من خلال صالون ابن رشد بمركز القاهرة لدراسات حقوق الأنسان الذى استهدف مناقشة ظاهرة العنف بين الأسانيد والانتهاكات الفقهية ، والتى استضاف فيها من المحاورين الرئيسيين إلى جانب هشام مبارك كل من د. محمد عمارة ، أ. مأمون الهضيبى ، أ. كمال حبيب ، د. طه ابراهيم . وفيما يلى عرض لأهم ما تضمنته تلك المداخلة .

وفى تقديرى أن ظاهرة التطرف المقترنة بالعنف تثير سؤالين هامين :

الأول : ويدور حول موقف التيار الإسلامى ككل من قضية العنف .

والثانى : يتصل بطبيعة العنف الذى شهدته مصر خاصة فى السنوات الأخيرة وما إذا كان عنفا احتجاجيا أى رد فعل على الانتهاكات التى تمارسها أجهزة الأمن أم أنه عنف له مصادر أخرى مختلفة ؟ .

وسوف أحاول الإجابة على التسؤالين فى إطار من الالتزام بالمحاور الثلاثة التى تطرقت لها الورقة المقدمة من مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان وهى المحور الخاص بعنف الجماعات ، والأسانيد التى يقوم عليها العنف ، والانتهاكات الأمنية .

وبداية يمكن تقسيم تيار الإسلام السياسى فى مصر إلى ثلاث قوى أو تيارات أساسية : فهناك تيار العنف المسلح ويبرز فيه بالأساس الجماعة الإسلامية وحركة الجهاد الإسلامى . وهناك بعض التنظيمات الأخرى التى تنتمى لهذا التيار ولكنها لا تتمتعبذات النقل السياسى فى الواقع مثل تنظيم طلائع الفتح أو جماعة التوقف والتبين ، وهى تقريبا فى حالة جمود فى الفترة الحالية . وهناك أيضا تيار الإصلاح الذى يمثله بشكل أساسى جماعة الأخوان المسلمين وبعض المفكرين الإسلاميين المستقلين مثل د. محمد عمارة أو الأستاذ فهمى هويدى وغيرهما .

وفى اعتقادى أنه من الصعب القبول باعتبار أن العنف الذى يحدث مصر مجرد رد فعل على الأنتهاكات الأمنية ، فالعنف الذى ارتبط بنشأة الجماعات الإسلامية الحديثة بدا عام 1974 بالحادث الشهير المتمثل فى اقتحام الكلية الفنية العسكرية . ويصعب القول بوجود انتهاكات أمنية فى ذلك الوقت كان الرد عليها هو اقتحام الكلية الفنية العسكرية ، كما أنن لا تستطيع أن نفهم العنف الموجه للأقباط فى فترة البعينات وعلاقته بانتهاكات أمنية لم تكن قائمة . وفى المقابل يمكن القول بأن العنف الموجه ضد المواطنين فى تلك الفترة قد قام بالأساس فى سياق تطبيق جماعات العنف لقاعدة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .

لا يمكن القول إذن بأن العنف كان رد فعل فقط على الانتهاكات الأمنية . إنما قد تساعد انتهاكات الأمن على بروز العنف وتصاعده لكنها ليست الشرط الرئيسى لبروز العنف على النحو الذى عايشناه .

وأعتقد أن تصاعد العنف بصورة خاصة منذ 1992 حتى الآن يمكن فهم دوافعه فى تطور فكر قيادات الجماعات الإسلامية خاصة المقيمة فى الخارج والذين تزايد لديهم الاعتقاد بأن الدولة فى حالة ضعف وأنه من الممكن خلخلتها بتصعيد العنف كمرحلة تمهيدية تهيىء للاستيلاء على السلطة .

وقد عزز هذا التصور أنه رغم وقوع سلسلة من أعمال العنف ضد السياحة وضد عدد من المسئولين وضباط الشرطة فإن الدولة لم تعمد إلى توسيع إطار المواجهة مع الجماعات ، بل بدأ الحديث عن لجنة الوساطة والتفاوض ما بين الحكومة وبعض ممثلى هذه الجماعات .

ومع سيطرة هذا التصور على رؤؤس قيادات الجماعات الإسلامية عرفت مصر اتساع نطاق ظاهرة العنف بصورة لم تحدث من قبل وذلك خلال الفترة من 1992 ــ 1996 وامتد إلى غالبية محافظات الجمهورية وامتددت تهديداته لتشمل كبر المسئولين بالدولة وكبار رجال الشرطة وصغاره أيضا ، وكذلك المنشأت السياحية والاقتصادية . كما برز لاول مرة مشاركة حركة الجهاد الإسلامى فى عمليات العنف . وقد كانت تنظر من قبل إلى هذه العمليات باعتبارها تشكل تبديدا لطاقات التنظيمات الإسلامية فى الوقت الذى ينبغى تركيز الجهود فى عمليات كبيرة بهدف إسقاط الدولة .

ورأينا فى هذا السياق مشاركة حركة الجهاد الإسلامى فى محاولة إغتيال رئيس الجمهورية فى أديس أبابا ومحاولة إغتيال رئيس الوزراء ومحاولة إغتيال وزير الداخلية . وكانت هذه العمليات تعكس بالأساس فكر قيادات الخارج المنتمية لحركة الجهاد الإسلامى والتى كانت ترى أيضا أن الدولة فى حالة ضعف .

ومن ثم فإن عمليات العنف واسعة النطاق التى شهدتها مصر ل يمكن فصلها عن ذلك التصور بشأن ضعف الدولة والاعتقاد بأن تصعيد أعمال العنف من شأنه أن يعجل بعملية الأستيلاء على السلطة . ومن يقرأ كافة البيانات الصادرة عن قيادات الجماعة الإسلامية وحركة الجهاد والجماعة الإسلامية فى الخارج يلاحظ التبشير بقرب سقوط الدولة وأن الثورة الإسلامية تدق الأبواب .

على أنه يمكن القول بأنه منذ عام 1996 فإن هذه التصورات بدأت فى التراجع وتزايد الشعور بأن الدولة ليست ضعيفة كما يتصوروا ، وفى هذا السياق يمكن فهم انطلاق مبادرة وقف العنف التى صدرت من قادة الجماعات الإسلامية من داخل السجون ، هذه المبادرة تعد فى التحليل الأخير بمثابة إعادة تقدير للموقف فى ضوء موازين ما بين الجماعات الإسلامية والدولة .

فعلى حين كانت قيادات الخارج تزعم بأن ميزان القوى يسير لصالح الجماعات الإسلامية ، فقد جاءت المبادرة من قيادات السجون بمثابة تعبير عن خطأ هذا التقدير وبمثابة تأكيد على أن متطلبات الواقع الراهن تملى الحفاظ على المواقع الراهنة للجماعات الإسلامية .

ورغم أن المبادرة من هذا المنطلق تعكس أزمة حقيقية داخل الجماعات الإسلامية ، إلا أن المبادرة فى جميع الأحوال تستحق التأييد وتوجب على المجتمع المدنى ممارسة أكبر ضغوط ممكنة لحفز قيادات السجون لمراجعة الأسانيد الفقهية التى تبنوها والتى تبرر عمليات العنف ، بحيث لا تصبح المبادرة رهنا فقط بحسابات موازين القوى وتباينها .

وينقلنا ذلك للحديث عن الأسانيد الفقهية ، فهناك منظومة فكرية لدى الجماعة الإسلامية وحركة الجهاد تبرر العنف على سبيل المثال فكرة تكفير الحاكم والنظام السياسى ومن ثم ضرورة الخروج على الحاكم والقيام بأعمال عنف واسعة لقلب نظام الحكم . وهناك أيضا فكرة تغيير المنكر باليد .

وإذا انتقلنا إلى جماعة الأخوان المسلمين فعلى الرغم من اقتناعى التام بأن الأخوان المسلمين جماعة إصلاحية وليس لهم أى دور فى أعمال العنف التى تحدث الآن .، ورغم تحفظى على ما يشيعه البعض من علاقات مشبوهة ونوع من تقسيم الأدوار بين ” المتطرفين ” و “المعتدلين ” ، إلا أن ذلك لا يمنع من القول بأن جماعة الأخوان المسلمين فى حاجة بدورها إلى إلى مراجعة بعض المفاهيم أو على الأقل توضحيها وتصحيحها لنا .

على سبيل المثال هناك مفاهيم تاريخية وثيقة الصلة بوسائل الشهيد حسن البنا وخاصة ” رسالة الجهاد “. و “رسالة المؤتمر الخامس ” . وكتابات الشهيد حسن البنا عن ” معركة المصحف ” . فالملاحظ من هذه الرسائل أن هناك قبول بمبدأ الاستعداد للخروج على الحاكم بالقوة بشرط استنفاد جميع الوسائل فى حمل الحاكم على أن يحكم بموجب شرع الله . وهذه الفكرة تقترب إلى حد كبير من المنطلقات الفكرية للجماعة الإسلامية وحركة الجهاد هناك أيضا ما ورد كثيرا بكتابات حسن البنا حول ” ثلاثية القوة ” والتى حددها فى قوة العقيدة والإيمان من جانب ، وقوة الوحدة والأرتباط من جانب ثان ، وقوة الساعد والسلاح من جانب ثالث . وهذه المقولة تعكس أنه لم يكن ضد فكرة استخدام السلاح لكن ذلك مقرونا بتوافر قوة العقيدة ثم قوة الوحدة وبشرط أن يكون الوسيلة الوحيدة لإقامة الدولة الإسلامية .

والواقع أن هذه المفاهيم ليست فقط تراثا تاريخيا عن الشهيد حسن البنا بل يمكن أن نلمس انعكاسا لها فى بعض الكتابات الخاصة بقيادات حركة الأخوان المسلمين . وعلى سبيل المثال فإن الأستاذ مصطفى مشهور فى مجموعة من الكتابات المعروفة باسم سلسلة ” فقه الدعوة ” يتحدث عن الجهاد ــ بمعنى استخدام القوة ــ كضرورة لتحقيق أمرين هما إقامة الدولة الإسلامية ، وتنظيم الدعوة أو حماية تنظيم الأخوان المسلمين . وفى كتابه ” الجهاد فى سبيل الله ” صفحة 33 يقول الأستاذ مصطفى مشهور : ” ليس الجهاد لدفع الأذى فقط ولكن لأقامة الدولة الأسلامية أيضا ” . وفى صفحة 30 يقول ” الأخوان لم يتعبوا من هول المحن ولم ولن يلقوا السلاح أو يتركوا الجهاد ” . وفى كتابه أيضا ” قضايا أساسية على طريق الدعوة ” صفحة 55 يقول ” أما عن قوة السلاح فذلك أمر حتمى .. ولابد للحق من قوة تحميه وترد عدوان المعتدين ” .  نحن أذن أمام ذات المفهوم حول ثلاثية القوة وربما بنفس الشروط التى وضعها حسن البنا . فهو يحذر من التسرع فى استعمال السلاح قبل الاستعداد . وهو بذلك لا يرفض أو ينفى فكرة استخدام السلاح . وهو يقول فى كتابه ” طريق الدعوة بين الأصالة والانحراف ” فى صفحة 61 ” التسرع فى استعمال قوة السلاح ومواجهة الأعداء قبل الوقت اللازم والاستعداد اللازم إسراف وتعريض للمخاطر ” ويضيف أيضا ” التباطؤ فى مواجهة الأعداء ورد اعتدائهم بعد توافر الإعداد وتهيىء الظروف يعتبر انحراف . ” نحن إذن أمام موقف من حيث المبدأ مؤيد لاستخدام قوة السلاح ولكن بشروط إذا لم تتوافر يصبح استخدام القوة نوعا من التسرع ، ويصبح عدم استخدامها ــ مع توافر الشروط نوعا من التباطؤ .

وفى تقديرى أن مثل هذه المفاهيم تخلق التباسا واضحا حول موقف الأخوان المسلمين من العنف رغم البيانات التى يصدرونها بعد وقوع أعمال العنف .

ويتصل بهذا السياق ، ما أشار إليه المتحدثون الذين سبقونى . د. محمد عمارة تحدث مثلا عن العنف الثرى ، وأنا بصراحة لأدرى أى عنف ثورى يعنيه ؟ والأستاذ كمال حبيب تحدث عن الخروج على الحاكم ولكن بشرط الاستطاعة أو المقدرة . ويطرح ذلك تساؤلا بسيطا . فإذا كانت هناك إمكانية للخروج على الحاكم ، وإذا كان هناك ما يسمى بالعنف الثورى الإسلامى ، ما صلة ذلك بحقوق الإنسان والديموقراطية والقانون ؟ ويبقى فى النهاية من الذى يحدد توافر القدرة أو توافر الشروط للخروج على الحاكم ؟ وإذا سلمنا بما قالوا فهل يوجد فعلا خلاف حقيقي مع ما تطرحه التنظيمات الإسلامية المسلحة ؟ إن الأمر يبدو وكأن الخلاف فقط فى تقدير مدى توافر الشروط التى تستخدم باستخدام القوة ، ويصبح من منظور المتحدثين أن المشكلة فى التقدير الخاطىء لموازين القوى الذى تبنته الجماعات المسلحة .

انتقل إذن إلى المحور الأخير المتعلق بانتهاكات الأمنية . وأنا لن أتحدث عن التعذيب . والاعتقال المتكرر والمحاكمات العسكرية وأعمال التصفية الجسدية ، فكل هذه الوقائع موجودة فى تقارير وبيانات عديدة لمنظمات حقوق الإنسان ومن بينها مركز المساعدة القانونية لحقوق الإنسان . وكل هذه الأعمال محل إدانة كاملة . ولكنى اتكلم عن الانتهاكات الأمنية بالمعنى السياسى . وتقديرى أن السياسة الأمنية المتبعة حاليا وقعت فى أخطاء عديدة . فالقمع الأمنى لم يفلح فى معالجة ظاهرة التطرف المقترن بالعنف . ونلاحظ مثلا أن عدد المتهمين كان محدودا فى أعقاب إقتحام الفنية العسكرية عام 1974 . وشملت الاتهامات عشرات الأشخاص من المتهمين بالانتماء لجماعة التكفير والهجرة عام 1977 وفى أعقاب حادث اغتيالالسادات عام 1981 ارتفعت أعداد المعتقلين والمتهمين إلى بضعة مئات . والآن فى ظل تصاعد أعمال العنف فى التسعينات يصل أعداد المعتقلين إلى الآلاف ويقدرهم البعض بنحو 30 ألف شخص. وهذا التصاعد فى الأعداد من جانب وفى أعمال العنف من جانب آخر هو فى حد ذاته دليل على فشل السياسة الآمنية المعتمدة على القمع .

وإذا انتقلنا إلى تصنيف القوائم التى تضم آلاف المعتقلين سنجد بينهم مواطنين عاديين قبض عليهم لمجرد الاشتباه أو متعاطفين من منطلق دينى مع الجماعات الإسلامية إلى جانب الأعضاء العاديين فى الجماعات الإسلامية والقيادات الوسيطة والعليا فضلا عن القيادات التاريخية .

والمشكلة أن أولءك المشتبه فيهم أو حتى المتعاطفين فكريا سوف يخرجون بعد سنوات الاعتقال أكثر ارتباطا ليس فقط على المستوى الفكرى بل الحركى أيضا .

ويضاف إلى ذلك فى تقديرى خطأ آخر تمثل فى تبدل موقف الدولة تجاه الأخوان المسلمين وانتقاله من علاقة التغاطى إلى علاقة العداء فقبل ثلاث سنوات أو أكثر يمكنم القول بأن الدولة كانت تتغاطى عن نشاط جماعة الأخوان المسلمين رغم أنها على المستوى الرسمى تعتبرها جماعة غير مشروعة . وقد تطور هذا الموقف فى السنوات الأخيرة إلى حالة من العداء وجدت تعبيرها فى حملات الاعتقال لقيادات الأخوان المسلمين وتقديم بعضهم للمحاكمات العسكرية . والمشكلة هنا تكمن فى أن هذا التحول يدفع بعض الاتجاهات داخل حركة الأخوان المسلمين إلى تبنى أفكار تحبذ العنف وربما إلى التعاطف أو المشاركة فى التنظيمات الإهاربية.

ومن خلال ما أشرت إليه يمكن أن نقيم دور الانتهاكات الأمنية أو السياسة الأمنية بمعنى أصح فى تنامى وتصاعد ظاهرة العنف .

—————————————————————————————————

شهادة بحثية حول مشكلات الباحث المستقل

( نموذج من معضلات دراسة الحركة الإسلامية فى مصر ) *

المقصود ” بالباحث المستقل ” كل من يقوم بعمل بحثى دون أن ينتمى إلى مؤسسة بحثية (جامعة ــ مركز أبحاث … إلخ ) وعليه فإن المشكلة التى يواجهها الباحث المستقل ن تتمثل فى تقديرى فى كلمة وحيدة هى : ” غياب ” . فمن ناحية يعانى هذا الباحث من ” غياب ” التمويل والدعم المالى اللازم لإنجاز البحث ، ومن ناحية ثانية ” غياب ” الإشراف الأكاديمى من أساتذة متخصصين . والسطور القادمة ستعتنى بإيضاح آثار ” غياب ” كل من التمويل الإشراف الأكاديمى على عمل الباحث المستقل .

( 1) غياب التمويل = ” كلفته ” البحث :

يعانى الباحث المستقل فى مصر من ندرة الموارد المالية التى تعينه على استكمال بحثه فإذا كان الباحث المنتمى إلى مؤسسة بحثية يتلقى راتبا شهريا لنفقاته المعيشية ودعما ماليا لنفقات البحث ، فإن الباحث المستقل مطالب طيلة الفترة ما بين بدء موضوعه البحثى وإنتهائه بتوفير نفقاته المعيشية والموارد المالية اللاومة لإنجاز بحثه من مصروفات تتعلق بالعمل الميدانى أو شراء كتب ومراجع وغيرها . وإزاء هذه الإشكالية التى يواجهها الباحث المستقل ، لا مفر من أن يبيع قوة عمله فى سوق العمل أثناء اشتغاله بالبحث . وعليه فهو مطالب بتقسيم ساعات اليوم ، بعضها ينفقها فى سوق العمل لتعينه فى النفقات المعيشية وما يتطلبه البحث من مصروفات . وبعضها الآخر ينفقها فى العمل البحثى . لكن فى ظل أزمة اقتصادية طاحنة وأزمة بطالة مستشرية فى بلادنا ، فلا مفر أمام كل من يعرض قوة عمله فى سوق العمل ، إلا أن يبذل ساعات عمل أطول فى الوظيفة التى اقتنصها بشق الأنفس . لأن آخرين ــ فى سوق البطالة ــ يبدون استعدادهم دوما لبذل ساعات أطول مما نتصور فى العمل ، مدفوعين دفعا لذلك من أجل لقمة العيش .

وعليه فإن الباحث المستقل فى أقل القليل مضطر لأن ينفق ثمان ساعات فى عمل وظيفى قد لا تكون له علاقة ببحثه ، تزداد فى العادة بفعل قانون وميكانيزم البطالة خشية أن ينتهز أحد أفراد جيوش البطالة الفرصة عند أول بادرة تقاعس أو إمتناع عن الوظيفة ببذل ساعات أطول من الثمان ساعات المقررة قانونا . وإذا ما خصمنا ساعات العمل الوظيفى وغيرها التى ينفقها الإنسان خلال اليوم ( نوم ، راحة ، إلخ ) فإن ما يتبقى من ساعات ــ فى الأغلب ــ لن تكون كافية لإتمام البحث الذى من المفترض أن ينكب عليه الباحث المستقل . وعليه فإن عملية البحث تتراجع على سلم أولويات الباحث ، مفضلا عليه ــ تحت ضغط لقمة العيش ــ عمله المهنى مصدر رزقه الوحيد .

لذلك فإن مصير العمل البحثى للباحث المستقل سيكون فى هذه الحالة واحدا من اثنين : أن يتوقف كلية وينتهى إلى الفشل ، أو يخرج إلى النور وهو ضعيف ولا يضيف جديدا ، وهو ما أسميناه ” كلفتة البحث ” . فليس متصورا أن تكون محاميا أو محاسبا أو موظفا وأن تطمح فى ذات الوقت لتكون باحثا . وهذه الثنائية ( المهنى / الباحث ) التى يتصف بها عمل الباحث المستقل ، هى امتداد لظاهرة منتشرة فى المجتمع المصرى ، حيث يضطر مواطنون عديدون أن يقوموا بأعمال إضافية لا علاقة لها بتخصصهم ، مثل اشتغال بعض خريجى الجامعة بمهن حرفية كالنقاشة والميكانيكا والنجارة . وفى الواقع فإن اضطرار الباحث المستقل تحت ضغط النفقات المعيشية لأن يتولى عملا آخر ــ غير العمل البحثى ــ يجبره أن يتحول إلى باحث “هاو” يمارس العمل البحثى فى أوقات الفراغ .

( 2 ) غياب الإشراف الأكاديمى لدى الباحث المستقل = باحث من منازلهم :

يعانى الباحثون الشبان المستقلون من غياب الإشراف الأكاديمى على أبحاثهم ، فالباحث المستقل يفتقد إلى متخصص فى موضوع بحثه يساعده ويضىء له المناطق الغامضة التى تصادفه أثناء عمله البحثى . فالإشراف الأكاديمى الذى توفره المؤسسات البحثية لباحثيها الشبان ، ضرورة تفرضها قلة خبرة الباحث الشاب بالعمل البحثى . لكن الباحث الشاب المستقل يكون مضطرا أن يعمل بمفرده فى اختيار موضوع البحث ، وتحديد مشكلته ، واختيار الأدوات والمناهج البحثية التى سيعتمد عليها ، وفى هذه العملية عادة ما يكون الباحث المستقل حائرا ووحيدا ، كشخص أسقط فى مياه عميقة وهو لا يعرف فن العوم ، وعليه أن ينقذ نفسه من الغرق اعتمادا على ذاته . فالباحث المستقل عندما يشرع فى عمله البحثى يشبه إلى حد كبير حالة هذا الغريق لعدم إدراكه أو فهمه لأصول البحث العلمى .

ويزيد من تفاقم هذه المشكلة ،اهتراء العقل النقدى لخريجى الجامعات ، بفعل النظم التعليمية المتبعة التى فى رأى الدكتور حسين توفيق : ” لا تساعد فى الغالب على تنمية وتطوير القدرات والمهارات الضرورية لأى باحث ، كالحساسية الفكرية ، إزاء بعض المشكلات والقدرة على ممارسة النقد وتكوين الرأى والتعبير عنه ، والتعويد المبكر على القراءة والتعامل مع المكتبة ، فهذهالنظم تقوم فى الغالب على أسلوب التلقين والحفظ . وإلى جانب ما سبق ، فإن هناك أمرا مهما فى إعداد الباحث يتعلق بوضعية مادة مناهج البحث فى مقرارات التعليم الجامعى ، والمفترض أن تكون هذه المادة ضمن المقرارات الأساسية لأنها تتضمن تعريف الطالب إلى مناهج البحث السائدة فى مختلف فروع العلوم .

وعلى الرغم من الدور المحورى الذى يمكن أن تقوم به هذه المادة فى إعداد الباحث فإنها تأتى فى هامش المقرارات الجامعية ( 2 ) . بل إن بعض الكليات النظرية مثل الحقوق التى لا تدرس فيها هذه المادة على الإطلاق . ومع افتقاد الباحث المستقل الشاب للعقل النقدى والمعرفة بمناهج البحث ، تكون مهمته فى العمل البحثى ضربا من المستحيل . خاصة فى ظل غياب الإشراف الأكاديمى الذى توفره المؤسسات البحثية لباحثيها الشبان ، ووضع الباحث المستقل فى هذه الحالة ــ غياب الإشراف الأكاديمى ــ يماثل وضع الطلبة ” الدارسين من منازلهم ” المطبق فى الثانوية العامة .

( 3 ) المعضلات التى واجهت البحث :

المادة الميدانية لهذا البحث ” العلاقة بين تيار الجهاد وجماعة الأخوان المسلمين ” والتى هى قيد الجمع تستلزم إجراء مقابلات معمقة مع قادة وكوادر تيار الجهاد والإخوان ، وإجراء مسموح ميدانية على مناطق نفوذ كل من التيارين ، فضلا عن جمع الوثائق السرية لهما .. وقد شرع الباحث بالفعل فى جمع المادة الميدانية منذ عامين مضيا . وهذه الفترة ــ عامان ــكان من المفترض أن ينتهى البحث خلالها . لكن صعوبات جمة حالت دون ذلك ، يمكن تقسيمها إلى المحاور التالية :

1 – الدعم المالى للبحث :

كما سبق أن أشرنا ، فإن مشكلة الباحث المستقل ــ خصوصا الشاب ــ فى بلادنا تنبع أساسا من عدم وجود مؤسسات بحثية تدعم عمله البحثى وتوفر له النفقات اللازمة . وتتفاقم المشكلة إذا كان البحث فى مجال العلوم الاجتماعية ، وما يترتب عليه من ضرورة القيام بمسح ميدانى . وهذا النوع من الأبحاث تزداد نفقاته ، على العكس من الأبحاث التى تعتمد على العمل المكتبى. وطيلة الفترة الماضية عاى الباحث من عدم قدراته المالية على الوفاء بمتطلبات المسح الميدانى اللازم لإنجاز بحثه ، مما عرضه مرات عديدة للتوقف .

2 ــ جمع مادة البحث :

من أبرز المشاكل التى واجهها هذا البحث، الحصول على معلومات كافية عن موضوع البحث. فتيار الجهاد على سبيل المثال يخوض حربا أشبه بحرب العصابات مع الدولة . وينفذ منذ فترة عمليات اغتيال لعدد من المسئولين ، والدولة من جانبها تتبع سياسة التصفية الجسدية لقادة هذا التيار ، فضلا عن حملات الاعتقال الواسعة النطاق . وإذا ما أتينا إلى جماعة الأخوان المسلمين ، سنلحظ أيضا صعوبة ( لكن أيسر نسبيا ) فى معرفة أفكارها وسياساتها نظرا لاستمرار قرار حظر وجودها رسميا . أى موضوع دراستنا ــ وهو الجهاد والإخوان ــ يتعلق بجماعات غير شرعية ، ومن الصعوبة بمكان أن تحصل على وثائق الجماعتين ، بل إن ظروف العمليات العسكرية المسلحة بين تيار الجهاد والدولة تجعل اللقاءات مع قادة هذا التيار مخاطرة ومغامرة غير مضمونة عواقبها . بمعنى آخر فإن موضوع البحث لا يتعلق بظاهرة تنتمى إلى الماضى ، انتهت حركتها مما يسهل دراستها والحصول على المعلومات عنها ، إنما ظاهرة تنشط فى الواقع وتتطور بسرعة من مرحلة لآخرى دون أن تتيح لمراقبيها فرصة التقاط الأنفاس لرصدها أو لتحليلها . لذلك فإن المعضلات التى واجهها الباحث فى جمع مادة دراسته ، كانت عديدة ومتنوعة . ويمكن تلخيصها فى النقاط التالية :

أ ــ الحصول على الوثائق وإجراء المقابلات :

توقف البحث لفترات عديدة ، بفعل التعقيدات البالغة التى واجهها الباحث فى جمع المعلومات التى اعتمد عليها من خلال وثائق تيار الجهاد والمقابلات مع قادة هذا التيار . وكان البحث يتقدم أحيانا بفضل الحصول على وثائق جديدة أو إجراء مقابلات مع قادة هذا التيار . لكن الواقع الأمنى المتدهور منذ فترة ليست قصيرة جعل هذه المقابلات تتم على فترات متباعدة تمنع انسجام الحوار ، فضلا عن إجرائه فى حالة القلق البلغ من الباحث والمبحوث . فالأول يخشى من بطش أجهزة الأمن التى لا تستوعب ــ عادة ــ أهمية البحث وتستعد دوما لتلفيق الأتهامات ، والثانى ــ المبحوث ــ مطارد ومطلوب للاعتقال ، هذا فضلا عن تغير أشخاص المبحوثين ، إما لصعوبة لقائهم مرة أخرى لهروبهم ، أو لتعرضهم للقتل أو الإعتقال فمثلا كان الباحث ينوى إجراء مقابلات مع من يتولى منصب أمير محافظة أسيوط ، نظرا لأن هذه المحافظة من ناحية ذات نفوذ تاريخى ومعتقل لتيار الجهاد ، ومن ناحية ثانية تشتبك فيها الجماعتان ( تيار الجهاد والإخوان المسلمين ) ويتنافسان عليها ، ومن ثم كانت هذه اللقاءات بالغة الأهمية للبحث لأنها تتعلق مباشرة بموضوعه . وقد نجح الباحث فى الأتصال أمير أسيوط ، وبعد لقائه الأول اعتقل . وبعد فترة تمكن من الاتصال بمن تولى المنصب بعده ، إلا أن الاعتقال طاله قبل اللقاء . أما ثالث الأمراء الذى حاولنا الاتصال به وعقدنا معه اللقاء الاول فقد غادر البلاد إلى أفغانستان ، ومن هناك يدير الصراع الجارى الآن فى أسيوط وغيرها . وهذا الوضع تكرر مع الدكتور علاء محيي الدين المتحدث الرسمى للجماعة الإسلامية الجهادية ومسئول الإعلام بها ، وقد كان مادة غنية للبحث فى اللقاءات التى تمت معه ، إلا أن رصاصات الشرطة طالته فى نهاية عام 1991 .

ب ــ تدخل أجهزة أجهزة الأمن ( التهديد بالاعتقال ) :

الباحث المنتمى إلى مؤسسة بحثية معترف بها من قبل الدولة ، تكون مهمته ــ فى العادة ــ أسهل نسبيا فى الاطلاع على المعلومات التى تحوزها أجهزة الأمن ، كما تمنحها هذه المؤسسة لحماية القانونية أثناء إجراء البحث . ومن ثم تغل يد ــ أو تحد ــ من تدخل الأجهزة الأمنية فى عمله البحثى ، بحكم شرعية المؤسسة التى تظلل بالضرورة على باحثيها ، إلا أن الباحث المستقل لا يفتقد فقط الحماية لا يفتقد فقط الحماية التى توفرها المؤسسات البحثية ، بل ينظر إليه بعيون يملأها الشك خلال عمله ، خاصة إذا كان البحث يتعلق بموضوع الحركة الإسلامية التى تعتبرها الأجهزة الأمنية حركة ذات مخاطر استثنائية وتضعها علىسلم أولويات عملها الأمنى .

وللباحث تجربة فى هذا الشأن مع الأجهزة الأمنية التى تتسم عادة بضيق الأفق واحتقار العمل البحثى باعتباره عملا بلا فائدة من ورائه ، فمحاولت الباحث فى الحصول على وثائق الحركة الإسلامية وإجراء لقاءات مع قادتها لم تكن بعيدة عن عيون أجهزة الأمن ، التىبادرت باستدعائه إلى مكاتبها فى مقرها بشارع جابر بن حيان فى منطقة الدقى بتاريخ 11 نوفمبر 1992 وكانت المناقشة ــ أو الاسئلة ــ التى دارت بين الباحث ومسئولى مكتب التطرف الدينى المعنى بمتابعة الحركة الإسلامية ، تتمثل فى المحاور التالية :

  • ضرورة التعاون الدينى مع الأجهزة الأمنية ومدها بالوثائق والمعلومات عمن التقى بهم من قادة تيار الجهاد .
  • الإبلاغ عن الأشخاص الذين ألقاهم مستقبلا وأماكن اللقاءات المزمعة .
  • فى حالة الرفض فإن مخاطر الاعتقال واردة ( وردت فى الحديث ضمنيا ) بزعم أن المقابلات التى أجراها الباحث مع تيار الجهاد كانت تستهدف حوارا بين الشيوعيين وتيار الجهاد وأننى منسق هذا الحوار .

فى المقابل فإن الأجهزة الأمنية ستمد الباحث بما لديها من وثائق ومعلومات .

وبعد انتهاء الأسئلة وتقديم الطلبات كان موقفى الرفض . وانتهت المقابلة ولم تنفذ تهديدات الاعتقال . وقد يكون السبب هو عملى فى منظمة حقوق الإنسان وما سيجر عليهم اعتقالى من حملات تضامن دولية فى هذا الشأن . فمن المعروف أن هناك قواعد ترعاها هيئة الأمم المتحدة وغيرها من منظمات حقوق الإنسان الدولية ، تحتج بموجبها هذه المؤسسات على اعتقال نشطاء حركة حقوق الإنسان فى العالم .

لكن عدم الاعتقال ورفض التعامل ــ يحلو للأجهزة أن تسميه تعاونا ــ مع الأجهزة الأمنية ، لم يعن الكف عن ” التنغيص ” وإرباك البحث ، ففيما يبدو فإن أحد أفراد هذه الأجهزة قد تفتق ذهنه عن حيلة ماسخة ، تمثلت فى إبهام عدد من قادة وكوادر تيار الجهاد بأن الباحث يتعاون مع هذه الأجهزة وذلك ناء التحقيق معهم فى مقار مباحث أمن الدولة . حيث زعم أن الباحث سرب للأجهزة بعض المعلومات ، ولأن الحيلة كانت تتبع مع أفراد أثناء التحقيق الذى يلازم بالقطع التعذيب وخلافه فلم يكن أمامهم الفرصة للتمعن واكتشاف سخف هذه الحيلة . فبعد عودة هذه الكوادر إلى السجن ومن خلال محاميهم الذين التقوا بهم فى محبسهم أثاروا شكوكا حول الباحث وتعاونه مع الأمن ، مما أوقف لفترة طويلة تعاون جماعات الجهاد مع الباحث ، وقد احتاج حل هذه المشكلة وقتا طويلا لتوضيح الأمر ، حتى تمكن الباحث فى النهاية المطاف من إقناع كوادر الجهاد بحقيقة الموقف .

ج ــ البحث بين السياسة والعلم :

المهمة الأساسية للبحث العلمى هى التعرف على المشكلات المثارة فى المجتمع وغيرها من الظواهر بهدف تحليلها وتقديم الحلول المناسبة ، والبحث العلمى بهذا المعنى له شروط لإتقان إنجازه ، لعل أهمها تحلى المتصدى لعملية البحث بالموضوعية والتجرد عن وازع التحيز السياسى ، وبهذا المعنى أيضا فالبحث كعلم يختلف عن السياسة والعمل السياسى ، ويعد الخلط بينهما عملا فاضحا ويفقد البحث معناه العلمى ويهدر وظيفته الأساسية .

وتثور هذه المشكلة ــ الخلط بين البحث العلمى والعمل السياسى ــ عندما تكون مشكلة البحث موضوعا سياسيا واجتماعيا يتفاعل مع الواقع ، ولا يخفى على كل متابع أن الحركة الإسلامية من أنشط الحركات السياسية فى الواقع المصرى الآن . ولأسباب شتى منها اشتباكها مع الواقع وفعاليتها ، تتعدد الكتابات عنها . وربما يتأثر كثير من هذه الكتابات بالمواقف السياسية لأصحابها . ومن ثم تثور صعوبة الاعتماد عليها أحيانا . وهى ظاهرة شريرة تبرز فى المجتمع المصرى ، حيث أخضع عدد من الكتاب البحث كعلم للسياسة بكل ما فيها من ضيق رؤية وتحيز .

وفيما اعتقد فإن الحركة الإسلامية هى أكثر الحركات السياسية التى تأثرت بهذه الظاهرة . ومن ثم يصعب العتماد على كثير من الكتابات فى هذا الشأن ، سواء جاءت من خصوم الحركة الإسلامية أو من المتعاطفين معها . وهذه الظاهرة ــ الخلط بين السياسة والعلم ــ لا تتوقف عند تناول الحركة الإسلامية فى الحاضر ، بل تمتد لتشملها فى بعض الأحيان فى الماضى أيضا .

ولعل بعض كتابات الدكتور رفعت السعيد عن حركة الإخوان المسلمين ، والتى اتهمت عددا من قياداتها الحالية بإدارتهم للجناح العسكرى السرى الذى يتشكل من جماعات الجهاد ، تقدم مثالا لهذا التحيز . فالدكتور رفعت هو المؤرخ المعروف لم يجهد نفسه فى التدليل على هذا الإدعاء . ومن الجانب الآخر فإن كتابات الإخوان المسلمين التى تضمنت نفيا لوجود جهاز سرى فى الماضى قام بأعمال إرهابية ضد مواطنين ، ولتأثير كتابات قطب على الجماعات الإسلامية الحديثة ، تقدم مثالا للكتابات المتحيزة من الجانب الآخر .

د ــ البحث والإعلام :

وظاهرة الخلط بين السياسة والبحث كعلم ، نجد مثلها فى التغطيات الصحفية والتحليلات والمقالات التى تنشرها الصحف والمجلات عن الحركة الإسلامية . حيث نلحظ انقساما واضحا فى المعالجة العميقة للأحداث التى تكون الحركة الإسلامية طرفا فيها ، ما بين معارض ورافض لهذه الحركة وبين متعاطف معها ، حتى يمكن القول بأن الاعتماد الأرشيف الصحفى كمصدر من مصادر البحث بات مستحيلا . وفى المناخ المتأزم والمنقسم ، لا يقبل رأى موضوعى طالما لم يدعم اتجاه الجريدة أو المجلة المتعاطف أو الرافض .

فمثلا عندما بادر الباحث بنشر جزء من البحث فى مجلة ” اليسار ” القاهرية ( 3 ) عن الحركة الإسلامية بموضوعية ــ كلما أمكن ذلك رغم أنه من الناحية السياسية يعد خصما فكريا لهذه الحركة ــ لم يعجب ذلك أحد الصحفيين فى مجلة ” روز اليوسف ” فاتهم بإجراء حوار سرى بين ” الشيوعيين ــ ووفقا للمجلة كان الباحث أحد ممثليهم ــ و ” الجماعات المتطرفة ” .

وقد أطلق الصحفى لذاته الخيال قائلا : ” يدور الآن حوار سرى بين بعض رموز اليسار وعدد من أعضاء الجماعات المتطرفة قد يؤدى لتحالف بينم الشيوعيين والإسلاميين ( 4 ) . وقد استند المحرر لإثبات مشاركتى فى هذا الحوار السرى لعدة فقرات وردت فى دراستى المنشورة بمجلاليسار . وهذه الفقرات كانت تدور حول تحليل السياسة الأمنية ودورها فى تضعيد عنف الإسلاميين حيث تقوم باعتقال الكوادر الحركية والمتعاطفين معها وتضعهم معا فى السجون ، تتيح للمتعاطفين الفرصة خلال احتجازهم فى السجون ليكتسبوا خبرات مذهلة حركيا ويتطوروا فكريا بفعل المحاضرات التى يلقيها عليهم الكوادر العليا لهذه الجماعات والموجودين معهم فى نفس السجن . واختتمت كلامى فى هذا الشأن بالقول بأن تحليلى لما يحدث فى السجون وملاحظاتى فى هذا الشأن لا يجب أن يفهم على أنه دعوة لأجهزة الأمن للتضييق على المعتقلين داخل السجون . لكن الصحفى النابه ، رأى أن مقتضيات الحوار قد جعلتنى على حد تعبيره لا أسجل ملحوظات لدعوة أجهزة الأمن للتضييق على عناصر هذه الجماعات داخل السجون . وعليه ــ واستنادا إلى رأى الصحفى ــ فليس أمام الباحث لنفى مشاركته فى حوارات سرية ــ مع ملاحظة أنها تقع تحت طائلة القانون ــ إلا أن يتحول من باحث إلى مرشد للمباحث !! كما وصف المحرر الباحث بأنه ” معجب ” بتلك القدرة التنظيمية الفائقة التى تنفذ بها جماعات التطرف الدينى عملياتها الإرهابية ” .

الإسلاميون من جانبهم رأوا فى الدراسة المنشورة للباحث ” نقدا غير موضوعى وتشهيرا بهم ” فأوقف بعض فصائلهم مد الباحث بالوثائق التى يصدرونها احتجاجا على ما نشر .

وبهذا المعنى فإن الشعار السائد حاليا ” من ليس معنا فهو ضدنا ” يمنع ويغل يد الباحث المستقل عن العمل البحثى فجميع الأطراف سواء المبحوثين أنفسهم ( الإسلاميين ) أو أجهزة الأمن أو فريق من اليسار ، لا تقبل سوى أن تؤيد موقفها . وفى هذا المناخ لا توجد فحسب صعوبات فى إنجاز البحث العلمى ، بل فى مجرد ظهوره من الأصل ! .

محتوى المدونة منشور برخصة المشاع الإبداعي نَسب المُصنَّف 4.0