ورقة مفاهيمية عن مكافحة اﻹفلات من العقاب

Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter

ورقة مفاهيمية عن

مكافحة اﻹفلات من العقاب

إعداد: عماد مبارك

مدخل

يعتمد السلم الاجتماعي لأي مجتمع على أمن وأمان أفراده ومؤسساته الذي يعني توفر الحماية من وقوع أي تعد على سلامتهم أو حقوقهم من قبل الغير. وتتحقق هذه الحماية من خلال القانون عن طريق الردع المتمثل في ترتيب عقوبات مناسبة لكافة الأفعال التي تعد تعديا على سلامة وحقوق الآخرين. نجاح هذا الرادع القانوني في تحقيق أهدافه يحول دون أن يلجأ الأفراد أو المؤسسات إلى أي سبل أخرى لحماية سلامتهم أو حقوقهم بما في ذلك العنف، ومن ثم فهو أحد المقومات الرئيسية لانفراد الدولة باستخدام العنف داخل حدود الإقليم الذي تشمله سيادتها، وحيث أن هذا الانفراد باستخدام العنف هو بالتعريف أحد الأسس التي تقوم عليها الدولة الحديثة، يظل الرادع القانوني ركنا رئيسيا لقيام هذه الدولة وبقائها، ويمثل أي خلل كبير به خطرا داهما عليها.

الإفلات من العقاب، في أبسط تعريف له، هو ببساطة أن يخفق الرادع القانوني في التحقق على أرض الواقع. فالنص القانوني على الورق هو مجرد وعد، بأنه إذا وقع فعل ما، وجب محاسبة مرتكبه ومعاقبته بالصورة التي يحددها النص. على أرض الواقع يحيا النص بتطبيقه. فإذا لم يُطبق النص القانوني لم تعد له حتى قيمة الحبر الذي كتب به. و ينبغي أن نوضح هنا التأكيد عل أنه على عكس ما توحي به عبارة الإفلات من العقابمن أنها تتعلق بمرتكب جرم نجح في الإفلات من تعقب القانون له لمعاقبته، فإن المفهوم الذي يعنينا هنا يتعلق بإخفاق المنظومة التنفيذية للقانون. فنجاح مرتكب جريمة في الهرب من وجه القانون أو التحايل على إجراءات تنفيذه، وهو أمر وارد، لا يهدد الرادع القانوني، بل يمثل الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. ولكن أن تخفق المنظومة التنفيذية والقضائية في محاسبة وعقاب مرتكبي الجرائم دون حاجة هؤلاء للهرب أو التحايل، هو ما يمثل خللا يهدد الرادع القانوني من حيث المبدأ. وبعبارة أخري، يتحقق الرادع القانوني بتوافر ثقة أفراد المجتمع في المنظومة القائمة على تنفيذه، وتحديدا في أن الأصل ألا يفلت الجناة من المحاسبة والعقاب، ولا تهتز هذه الثقة بسبب حالات عابرة متفرقة ولكنها تنهار تماما عندما يكون إخفاق هذه المنظومة متكررًا ومنهجيًا وذو أنماط واضحة ومتوقعة.

تتناول هذه الورقة إذن الإفلات من العقاب كظاهرة وليس كحالات منفردة متفرقة، وتسعى لفهم العوامل المؤدية لتفشي الإفلات من العقاب في أحد المجتمعات، وإلى إيضاح أثر ذلك على المجتمع والدولة. ونظرا لأن الإفلات من العقاب هو بالأساس مفهوم سلبي، بمعنى أنه يشير إلى غياب شيء وليس إلى وجود مستقل له، فنحن هنا نناقشه في إطار مفهومين إيجابيين رئيسيين يرتبط بهما بشكل وثيق وهما سيادة القانون، والعدالة الانتقالية. وفي حين أن المفهوم الأول هو ركن أساسي لوجود واستمرارية الدولة الحديثة، فالثاني قد رسخ وجوده كأداة رئيسية لاستعادة وجود هذه الدولة وضمان استمراريتها عندما تتعرض لخطر الانهيار أو تنهار بالفعل تحت وطأة الانتهاكات الفادحة المنهجية لحقوق مواطنيها وغياب السلم الأهلي، واستبداله بالنزاع المسلح والحرب الأهلية.

وتهدف الورقة بالأساس إلى تخطي الفهم التقليدي المبسط للإفلات من العقاب وإلى إظهار تعقيد هذه الظاهرة وتشابكها مع أوجه عديدة للفساد المؤسسي والانقسام المجتمعي والقمع، ومن ثم تدعو القارئ إلى فهم الظاهرة بشكل أعمق واستشعار مدى خطورتها على المجتمع والدولة والأفراد.

الإفلات من العقاب وسيادة القانون

سيادة القانون وفق الأمم المتحدة هي مبدأ للحكم يكون فيه كل الأشخاص، والمؤسسات والكيانات، العامة والخاصة، بما في ذلك الدولة نفسها، قابلون للمحاسبة وفق القوانين المعلنة والمطبقة بشكل متساو والمحكمة في كل حالة بشكل مستقل، والمتسقة مع معايير وقواعد حقوق الإنسان الدولية.”1 بعبارة أخرى سيادة القانون هي تجسده وتحققه في الواقع العملي، من خلال خضوع الكافة له وقابليتهم لأن يحاسبوا أمامه. وفي إطار مبدأ سيادة القانون يمكننا تعريف الإفلات من العقاب بأنه استثناء بعض الأفراد أو المؤسسات أو الكيانات من القابلية للمحاسبة أمام القانون. ووفق هذا التعريف يكون الإفلات من العقاب هو النقيض الأساسي لسيادة القانون، وهو المعول الذي يمكنه هدم هذه السيادة، فالسيادة تشترط الشمول الكامل دون استثناء.

التعريف السابق ذكره لسيادة القانون يوضح أيضا ارتباطها الوثيق بمبدأ المساواة أمام القانون. فسيادة القانون ينبغي أن تتجاوز كل صور التفاوت بين مكونات المجتمع من حيث النفوذ الذي يمكن أن يتأتى بسبب السلطة أو الثروة أو العصبية بصورها الدينية أو القبلية أو الجهوية. ولأن صور التفاوت هذه فاعلة بقوة في الواقع اليومي، كما أن لها أشكالها المؤسسية التي تعمل من خلالها، فتجاوزها ليس أمرا سهلا في كثير من المجتمعات، ولذا فالمدخل الرئيسي لوجود الإفلات من العقاب على أرض الواقع هو نجاح محاولات استغلال النفوذ الذي توفره التفاوتات المذكورة لارتكاب أفعال تنطوي على اعتداء على الآخرين دون التعرض للمحاسبة أمام القانون.

يظهر الإفلات من العقاب القائم على تفاوت حاد في النفوذ بين فئات المجتمع بصفة خاصة وأكثر تكرارية ووضوحا في المجتمعات التي تخفق من خلال تشريعاتها والمؤسسات القائمة على تنفيذها في حماية الأقليات، أو الفئات الأضعف. الأمثلة الرئيسية منها العنف ضد المرأة كظاهرة يتكرر إفلات مرتكبي جرائمها من العقاب بشكل منهجي، بسبب الذكورية السائدة في المجتمعات بدرجات متفاوتة. كذلك يفلت مرتكبو جرائم العنف الطائفي والعنصري بشكل متكرر ومنهجي في كثير من المجتمعات. ويندرج تحت هذه الأمثلة أيضا العنف ضد الأقليات الجنسية.

الإفلات من العقاب القائم على التمييز بين فئات اجتماعية يقوض بصفة خاصة الدور الرئيسي لسيادة القانون كأداة لتحقيق الوحدة والتماسك الداخلي للمجتمع في ظل الدولة الحديثة القائمة على مبدأ المواطنة. وفي المجتمعات التي تشهد توترا ونزاعات طائفية وإثنية حادة، يمثل الإفلات المنهجي من العقاب، خاصة إذا ما عكس انحيازا واضحا لمؤسسات الدولة، مدخلا رئيسيا إلى تطور النزاعات الطائفية والإثنية بصفة خاصة إلى صور أكثر حدة من الاحتراب الأهلي.

التفاوت في النفوذ كما ذكرنا يمكن أن يتجسد من خلال أشكال مؤسسية، وأوضح هذه الأشكال هي مؤسسات الدولة نفسها التي تتمتع بالنفوذ بموجب السلطة التي تمنح لها بالأساس لممارسة دورها الوظيفي. ويصعب التعامل مع الانتهاكات والجرائم التي يرتكبها موظفون في مؤسسات الدولة وبخاصة تلك التي تجسد احتكار الدولة لممارسة العنف مثل المؤسسات الأمنية والعسكرية. فقبل أي شيء قد تتم هذه الانتهاكات والجرائم في منطقة رمادية تتداخل فيها مع أداء أفراد هذه المؤسسات لعملهم الاعتيادي. وتتجلى رمادية هذه المواقف بصفة واضحة في المصطلحات القانونية المستخدمة للإشارة إلى الأفعال المجرّمة، مثل الاستخدام المفرط للقوةومثل القتل خارج إطار القانونوهذه المصطلحات تشير إلى أن الفعل المقصود هو في الأصل قانوني ولكنه خرج بشكل استثنائي عن الغطاء القانوني الممنوح له. وذلك على عكس ما يكون عليه الحال إذا ما ارتكب الفعل نفسه أفراد من غير موظفي هذه المؤسسات، فهو في هذه الحالة يكون جرما صريحا وواضحا، فيكون تعديا أو قتلا فحسب.

رمادية تعريف الأفعال على أنها خروج على القانون عندما يتعلق الأمر بمؤسسات الدولة يمتد أيضا إلى إجراءات المحاسبة والعقاب. فعادة ما تمر عملية المحاسبة بمرحلة للتحقيق الداخلي قبل الوصول إلى المؤسسات القضائية التي بخضع لها كافة المواطنين، وفي بعض الحالات لا تخرج عمليات المحاسبة والعقاب في جميع مراحلها خارج أسوار المؤسسة ذاتها، وهو الحال مع المؤسسة العسكرية التي تنفرد بمحاسبة أفرادها بشكل كامل من خلال نظام قضاء عسكري خاص بها، بل إن هذه المؤسسة قد تتمسك بمحاسبة وعقاب المدنيين إذا ما ارتكبوا أفعالا تعتبرها تعديا عليها. وكثيرا ما تضع المؤسسات الأمنية والعسكرية حتى في الظروف الاعتيادية في اعتبارها إحداث توازن بين الحاجة إلى محاسبة وعقاب أفرادها عند ارتكابهم لتجاوزات أو انتهاكات أو جرائم وبين حاجتها إلى ضمان ولاء أفرادها للمؤسسة، وهو ما يؤدي إلى قدر من التساهل يصبح منهجيا عندما يتم التفريق بين تجاوزات أفراد المؤسسة ضد من خارجها وبين تجاوزاتهم الداخلية في حالات مثل عصيان الأوامر أو التعدي على من هم أعلى رتبة إلخ.

يخرج الإفلات من العقاب فيما يتعلق بجرائم موظفي مؤسسات الدولة عن نطاق تساهل هذه المؤسسات نفسها مع أفرادها ليصبح منهجا للدولة نفسها، في ظل الأنظمة القمعية التي تستخدم مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية لقمع معارضيها وحماية النظام القائم. فأولا تمتد الانتهاكات والجرائم التي ترتكبها هذه المؤسسات إلى نطاق أكثر اتساعا، ويخرج معظمها عن المنطقة الرمادية التي يوفرها القانون. وثانيا تضعف بشدة أو تتلاشى كليا رقابة مؤسسات الدولة الأخرى سواء كانت نيابية أو قضائية على هذه المؤسسات، فبقدر غياب الممارسات الديموقراطية تصبح السلطة التشريعية مجرد أداة لتفصيل القوانين لصالح النظام الحاكم، ويتخلى نواب البرلمان طواعية عن دورهم الرقابي على مؤسسات الدولة أو يمارسون هذا الدور بصفة صورية ويستخدمونه لتجميل صورة النظام ومؤسساته الأمنية والعسكرية. وبقدر غياب استقلال المؤسسة القضائية، تضمحل قدرتها على محاسبة وعقاب أفراد المؤسسات الأمنية والعسكرية عند ارتكابهم لانتهاكات أو جرائم، وقد يصل الأمر إلى التواطؤ الصريح أو حتى الخضوع التام لإملائات هذه المؤسسات.

في ظل الأنظمة القمعية وبقدر سيطرة هذه الأنظمة على مؤسسات الدولة المختلفة يتحول الإفلات من العقاب إلى منهج اعتيادي يمتد غطاؤه إلى كافة ممارسات مسؤولي المؤسسات المختلفة، ففي مقابل خدماتهم خارج إطار القانون للنظام الحاكم، يتوقع هؤلاء أن يحققوا مصالحهم الشخصية دون محاسبة على أية جرائم أو انتهاكات، يتفاقم الأمر بالضرورة بالنسبة لموظفي المؤسسات الأمنية الذين تصبح ممارساتهم محمية بصفة عامة ويزول التمييز بين ما يكون من هذه الممارسات تحقيقا لمصالح النظام أو ما يكون تحقيقا لمصالح فردية، فعادة ما يكون من الصعب وأحيانا من المستحيل تجزئة الحصانة الممنوحة لهم.

تنتقل عدوى تحقيق المصالح خارج إطار القانون إلى فئات أخرى بخلاف موظفي مؤسسات الدولة في ظل تآكل سيادة القانون مع تفشي الإفلات من العقاب كظاهرة منهجية. فيسعى أصحاب المصالح المختلفة إلى تحقيقها من خلال التقرب من موظفي مؤسسات الدولة أصحاب الحصانة ضد المحاسبة والعقاب، ومن خلال ربط مصالح هؤلاء الموظفين بمصالحهم. وتنشأ بذلك شبكات متداخلة من العلاقات المصلحية التي تحقق أغراضها غالبا بتجاوز القوانين ومن ثم تختفي سيادة القانون من الواقع العملي للحياة اليومية للمجتمع.

آليات الإفلات من العقاب

السياقات المشار إليها سابقا لظهور الإفلات من العقاب في مواجهة مبدأ سيادة القانون، يوزايها ويرتبط بها بشكل وثيق آليات مختلفة يترسخ من خلالها الإفلات من العقاب كظاهرة منهجية، وفي التالي نستعرض بشكل مختصر هذه الآليات.

1- الإخفاق التشريعي: هو ألا تغطي تشريعات الدولة بعض الأفعال التي تمثل تعديا على الأفراد أو الجماعات أو انتهاكا لحقوقهم. ويكون ذلك تغييب لسيادة القانون من حيث المبدأ، حيث تنفصم العلاقة بين القانون وبين مفهوم العدالة والإنصاف. قد يحدث الإخفاق التشريعي لمجرد عدم قدرة المجتمعات على مواكبة تطورها الاجتماعي بسن تشريعات تواجه ظواهر مستجدة، أو تتعامل مع مشاكل مزمنة تجاوزها الوعي الإنساني المتطور في مواجهة التقاليد والعادات المتوارثة. وقد يحدث عندما تعكس المؤسسات التشريعية أجندة معادية صراحة لحقوق الإنسان وبصفة خاصة فيما يتعلق بالأقليات والفئات المستضعفة، وأخيرا يحدث الإخفاق التشريعي بأكثر صوره فجاجة في ظل الأنظمة القمعية عندما تعمل المؤسسة التشريعية في خدمة هذه الأنظمة ويصل الأمر إلى إصدار قوانين تشرعن الجرائم والانتهاكات التي يرتكبها النظام، فتمنح الجهات التنفيذية سلطات أوسع وتعرقل محاسبة أفرادها أو تمنحهم حصانة قانونية صريحة.

2 – إخفاق مؤسسة القضاء: هو ألا تتمكن مؤسسة القضاء أو تتواني أو تمتنع بالكلية عن أداء دورها الأساسي وهو تحقيق سيادة القانون من خلال إنفاذه وتطبيقه حتى في مواجهة انتهاكات المؤسسات الأخرى للدولة. وعادة ما يكون إخفاق القضاء في أداء دوره عائد إلى انتقاص أو غياب استقلاليته بالكلية، ولكن في أحيان أخرى يكون غياب استقلال القضاء عائد إلى تداخل المصالح الفئوية لأفراد السلطة القضائية مع مصالح غيرهم من موظفي الدولة، أو انحيازهم الصريح لأجندة ما للنظام الحاكم مما يقوض حيدتهم.

3 – إخفاق المؤسسات التنفيذية: هو النمط الأكثر شيوعا بين آليات الإفلات من العقاب، وهو ألا تتمكن المؤسسات التنفيذية أو تتوانى أو تمتنع عن أداء دورها في إنفاذ القانون، وبصفة خاصة في محاسبة وعقاب أفرادها حال انتهاكهم للقانون أثناء أداء وظائفهم. يتطور الأمر كما أشرنا سابقا إلى إخفاق منهجي مع دأب المؤسسات التنفيذية على تحصين أفرادها ضد المحاسبة والعقاب لضمان ولائهم، ثم يصبح سياسة مؤسسية في ظل الأنظمة القمعية عندما يصبح انتهاك القانون بصفة منهجية أحد الأدوات التي تستخدمها المؤسسة في عملها اليومي.

4 – الإخفاق المجتمعي: وهو انخراط الفعاليات الاجتماعية المختلفة في ممارسات تعتمد على تعميق التمييز الطائفي والعرقي والطبقي والجندري، إلخ، مما يخلق بيئة خصبة لنمو ممارسات الإفلات من العقاب، ففي أحيان كثيرة تستخدم فعاليات أهلية مختلفة رديفها الشعبي للضغط في سبيل إفلات ممثلي انحيازاتها من العقاب على جرائم ارتكبوها، كما تضغط لاستخدام آليات تحكيم خارج إطار القانون تفتقد إلى أي ضمانات للعدالة. مثل هذه الممارسات وغيرها تنشئ علاقات وثيقة بين ممثلي فئات شعبية مختلفة وبين موظفي مؤسسات الدولة لتبادل الدعم في تحقيق مصالح ضيقة، مما يفوت فرصة أن تمارس قوى المجتمع نفسه أي دور للضغط في سبيل إقرار سيادة القانون ومواجهة سياسات الإفلات من العقاب.

الإفلات من العقاب وعملية العدالة الانتقالية

في سنة 22004 عرف اﻷمين العام للأمم المتحدة العدالة الانتقاليةبأنها تشمل كامل نطاق العمليات واﻵليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهم تركة من تجاوزات الماضي الواسعة النطاق بغية كفالة المساءلة وإحقاق العدل وتحقيق المصالحة“. كما شدد اﻷمين العام على أن الاستراتيجيات المنتهجة في سياق العدالة الانتقالية يجب أن تكون شمولية. بحيث تتضمن الاهتمام على نحو متكامل بالمحاكمات الفردية ووسائل الجبر وتقصي الحقيقة واﻹصلاح المؤسسي وفرز الموظفين لتثبيتهم أو فصلهم. أو مزيجا مدروسا على النحو الملائم من هذه العناصر. وأيا كان المزيج الذي يتم اختياره فإنه يجب أن يكون متوافقا مع المعايير والالتزامات القانونية الدولية. وينبغي أن تسعى العدالة الانتقالية إلى النظر بصورة أكثر شمولا في اﻷسباب الجذرية للنزاعات وما يرتبط بها من انتهاكات لجميع حقوق اﻹنسان. بما فيها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فضلا عن الحقوق المدنية والسياسية. ومثلما أشارت مفوضية اﻷمم المتحدة السامية لحقوق اﻹنسان فإن العدالة الانتقالية يجب أن تطمح بواسطة تدابير تحقق مستقبلا عادلا. كما يجب أن تتناول هذه العدالة الجرائم والانتهاكات التي ارتكبت خلال فترة النزاع التي أدت إلى عملية العدالة الانتقالية وتتجاوزها لتناول انتهاكات حقوق اﻹنسان التي سبقت فترة النزاع وسببت حدوثها أو ساهمت في ذلك3.

العدالة الانتقالية هي إذن الوجه الآخر لعملية الحفاظ على سيادة القانون لحفظ تماسك المجتمع وضمان استمرارية الدولة. فهي تتعامل مع تلك الحالة التي لم تحقق هذه العملية أهدافها مما أدى بالدولة إلى التفكك أو الانهيار أو السقوط في تحت وطأة الحكم الديكتاتوري لفترة متطاولة. فتنشأ الصراعات في كثير من اﻷحيان نتيجة إخفاق النظام القانوني للدولة في حماية الحقوق ومعاقبة مرتكبي انتهاكات حقوق اﻹنسان. فالتمييز والفساد وسوء استعمال السلطة من جانب المسؤولين عن إنفاذ القوانين، ومن جانب القوات العسكرية في أحيان كثيرة، تغذي وتفاقم الصراعات وتزيد من صعوبة التوصل إلى مصالحة بعد الصراع4.

وفقاً لما ذكره الأمين العام في تقريره عن بناء السلام في أعقاب انتهاء النزاع، فإن دوافع النزاع كثيراً ما تتعلق بالإفلات المزمن من العقاب وانعدام المساءلة. ومكافحة الإفلات من العقاب ضرورية لاستعادة سيادة القانون أو للمحافظة عليها. وعلاوة على ذلك، فإن الإرهاب يستمر تفاقمه حيثما تستوطن النزاعات وحيثما لا تجري حماية حقوق الإنسان، بما في ذلك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويسود الإفلات من العقاب. وقد ثبت أن إنفاذ القانون وتصدي نظم العدالة الجنائية للإرهاب على نحو يتسم بانتهاك حقوق الإنسان يؤديان إلى عكس النتائج المقصودة منهما.

ويحدث الإفلات من العقاب بسبب إخلال الدول بالتزاماتها في التحقيق في الانتهاكات، واتخاذ التدابير المناسبة إزاء مرتكبي هذه الانتهاكات، ولا سيما في مجال القضاء، من خلال ضمان ملاحقة ومحاكمة اﻷشخاص المشتبه بمسؤوليتهم الجنائية، وفرض عقوبات مناسبة عليهم، وتوفير سبل تظلم فعالة للضحايا وضمان تلقيهم تعويضات عما لحق بهم من ضرر، وضمان الحق غير القابل للتصرف في معرفة الحقيقة المتعلقة بالانتهاكات، واتخاذ خطوات ضرورية أخرى لمنع تجدد وقوع هذه الانتهاكات5.

لذا من الصعب الحديث عن مكافحة اﻹفلات من العقاب وتحقيق العدل دون التركيز والاهتمام بمنظومة العدالة ودورها الجوهري في ملاحقة مرتكبي انتهاكات حقوق اﻹنسان.

أن تقيم من جديدة سيادة القانون وتسوى تجاوزات الماضي، في ظل مؤسسات مدمرة وأمن منقوص ومواردة مستنفذة وسكان منقسمين ومصدومين، هي مهمة ثقيلة تتطلب الاهتمام والتعامل مع انعدام اﻹرادة السياسية للإصلاح، وانعدام الاستقلال المؤسسي داخل قطاع العدالة، وانعدام ثقة الجمهور في الحكومة، وعدم الاحترام الرسمي لحقوق اﻹنسان، كثيرة هي التحديات التي يجب التعامل معها6.

تضطلع عملية العدالة الانتقالية بدورين رئيسيين فيما يتعلق بظاهرة الإفلات من العقاب، فهي أولا معنية برأب الصدع الناشئ عن ممارسات منهجية طويلة للإفلات من العقاب من خلال مبادرات المحاسبة والمصالحة، والتي تتعقب انتهاكات الماضي وتحرص على محاسبة مرتكبيها، وإما عقابهم أو الوصول إلى صيغة للمصالحة يرتضيها ضحاياهم دون ضغوط عليهم، ويرتبط بذلك مبادرات لجبر الضرر الواقع على الضحايا إن أمكن أو تعويضهم عن هذا الضرر. وثانيا يكون على عملية العدالة الانتقالية أن تضمن عدم تجدد الانتهاكات والجرائم وبصفة خاصة ألا تعود ظاهرة الإفلات من العقاب إلى الظهور وترسيخ أقدامها.

ولسد ثغرة اﻹفلات من العقاب سيكون مطلوبا أن تقيم مبادرات المقاضاة علاقات بناءة مع اﻵليات اﻷخرى للعدالة الانتقالية. أن انتهاكات حقوق اﻹنسان على نطاق واسع تتطلب استجابة معقدة ومتكاملة تتألف من مجموعة مختلفة من اﻵليات المتكاملة، منها المقاضاة وآليات البحث عن الحقيقة واﻹصلاحات المؤسسية والتعويضات، وينبغي عند تصميم هذه اﻵليات بذل الجهود للتأكد أن كلا منها يستكمل اﻵخر ولا يقوضه7.

وتختلف تقنيات التحقيق في جرائم النظام عن التقنيات المتعلقة بالجرائم العادية. فأعمال النائب العام عند التحقيق في معظم الجرائم العادية وتقديمها للمحاكمة يمكن تشبيهها بعمل مخرج الفيلم الذي تتألف مهمته من تقديم وصف واضح للطريقة التي حدثت بها واقعة بعينها ويتركز اهتمامه اﻷساسي في وصف تنفيذ فعل إجرامي بعينه. وكلما زاد الوصف وضوحا كان من اﻷسهل على المحكمة أن تحدد المسؤولية. ولكن التحقيق في جرائم النظام يتطلب نهجا يقترب كثيرا من عمل المهندس. فليست المهمة هي مجرد وصف تنفيذ الفعل اﻹجرامي ولكنها توضيح الطريقة التي تعمل بها عناصر الجهاز. ويتطلب التحقيق في جرائم النظام، سواء كان ذلك فيما يتعلق بسلسلة من اﻷفعال اﻹجرامية أو بحادثة وحيدة، بحثا تفصيليا في النظام نفسه، وليس النتائج وحدها، كما يظهر في الجرائم اﻷساسية التي تشكل ما يسمى قاعدة الجريمة (مثل القتل والتعذيب والاغتصاب واﻹبعاد) ومع ذلك لم تنجح سوى قلة من هيئات التحقيق في تطوير التقنيات والموارد اللازمة للتحقيق في جرائم النظام بفعالية8.

على جانب آخر، هناك ضرورة لتحويل المؤسسات العامة التي ساعدت على استمرار الحكم القمعي إلى مؤسسات تحترم وتحمي حقوق اﻹنسان، وتعمل على ترسيخ ثقافة احترام سيادة القانون. فمن خلال إصلاح أو بناء المؤسسات العامة النزيهة ذات الكفاءة، يصبح اﻹصلاح المؤسسي عاملا يساعد على منع تكرار انتهاكات حقوق اﻹنسان في المستقبل. ويعد الاختبار الدقيق للمسئولين الحكوميين، ولا سيما في قطاعي اﻷمن والعدالة، أمرا ذا أهمية حاسمة لتيسير هذا التحول، من خلال عزل الموظفين الحكوميين المسئولين بصفتهم الشخصية عن انتهاكات صارخة لحقوق اﻹنسان من مناصبهم أو الامتناع عن تعيينهم. وقد يشمل ذلك أيضا حل الوحدات العسكرية أو الشرطية أو غير ذلك من الوحدات اﻷمنية التي قد تكون مسئولة بصورة منهجية عن انتهاكات حقوق اﻹنسان. وينبغي ﻹقصاء هؤلاء اﻷشخاص أن يمتثل للإجراءات القانونية الواجبة ولمبدأ عدم التمييز.9

الآليات العامة لمواجهة الإفلات من العقاب

بخلاف الآليات الخاصة بعمليات العدالة الانتقالية التي تطرقنا إليها في القسم السابق فثمة آليات وشروط عامة لمواجهة الإفلات من العقاب، ومن المنطقي أن تكون هذه الآليات هي الوجه الآخر للآليات نشأته. وفيما يتعلق بالحفاظ على سيادة القانون أو استعادتها عندما تتعرض لتآكل واسع النطاق أو منهجي، فإن الآليات الضرورية يمكن تلخيصها فيما يلي:

1 – الإصلاح التشريعي: قبل أي شيء لا بديل عن أن يقوم بالإصلاح التشريعي هيئة منتخبة من خلال عملية انتخابية يتحقق لها الحرية والنزاهة. هذه الهيئة التشريعية سيكون عليها أن تتصدى لعدة أدوار أولها هو تنقية التشريعات القائمة مما به شبهة عدم الدستورية، أو ما يخالف التزامات الدولة وفق المعاهدات والاتفاقات الدولية لحقوق الإنسان، وثانيا لتحقيق الالتزام المشار إليه سيكون على هذه الهيئة التشريعية إضافة مزيد من التشريعات التي تغطي الجرائم والانتهاكات التي لم تكن القوانين ترتب لها عقوبات مناسبة، وسيكون عليها أيضا سن ما يلزم من التشريعات لضمان الرقابة المناسبة لأعمال المؤسسات التنفيذية، وأخيرا أن تضطلع هي نفسها بدورها الرقابي بشكل شمولي ودؤوب.

2 – إصلاح القضاء: وهو يستلزم أولا ضمان الاستقلال التام للقضاء حيث أن أي دور يمكن للسلطة القضائية أدائه لا يمكن له أن يتحقق إن لم يتمتع أفرادها ومؤسساتها بالاستقلال التام عن السلطة التنفيذية والحصانة ضد أية مؤثرات خارجية قد تقوض حيدتهم، بما في ذلك ميول الرأي العام، وضغوط أصحاب النفوذ. ويستلزم إصلاح القضاء أن يكون الوصول إلى مناصبه ذو منهج واضح منفتح وشفاف، ويمنع بصفة خاصة تشكل مصالح فئوية للقضاة وارتباطها بمصالح فئات أخرى من موظفي الدولة أو من غيرهم. الإصلاح القضائي أيضا يستلزم الفصل بين سلطات التحقيق والإدعاء العام، كما يستلزم تعدد درجات التقاضي، ووجود قنوات واضحة وفعالة للتظلم والشكاوى، وآليات للتحقيق والمحاسبة في حال مخالفة القضاة أنفسهم لمقتضيات دورهم الوظيفي.

3 – إصلاح المؤسسات التنفيذية: على عكس مؤسسات السلطة القضائية فينبغي ضمان ألا تتمتع المؤسسات التنفيذية بقدر من الاستقلالية يتخطى ما يستلزمه أداء دورها بشكل فعال. فينبغي أن تخضع المؤسسات التنفيذية لرقابة كل من السلطة النيابية (البرلمان) والسلطة القضائية، وينبغي أن تكون هذه الرقابة من خلال آليات دائمة تضمن ألا تسيئ المؤسسات التنفيذية استخدام ما هو ممنوح لها من سلطات، أو أن تتواني عن محاسبة وعقاب أفرادها حال تجاوزهم للقوانين والقواعد التنظيمية لأداء عملهم.

4 – الإصلاح المجتمعي: المجتمعات التي تمزقها التفاوتات الطبقية والنزاعات الطائفية والعنصرية هي بيئة خصبة لنمو الإفلات من العقاب كما سبق الإشارة في هذه الورقة، ولا شك أن الإصلاح الاجتماعي عملية صعبة وطويلة ولكن تحقق سيادة القانون من خلال الآليات السابقة من شأنه أن يساعد كثيرا على تحجيم آثار الانقسامات الاجتماعية وعلى توجيه المجتمع نحو تجاوزها، ولكن سيادة القانون وحدها لا تكفي، فالإصلاح المجتمعي يتطلب سياسات تعليمية منفتحة على الاختلاف وقبوله، وتفعيل للدور الأهلي وفعاليات المجتمع من خلال مجال عام منفتح يوفر الحماية لحرية العقيد ولحرية الرأي والتعبير.

خاتمة

سعت هذه الورقة إلى تقديم مفهوم الإفلات من العقاب كظاهرة تشكل تهديدا بالغ الخطورة لمبدأ سيادة القانون ومن ثم للسلم الاجتماعي واستقرار المجتمع والدولة، وكذلك كتحد رئيسي لعمليات العدالة الانتقالية التي تسعى إلى استعادة المجتمعات ودولها لمؤسساتها واستقرارها بعد المرور بأزمات نزاع داخلي أو الخضوع لحكم ديكتاتوري لفترة طويلة. واستعرضت الورقة السياقات الاجتماعية والمؤسسية المختلفة التي تسهم في توفير بيئة مناسبة لنشأة الإفلات من العقاب وتمدده وتحوله إلى نمط منهجي وسياسة مؤسسية، كما استعرضت الآليات التي يتفشى من خلالها الإفلات من العقاب مقوضا سيادة القانون. ثم تناولت الورقة التحديات التي يشكلها الإفلات من العقاب المتفشي في الدول التي شهدت نزاعات داخلية أو حكما ديكتاتوريا، لعمليات العدالة الانتقالية، وأوضحت بعض الأدوات التي تعتمد عليها عملية العدالة الانتقالية لمواجهة الإفلات من العقاب، في تجلياته بالماضي، وفي عوامل ظهوره مجددا في المستقبل. وأخيرا تعرضت الورقة بشكل مختصر لآليات عامة لمواجهة الإفلات من العقاب ومنع تفشيه وتمدده وتحوله إلى سياسة منهجية.

في النهاية لا يسعنا إلا التأكيد على أن الوقاية الرئيسية من ظاهرة الإفلات من العقاب هي في إقامة منظومة ديموقراطية سليمة في مجتمع حر يتمتع أفراده بحماية حقوقهم السياسية والمدنية والاقتصادية، ويتعاونون من ثم في تجاوزر الفروق الطبقية والجندرية والطائفية والعرقية فيما بينهم وصولا إلى تحكيم كامل لمبدأ المواطنة والمساواة التامة أمام قوانين تلتزم بمبادئ حقوق الإنسان.

2جلس اﻷمن: تقرير اﻷمين العام سيادة القانون والعدالة الانتقالية في مجتمعات الصراع وما بعد الصراع.صادر في 23 أغسطس 2004. فقرة 8 و 26

3لويز آريون العدالة الاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات التي تمر بمرحلة انتقالية، المحاضرة السنوية الثانية عن العدالة الانتقالية التي استضافها مركز حقوق اﻹنسان والعدالة العالمية التابع لكلية الحقوق في جامعة نيويورك. بالشراكة مع المركز الدولي للعدالة الانتقالية. نيويورك 25 أكتوبر 2006 فقرة 16.

4مفوضية اﻷمم المتحدة لحقوق الإنسان: أدوات سيادة القانون لدول ما بعد الصراع رسم خريطة قطاع العدالة 2006  ص1

5المرجع السابق.

6مجلس اﻷمن: تقرير اﻷمين العام سيادة القانون والعدالة الانتقالية في مجتمعات الصراع وما بعد الصراع. صادر في 23 أغسطس 2004. ص5

7مفوضية اﻷمم المتحدة أدوات سيادة القانون لدول ما بعد الصراع مبادرات المقاضاة، نيويورك وجنيف 2006 ص18.

8المرجع السابق ص 21

9انظر المبدأ 36 ‬ ‫‪،‬E/CN.4/2005/102/Add

محتوى المدونة منشور برخصة المشاع الإبداعي نَسب المُصنَّف 4.0