غزة في مواجهة العالم: الإبادة تُعرّي الشرعية الدولية

Facebook
Twitter

ربما لم يشهد النظام الدولي لحظة سقوط رمزي وفعلي كما يشهدها الآن في غزة. آلاف القتلى من المدنيين، قصف متعمّد للمستشفيات، تجويع ممنهج وتهجير قسري ودمار شامل للبنية التحتية — موثق بالصوت والصورة، دون أن يُقابل بأي فعل ملزم أو حتى تهديد جدي بوقف الجريمة. ليس السؤال عن الانتهاكات فحسب، بل عن معنى القانون نفسه: ماذا يعني أن تُرتكب إبادة جماعية، وتظل المؤسسات التي وُجدت لمنعها مكتوفة أو متواطئة؟1

في غزة لم يعد الانتهاك خرقًا استثنائيًا للقانون، بل إعلان انهيار ممنهج للمنظومة الدولية. فالمحكمة الجنائية الدولية بادرت بطلب أوامر توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ووزير دفاعه غالانت في مايو 2024، لكن الرد الغربي كان دفاعيًا وتخويفيًا: أمريكا وبريطانيا شكّكتا في صلاحية المحاكمات، وهددتا بعرقلة عمل المحكمة2. هذا الانحياز لا يكشف فقط عن فشل مؤسسي، بل عن هشاشة قانونية مؤسّسة على موازين القوة.

ومع أن تقرير المقررة الأممية فرانشيسكا ألبانيز في مارس 2024 أطلق وصف أن هناك أسبابًا معقولة للاعتقاد بارتكاب إبادة جماعية، والوثيقة نُشرت تحت عنوان Anatomy of a Genocide3، لم تُفتح أي تحقيقات ملزمة، ولم تعتمد دولة معيارًا قانونيًا لإحالة الجناة إلى المحاكمة. بل على العكس، الإعلام الغربي عكف على تهميش التوصيف ووصم المقررة بالتحيز.

هذا الانكشاف يتجلّى أيضًا في فشل مجلس الأمن، الذي استخدم الفيتو الأمريكي مرارًا لمنع أي قرار يدين ما يحدث في غزة4، مما يعيد تأكيد أن القانون لا يُطبّق عندما يكون الضحية تقييدًا لمصالح الدول الكبرى.

ما كشفته غزة ليس فقط قصورًا مؤقتًا في الأداء، بل انهيارًا وظيفيًا للمنظومة الدولية، التي صُممت لتكون درعًا ضد الفظائع. منذ تأسيس المحكمة الجنائية الدولية، كان يُفترض أن تصبح محكمة ردعية قوية، لكن طلب إصدار أوامر توقيف بحق نتنياهو وغالانت كشف الحد الفاصل بين النص والواقع. رغم أن غرفة ما قبل المحاكمة بالمحكمة الجنائية رفضت التحديات الإسرائيلية وأصدرت مذكرتي توقيف في نوفمبر 20245، إلا أن رد الفعل الدولي من الولايات المتحدة وبريطانيا بدأ في تغيير المعادلة: ففي حين هددت أمريكا المحكمة بعقوبات6، سحبت بريطانيا طعنها على الشرعية في خطوة رمزية تعبّر عن تسييس مفهوم المحاسبة.

وأضافت ألبانيز في تقريرها أن ما يحدث في غزة يرقى إلى مستوى إبادة جماعية — قتل مدنيين على نطاق واسع، تدمير البنى الاجتماعية، وتجويع ممنهج. لكن بدلاً من أن تُفعّل الآليات القانونية الدولية، واجهت محاولة تصنيف الوضع بالاعتراف بتعالٍ على القانون: الإعلام الغربي وصف التقرير بأنه متحيّز سياسيًا، وتعرضت المقررة لحملة تشويه وتهديد بالعقوبات.

النتيجة أن القانون الدولي ظهر للعالم كأداة لتسجيل النقاط السياسية، لا لمنع الجريمة. وانشغال المجتمع الدولي بتفاصيل مثل من يملك الاختصاصوهل يحق للمحكمة التدخل، كشف أن القانون ليس إلا واجهة رمزية تتراجع أمام مصالح القوى الكبرى، بينما تُنفذ أبشع الإبادات تحت أنظار الجميع.

لكن هذا الانكشاف لم يضرب فقط المنظومة القانونية، بل امتدّ إلى الخطاب الحقوقي ذاته. فالمؤسسات والمنظمات التي طالما اعتُبرت حارسة للمبادئ، باتت في كثير من الأحيان أسيرة للغة بيروقراطية عاجزة، أو لاصطفافات سياسية معلنة أو ضمنية. عبارات مثل القلق البالغودعوة جميع الأطراف إلى ضبط النفسأصبحت تُكرر بنَفَس آلي، حتى في لحظات تُباد فيها أحياء كاملة وتُقصف مخيمات اللاجئين. وكأن الغرض لم يعُد وقف الجريمة، بل إدارة حضورها داخل الفضاء الدولي بأقل تكلفة لغوية ممكنة.

لم تعُد التقارير الحقوقية قادرة على إنتاج فعل، لا لأنها غير دقيقة، بل لأن مكانتها الرمزية تراجعت بفعل تكرارها في سياق لا يُقدّم أي نتيجة. وفي بعض الحالات، أصبح صدور تقرير أو تصريح من منظمة كبرى يُستخدم كدليل على جدية العالم، بينما الواقع لا يتغير. هذه الفجوة بين النص والفعل، بين الإدانة والصمت، حوّلت الخطاب الحقوقي إلى قشرة شكلية، وأفقدته قدرته على التأثير.

بل أكثر من ذلك، في بعض المحافل، أصبح هذا الخطاب يُستخدم لإضفاء مشروعية زائفة على صمت المجتمع الدولي: ما دام التقرير قد صدر، وما دام المقرّر الخاص قد تحدث، فلا بأس أن تُستأنف العلاقات، أو تُواصل صفقات السلاح، أو يُعاد تأهيل الجاني سياسيًا. وهكذا يتحوّل حقوق الإنسان من أداة مقاومة إلى لغة تبرير، ومن صوت للضحايا إلى واجهة ناعمة لمن يُعيدون إنتاج الجريمة باسم الاستقرار.

لم تعد المسألة اليوم في إنكار الجريمة أو إثباتها، بل في الاعتراف بأن الجريمة أصبحت ممكنة لأنها لم تَعُد مكلفة. وأن المطالبة بالعدالة، في ظل انهيار الأدوات التي وُجدت لنصرتها، لم تَعُد تستند إلى ضمان مؤسسي، بل إلى إيمان مُجرّد، هشّ، يتكئ على الذاكرة أكثر من اتكائه على القانون. الإفلات من العقاب في غزة ليس حادثة مؤقتة، بل إعلان انهيار عالمي، أن الحقّ لا يحمي نفسه، وأن النظام الذي بُني تحت شعار لن تتكرر أبدًاصار هو ذاته ما يُديم التكرار.

لكن الانهيار لم يقتصر على أدوات العدالة وحدها، بل امتدّ إلى منظومة حقوق الإنسان نفسها، التي كان يُفترض بها أن تُعبّر عن الضمير الأخلاقي للعالم. لقد تحوّل الخطاب الحقوقي — الذي نشأ تاريخيًا في مواجهة الاستعمار والفاشية والإبادة — إلى لغة إدارية تُدار بها الملفات، وتُكتب بها التقارير، دون أن تُنتج أثرًا فعليًا في بنية القوة. تُركّز المنظمات الكبرى على التوصيات، وتُراكم المؤتمرات، وتُكرر التعابير نفسها منذ عقود، بينما تُباد مدن، وتُستهدف شعوب، دون أن تهتزّ قواعد النظام أو يضطرب مسار التعاون مع الجناة.

في هذا السياق، برزت دعوات متفرقة من الجنوب العالمي لمراجعة المنظومة بأكملها، كان أبرزها في قمة بوغوتا الدولية التي انعقدت في يوليو 2025، ضمن إطار مجموعة لاهاي لحقوق الإنسان، وشاركت فيها نحو ثلاثين دولة. طرحت القمة أسئلة جذرية حول دور القانون الدولي وآليات المساءلة، وأعلنت عن ست خطوات ملموسةلمواجهة الإفلات من العقاب ووقف العدوان على غزة7. لم تكن تلك الدعوة تجميلية أو إصلاحية بالمعنى التقليدي، بل مثّلت اشتباكًا نقديًا مع بنية دولية باتت، في نظر كثيرين، عاجزة عن حماية الشعوب من الإبادة، أو غير راغبة في ذلك.

لكن ما يزيد من قسوة هذه اللحظة أن ما يُرتكب في غزة لا يحدث في فراغ، بل على أنقاض وعود سابقة بالعدالة والضمير الإنساني. لقد تربّت أجيال على وعي متشكك، لكنه ظلّ يرى في المؤسسات الدولية، في القيم المعلنة، في فكرة القانون، حداً ما للانفلات، عتبة لا يجوز السقوط تحتها. حتى في أقصى لحظات الشك، كان هناك اعتقاد أن النظام العالمي، مهما كان جائرًا، لن يعود بالكامل إلى عصور المجازر العارية.

لكن غزة كشفت أن تلك الحدود انهارت، وأن القيم التي بُني عليها النظام الدولي أصبحت مجرد واجهة لفظية، يُسحب منها المعنى متى شاءت القوى المهيمنة. لم يعد القتل يُرتكب رغم القانون، بل باسمه أحيانًا. لم تعد الإبادة تُنكر، بل تُدار ضمن خطاب الدفاع عن النفس“. وبهذا، فإن ما يُولد اليوم ليس مجرد انتهاك جديد، بل نظام عالمي جديد أكثر وحشية ووقاحة، لا يرى في الأطفال الذين يموتون جوعًا إلا تفاصيل في خطاب سياسي محسوب.

إن ما يحدث ليس عودة إلى الماضي الاستعماري، بل استمرار له بصيغة محدثة، محميًّا بتكنولوجيا الرقابة ولغة القانون الزائف. العالم الذي ظننا أنه طوى صفحة المجازر لم يُنهِها، بل أعاد إنتاجها بشروط جديدة، وتحرّر من أي التزام شكلي بالعدالة.

لكن ما لا تقدر الجريمة على فعله هو إلغاء الذاكرة. وإذا كانت العدالة قد أُفرغت من أدواتها المؤسسية، فإن الاحتفاظ بالحقيقة، وتسمية الأشياء كما هي، يصبحان فعلًا ضروريًا، لا كتعويض، بل كمقاومة. في مواجهة عالم يُبرّر الجريمة ويُحوّل القاتل إلى شريك سياسي، يبقى وصف الإبادة بأنها إبادة، والاحتلال بأنه احتلال، فعلًا أخلاقيًا في جوهره، سياسيًا في أثره، وإن لم يحمل في ذاته وعدًا بالعدالة.

ربما يكون علينا أن نكفّ عن انتظار العدالة الدولية في صورتها المؤسسية الكلاسيكية، وأن نعيد التفكير في المعنى، وفي الأدوات، وفي اللغة. لا لنهدم كل شيء، بل لنبدأ من الاعتراف بأن ما سقط لا يمكن استعادته بصيغته القديمة، وأن ما يُبنى من جديد لا بد أن يأتي من هامش العالم، من ضحاياه، من أولئك الذين يعرفون أن القانون وحده لا يكفي، لكنه أيضًا لا يجب أن يتحوّل إلى واجهة تُخفي الإفلات.

الهوامش:

  1. تقرير OHCHR – يونيو 2024، حول الاعتداءات الإسرائيلية على المدنيين والبنية التحتية في غزة:

    https://www.ohchr.org/sites/default/files/documents/countries/opt/20240619-ohchr-thematic-report-indiscrim-disprop-attacks-gaza-oct-dec2023.pdf

  2. تقرير رويترز – 20 مايو 2024:

  3. تقرير Anatomy of a Genocide – فرانشيسكا ألبانيز:

    https://www.un.org/unispal/document/anatomy-of-a-genocide-report-of-the-special-rapporteur-on-the-situation-of-human-rights-in-the-palestinian-territory-occupied-since-1967-to-human-rights-council-advance-unedited-version-a-hrc-55/

  4. بيانات تصويت مجلس الأمن – موثقة على موقع الأمم المتحدة الرسمي:

    https://www.un.org/securitycouncil

  5. بيان المحكمة الجنائية الدولية – 21 نوفمبر 2024:

    https://www.icc-cpi.int/news/situation-state-palestine-icc-pre-trial-chamber-i-rejects-state-israels-challenges

  6. تهديدات أمريكية ضد المحكمة – رويترز:

  7. تغطية قمة بوغوتا – الجزيرة:

    https://www.aljazeera.com/news/2025/7/16/hague-group-announces-steps-to-hold-israel-accountable-in-bogota-summit