لا يمكن الحديث عن القانون دون التوقف أمام الفرضية التي طالما روجت بوصفها مسلمة: أن القانون مرادف للعدالة، وأن احترامه ضمانة للتحضر. لكن هذه المسلمة، حين تنزع من سياقها التاريخي والسياسي، تتحول إلى قناع يخفي كثيرًا من العنف المؤسسي.
حين نتأمل وظيفة القانون في المجتمع، لا ينبغي أن ننخدع بالشكل الظاهري للنصوص القانونية أو باللغة المحايدة التي تبدو وكأنها تنظم الواقع بتجريد عقلاني. فالقانون في جوهره ليس كيانًا منفصلًا عن الصراع، بل أحد تجلياته الأكثر كثافة، أداة تعيد إنتاج موازين القوى وتعيد رسم حدود الممكن والممنوع.
هناك إذًا فرق جوهري بين القانون كمنظومة قواعد، والعدالة كقيمة معيارية. القانون، في ذاته، لا يحمل مضمونا أخلاقيًا إلا بقدر ما يختبر في نتائجه: من يخدم؟ من يستثني؟ من يحمي؟ من يخيف؟ وما الذي يسكت عنه؟ هذه الأسئلة لا تطرح في خطاب الدولة، لأن القانون فيها يعامل كأمر مقدس، لا يجوز نقده أو مساءلته، حتى حين يكون ظالمًا أو تمييزيًا. وهنا بالضبط، يكمن جوهر الأزمة: حين يتحول احترام القانون إلى غاية في ذاته، تفصل عن الغاية التي من أجلها وجد القانون أصلًا، أي حماية الكرامة الإنسانية.
ما يوصف بالحياد القانوني ليس إلا غلافًا لغويًا يخفي قرارات سياسية مموهة بلغة تقنية. فليست كل القوانين عادلة، ولا كل تطبيق لها يضمن إنصافًا. في كثير من الأحيان، يكون القانون هو العائق الرئيسي أمام العدالة، لا بوصفه غائبًا، بل بوصفه حاضرًا بكثافة خانقة، ويستخدم ضد من يفترض أنه وجد لحمايتهم.
القانون لا يصدر في فراغ، بل يكتب تحت تأثير بنية السلطة ويعكس – بوضوح أو مواربة – مصالح الفاعلين الأقوى. كل لحظة تشريعية تخفي تفاوضا غير متكافئ بين من يمتلك أدوات التأثير والمعرفة التقنية ومن يدفع دفعًا إلى الامتثال.
الدولة الحديثة، في نسختها السلطوية، لم تلغ القانون، لكنها أفرغته من قيمته كحاجز أمام تعسف السلطة. واستبدلته بمنظومة من النصوص تكرس الوضع القائم، وتقنن اللاعدالة، وتحجب القمع خلف واجهة من المشروعية الشكلية. فلا جديد في أن تصدر الدولة قانونًا لتنظيم الجمعيات الأهلية ثم تستخدمه لمنع التنظيم، ولا غرابة في أن تعدل قوانين الإعلام ثم تبقي المنابر خاضعة لأجهزتها الأمنية. المدهش فقط هو إصرار الخطاب الرسمي – وبعض النخب أحيانًا – على ترديد عبارة «نحن نحترم القانون»، كأن هذه العبارة بذاتها كافية لنفي الجور أو تبرير التجاوز.
هذه البنية القانونية المشوهة لم تخلق دفعة واحدة، بل تراكمت عبر عقود من التحولات الاقتصادية والسياسية. وقد تراكم هذا الهامش منذ تحولات التسعينيات، حين فرضت مصر أول برنامج للإصلاح الهيكلي برعاية صندوق النقد الدولي عام 1991، ما أدى إلى تقليص دور الدولة الاجتماعي، وخصخصة قطاعات واسعة من الاقتصاد، وخلق تحالف بين جهاز الشرطة ورجال الأعمال داخل الحزب الحاكم. في هذا السياق، ظهرت قوى مدنية ونقابية وإعلامية تحاول الدفاع عن هوامش محدودة داخل نظام اقتصادي-سياسي يعيد رسم قواعد اللعبة لصالح النخبة الجديدة، من دون أن يكسر القبضة الأمنية الصلبة.
ورغم ضيق المساحات المتاحة تاريخيًا أمام الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين في مصر، فقد استطاعت قوى المجتمع المدني، والنقابات المهنية، وبعض وسائل الإعلام، إضافة إلى الحركات الطلابية والاحتجاجية، أن تحافظ على حضور رمزي وفعلي داخل المجال العام. وقد تشكل هذا الحضور تدريجيًا عبر موجات متقطعة من الحراك، اتخذت أشكالًا متفاوتة من الفعل الاحتجاجي والتفاوض السياسي والمناورة الرمزية، مستفيدًا من هوامش استقلال نسبي توفرت أحيانًا للصحافة والقضاء، وإن كانت دومًا محكومة بسقف سياسي وأمني صارم.
بلغ هذا التوازن الهش ذروته خلال أحداث ثورة يناير 2011، حين انفجرت تراكمات كامنة، وأعيد تشكيل المجال العام مؤقتًا بوصفه ساحة للصراع المفتوح بين قوى المجتمع والدولة. لكن هذا الانفتاح لم يدم طويلًا. فبعد 2013، دخلت مصر طورًا جديدًا لم يكن مجرد لحظة قمع طارئة، بل تحولًا بنيويًا في شكل الدولة ووظيفتها، أعاد تعريف العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبين السلطة والمجتمع، على نحو يتجاوز فكرة الضبط السياسي إلى هندسة عميقة للثقافة والقيم والخيال الجمعي.
تحول القمع إلى مكون أصيل في بنية النظام، تعاد عبره صياغة علاقة الدولة بالمجتمع واحتكارها لحق تعريف المباح والممنوع. لم تعد «الشرعية» تستمد من الإرادة الشعبية أو من الدستور، بل من موقع الدولة كضامن للاستقرار وكوكيل للغرب في ملفات الأمن والهجرة ومكافحة الإرهاب.
في هذا السياق، أعادت الدولة ترسيم حدود الفعل الاجتماعي والسياسي عبر منظومة تشريعية هجومية شملت قوانين مثل قانون الجمعيات الأهلية، قانون مكافحة الإرهاب، وقانون الجريمة الإلكترونية. هذه القوانين لم تصمم لمواجهة أفعال جرمية بالمعنى القانوني، بل لتأطير ما يعد سلوكا اجتماعيًا وسياسيًا «مشروعًا» وفق منطق الدولة المسيطرة. فالمواطن المنضبط لم يعد هو من يلتزم بالقانون فحسب، بل من يتماهى سلوكيًا ورمزيًا مع خطاب الدولة ويعيد إنتاجه كجزء من وعيه اليومي.
بموازاة التشريع، ظهرت ممارسات غير قانونية لكنها ممنهجة شكلت نواة لما يمكن تسميته «البنية القمعية المؤسسية»، وعلى رأسها الحبس الاحتياطي المطول والتدوير الأمني. فالحبس الاحتياطي لم يعد إجراءً احترازيًا مؤقتًا، بل أداة عقابية بحكم الأمر الواقع، تستخدم في قضايا الرأي والتعبير بشكل ممنهج. في حالات مثل محمد أكسجين أو علا القرضاوي، استخدم هذا النمط من الاحتجاز بشكل متكرر من دون محاكمات فعلية، ما يدل على أن القضاء لم يعد ضمانة للعدالة، بل ذراعًا من أذرع السيطرة.
أما التدوير الأمني فيستخدم كآلية لإعادة إدخال المعتقلين في قضايا جديدة فور صدور قرارات بإخلاء سبيلهم، في انتهاك مباشر لمبدأ «عدم جواز محاكمة الشخص على الجرم ذاته مرتين». هذا التلاعب القانوني يكشف طبيعة العلاقة البنيوية بين السلطة القضائية والأمنية، حيث لم تكن النيابة العامة – في بنيتها ووظيفتها – جهازًا مستقلا، بل كانت دومًا جزءًا من منظومة الضبط والسيطرة، وقد ازدادت تبعيتها للسلطة التنفيذية رسوخًا بعد التعديلات الدستورية الأخيرة.
ولا يستثنى من ذلك ما يطرح حاليًا من تعديل قانون الإيجار القديم، الذي يعيد ترتيب العلاقة بين المالك والمستأجر في غياب أي نقاش مجتمعي حقيقي، ويهدد بتفكيك حق السكن لمن لا يملكون بديلًا، عبر فرض منطق السوق باعتباره المعيار الوحيد للعلاقة بين المواطن والدولة. فبدلًا من ضمان السكن كحق، يجري تحويله إلى سلعة، يُعاد توزيعها وفق ميزان القوة والملكية، لا وفق منطق العدالة أو معيار الحاجة.
هذا التحكم لم يبق سياسيًا أو أمنيًا فقط، بل امتد إلى ما يمكن تسميته «الضبط الأخلاقي»، حيث تقحم الدولة القانون في الحياة الخاصة تحت ذريعة «حماية القيم». أبرز الأمثلة على ذلك قضايا «فتيات التيك توك» مثل حنين حسام ومودة الأدهم، حيث أُدينت المتهمات بتهم مطاطة مثل «خدش الحياء» أو «انتهاك القيم الأسرية». القانون هنا لا يعمل كأداة للعدالة، بل كوسيلة لإعادة إنتاج تصور الدولة عن الأخلاق والشرعية.
وفي الإطار ذاته، استخدمت تهم «ازدراء الأديان» لمعاقبة من يعبر عن معتقد ديني غير تقليدي أو ينتمي إلى طائفة غير معترف بها، حين تحتكر الدولة المعنى الديني وتعيد إنتاجه كمكون من مكونات الشرعية السياسية. هذه الهيمنة لا تفرض فقط رؤية السلطة، بل تهمش إمكانية التفكير في بدائل معرفية أو أخلاقية مستقلة.
في هذا السياق المعقد، لا يمكن تجاهل التحولات التي طرأت على بنية القضاء ذاته. فمع الوقت، فقدت المحاكم دورها بوصفها ضامنًا لحقوق الأفراد، وتحولت إلى واجهة قانونية لإدارة الاستثناء. التعديلات الدستورية والتشريعية التي أدخلت بعد 2013 قلصت من استقلال القضاء، وأعادت تشكيله وظيفيًا كي يعمل كذراع قانونية تخضع العدالة لمعادلات السلطة، لا لمعايير الإنصاف والاستقلال. هذا التحول يطرح سؤالًا جوهريًا: إذا كانت السلطة التشريعية محكومة، والقضاء مقيد، والمجتمع المدني محاصر، فما الذي يتبقى من مفهوم «التوازن بين السلطات» أصلًا؟
وعلى المستوى الدولي، تتبدى مفارقة لا تقل خطورة. إذ في الوقت الذي تتسارع فيه وتيرة الانتهاكات، لا تواجه هذه الممارسات السلطوية أي إدانة حقيقية من شركاء مصر الدوليين. بل على العكس، تتدفق المساعدات، وتبرم الاتفاقيات، ويقدم النظام في المحافل الدولية بوصفه نموذجًا للاستقرار ومكافحة الإرهاب. هذا القبول الضمني – أو الصمت المتواطئ – يعيد تعريف الشرعية الدولية نفسها: لم تعد تقاس باحترام الحقوق والحريات، بل بمدى التزام الدولة بوظائفها في حماية المصالح الغربية وضبط الهجرة واحتواء الحراك الاجتماعي.
إن أخطر ما في هذه العلاقة أنها تفرغ الخطاب الحقوقي الدولي من مضمونه، وتحوله إلى أداة انتقائية تستخدم حين تناسب السياق وتهمل حين تعرقل المصالح. وهنا تمنح الدولة السلطوية «شرعية بديلة» لا تأتي من الشعب أو من القانون، بل من قدرتها على فرض الاستقرار بالقوة، ومن موقعها الوظيفي في ترتيبات الهيمنة الدولية الراهنة.
لا يدعي هذا النص امتلاك الإجابة، لكنه يحاول استعادة الأسئلة التي جرى طمسها عمدًا: من يكتب القانون؟ ولصالح من ينفذ؟ وما الذي يخفى خلف ستار الشرعية الشكلية؟
في زمن يتحول فيه النص القانوني إلى أداة لإخماد الصوت، لا وسيلة لتحقيق الإنصاف، يصبح استدعاء المعنى نفسه شكلًا من أشكال المقاومة.
ومقاومة النسيان، وتأريخ ما جرى باسم القانون، قد تكون الخطوة الأولى نحو استعادة العدالة — لا بوصفها امتثالًا، بل باعتبارها حقًا مسلوبًا لا يُستعاد إلا بوعي ومساءلة مستمرة.
28 مايو 2025