حين يكون القمع قانونا، يبدو الدفاع عن حرية التعبير مهمة واضحة: ثمة سلطة تضع حدودا، ونصوص تستخدم لمعاقبة أصحاب الرأي، وأجهزة تترجم الكلام إلى تهم. لكن الصورة لا تكون دائما بهذه البساطة. فثمة منع لا يأتي من نص، بل من عرف. وثمة رقابة لا تحتاج إلى قرار، بل تكتفي بامتعاض معلن، أو غضب جماعي يعلن نفسه كسلطة بديلة. حين يتحول التعبير إلى سلوك يحاكمه الشعور العام، لا نص القانون، نكون بصدد مشهد مختلف: لا يوجد نص يدين، ولا جهة تصدر حكما، لكن ثمة إقصاء فعلي يحدث، وضغط معنوي يمارس، ومنع يتأسس لا من موقع سلطة، بل من موقع جمعي يدعي تمثيل الأخلاق أو الصالح العام أو الهوية.
هذه اللحظة، التي يتداخل فيها القانوني مع العرفي، والرسمي مع الاجتماعي، هي ما يسعى هذا النص إلى تفكيكه. ليس لأن الرقابة المجتمعية أخطر من الدولة، بل لأنها قد تصبح ذراعا لها، ومقدمة تمهد لتدخلها. وليس لأنها سلطة كاملة، بل لأنها تمارس سلطتها من موقع الضحية، لا القامع، فتبدو أكثر قبولا، وأكثر قدرة على حشد التعاطف.
الغاية من هذا النص ليست الموازنة بين قمعين، بل النظر إلى كيف يصنعان معا بنية المنع. كيف يبدأ الحظر بإدانة معنوية، ويتحول لاحقا إلى إجراء رسمي. وكيف تستخدم اللغة الأخلاقية كتمهيد للغة العقوبة.
قد يكون من السهل تبني موقف دفاعي عن حرية التعبير عندما يكون الخطر ظاهرا، مباشرا، وقادما من الدولة: نص قانوني فضفاض، تحقيق في النيابة، أو حبس احتياطي بسبب رأي. في مثل هذه الحالات، تتضح ملامح القمع، ويصير من الممكن مواجهته أو فضحه. لكن ماذا يحدث عندما لا يصادر الكلام بقرار رسمي، بل يخنق بتوافق اجتماعي غير معلن؟ عندما لا يكون هناك قانون، لكن هناك جمهور غاضب؟ وعندما لا تكون الرقابة ممارسة بيروقراطية، بل شعورا عاما يرى في بعض الأفكار تهديدا للانسجام، أو مسا بالمشاعر الجمعية، أو تجاوزا لما يفترض أنه إجماع أخلاقي.
هذا النص لا ينطلق من موقع الدفاع عن حرية التعبير في وجه الدولة فحسب، بل يحاول الاشتباك مع مشهد أكثر تعقيدا، تتقاطع فيه السلطة القانونية مع منطق التقييد الاجتماعي، وتتماهى فيه أحيانا دوافع القمع الرسمي مع نزعات الإقصاء الشعبي. فبدلا من أن ينحصر التهديد في أدوات الدولة، صار التعبير مهددا بمحاكمات معنوية، وإدانات علنية، وضغوط جماعية تطالب بالصمت، لا لأنها تملك القانون، بل لأنها تدعي تمثيل الصالح العام.
لكن التوسع في نقد هذه الظواهر لا ينبغي أن يغفل الحقيقة الأهم: أن القيود القانونية، والملاحقات الرسمية، لا تزال هي الخطر الأعمق، والأكثر استدامة، والأشد قدرة على إسكات الكلام. فالغضب المجتمعي قد يدفع كاتبا لتعديل نبرته، لكن الخوف من النيابة يدفعه إلى الصمت التام. والتشهير قد يعزل صاحب الرأي عن فئة من جمهوره، لكن الحبس يعزله عن العالم. ما أحاول قوله ليس المفاضلة بين نوعين من المنع، بل الكشف عن تواطؤهما. فالقمع القانوني كثيرا ما يبدأ بتحريض علني: تغريدة، حملة تشهير، أو بلاغ يصاغ باسم مشاعر الجماعة قد يكون هو الشرارة التي تستخدم لاحقا لتبرير تدخل الدولة.
لهذا، فإن نقد الرقابة الاجتماعية لا يعني أبدا تبرئة الدولة، بل بالعكس، هو محاولة لرؤية البنية كاملة: من يحرك المنع؟ ومن يستفيد منه؟ ومن يسلحه بالقانون؟ بهذا المنظور، يصبح الدفاع عن حرية التعبير غير مكتمل ما لم يشتبك مع كل أشكال القيد: الرسمية وغير الرسمية، العنيفة والناعمة، القانونية والعرفية.
الرقابة الاجتماعية امتداد ثقافي لا سلطة بديلة
ليست الرقابة الاجتماعية ظاهرة طارئة في السياق المصري، بل هي امتداد طويل في الثقافة السياسية والاجتماعية، تعود جذورها إلى بنيات الأسرة، والتعليم، والدين، والسلطة الأبوية. لعقود، لم ينظر إلى التعبير كحق فردي، بل كوظيفة تخضع لتقييم الجماعة: ما يقال، ولمن، وفي أي توقيت. كان العيب أسبق من القانون، والناس هتقول إيه أكثر تأثيرا من النصوص القانونية.
لكن من المهم التمييز بين النقد المجتمعي المشروع وبين الدعوات لإسكات الصوت. فليس كل رفض شعبي لفكرة ما هو بالضرورة ممارسة قمعية، كما أن الغضب العام قد يكون أحيانًا تعبيرًا عن معاناة حقيقية أو مطالب مشروعة. الاعتراض المجتمعي جزء من حرية التعبير ذاته، ويصير خطرًا فقط عندما يتحول من رفض إلى مطالبة بالعقاب، أو من نقاش إلى تهديد. هنا، لا يصبح الصوت الجماعي ردًّا على خطاب، بل أداة لإسكاته.
في هذا الإطار، لم تكن الرقابة تمارس كقمع صريح، بل تدرس كحكمة، وتقدم كأداة لصيانة الانضباط الاجتماعي. لكنها كانت فعالة، لا تحتاج إلى قوانين بل تتغذى على التوقعات الجمعية. ومع صعود وسائل التواصل الاجتماعي، خرجت هذه الرقابة من نطاقها الخاص لتتحول إلى أداء علني، يمارس في المجال الرقمي لا في الأسرة أو المدرسة فقط.
الرقابة لم تعد صامتة ولا ضمنية، بل صارت تعلن نفسها: حملات منظمة، دعوات للمقاطعة، مطالب بإلغاء فعاليات أو تدخلات مؤسسية. ما يلفت أن هذه الرقابة لا تعتمد على سلطة الدولة، بل تفرض نفسها باعتبارها تمثل الرأي العام، وتنتج سلطة جديدة لا تحتاج إلى قانون.
ليس المقصود منع الناس من التعبير عن استيائهم أو نقدهم. فحرية التعبير لا تكتمل إلا بحرية الرد. لكن القلق يبدأ حين يتحول هذا الاستياء إلى مطالبة بالصمت، أو حملة لإلغاء الرأي، أو ضغط يقدم كصوت أخلاقي يطالب بعقوبة. هنا ينقلب النقاش إلى حظر، والاختلاف إلى إقصاء.
وهذا المسار، وإن بدا ديمقراطيا، يحمل خطرا بنيويا: أنه يضفي شرعية على منع التعبير من خارج القانون، وينتج منطق السيطرة من خلال حساسيات غير مستقرة.
من المسؤول ومن يحدد الضرر
الرقابة المجتمعية ليست بديلا عن الدولة، بل غالبا ما تسبق تدخلها. فالتحريض الجماعي، إن ترك دون مراجعة، يتحول إلى أداة تعبئة للمؤسسات القانونية، أو يستخدم لتبرير قرارات إدارية أو تدخلات أمنية.
النمط يتكرر: تعبير فردي، يليه غضب جماهيري، ثم بلاغ يدعي تمثيل الصالح العام، يربطه بالإخلال بالنظام أو القيم. من هنا تبدأ الترجمة القانونية للغضب الشعبي. هذا ليس تتابعا عفويا، بل تعبير عن علاقة مركبة: الجماعة تبرر تدخل الدولة، والدولة تكرس ما تريده الجماعة.
وهنا يظهر سؤال جوهري: من يملك تعريف الضرر؟ فالمنع يبرر دائما بأن ثمة ضررا، لكن هذا الضرر قلما يعرف بدقة، وغالبا يبنى على انزعاج لا على فعل محدد. بهذا المنطق، تصبح حرية التعبير رهينة شعور عام، ويتحول الضيق إلى ذريعة لإجراء رسمي.
النتيجة أن كل ما هو مختلف قد يعتبر جارحا، فقط لأنه غير مألوف. هذه المفارقة تجعل من خطاب حماية الفئات أداة ضدها. فالمعايير الفضفاضة تستخدم ضد النساء، الأقليات، والمهمشين.
أمام هذا الواقع، لا يكون الرد بالمنع، بل بالنقاش. فمواجهة الخطاب المهين بالكلام لا بالعقوبة هي الشكل الأعمق للمقاومة. لا لأن العقوبة مرفوضة مطلقا، بل لأنها لا ينبغي أن تكون الخيار الأول. قوة المجتمع في قدرته على الجدل، لا في طلب الصمت.
معركة حرية التعبير اليوم لا تخاض فقط ضد الدولة، بل أيضا ضد المجتمع حين يطالب بالعقوبة بدلا من المواجهة. الدولة تملك أدوات القمع، لكنها ليست وحدها. الرقابة حين تصدر من الدولة تمارس باسم القانون، وحين تصدر من المجتمع تمارس باسم الأخلاق أو الهوية، والنتيجة واحدة: تقليص المساحة العامة، وتهميش المختلف، وصناعة الخوف.
ما تحتاجه حرية التعبير ليس فقط قوانين عادلة، بل ثقافة تقبل التعدد، وتفرق بين الإهانة والنقد، التحريض والجدل، بين ما يستحق الرد وما لا يستحق العقاب.
لا حل سهل ولا قاعدة مطلقة، لكن يمكن الاتفاق على أن المنع يجب أن يكون آخر الأدوات، لا أولها. وأن الديمقراطية لا تقاس فقط بحرية الانتخابات، بل بحرية الناس في الكلام، الخطأ، والنقاش دون إقصاء.
فالكلام، مهما كان خطره، يظل أقل خطرا من المنع. لأن المنع لا يخرس الصوت فقط، بل يزرع الخوف في من لم يتكلم بعد.